إن الناظر الى خريطة مصر في القرن التاسع عشر يعجب كيف تسنى للسياسة المصرية آنذاك أن تضطر الى الانحسار المستمر عن مواقع نفوذها التي بلغت في وقت ما بحيرة فكتوريا في وسط افريقيا. ولئن كانت السياسة المصرية في الربع الثالث من القرن التاسع عشر مشغولة بأمر سداد الديون الأوروبية الباهظة وبالأطماع الاستعمارية التي تجسدت بعد ثورة عرابي ثم احتلال مصر في 1882 فإن السياسة البريطانية لم تكن غافلة بل استخدمت معطياتها بذكاء لتحقيق أهدافها. لكن جنوب السودان لم يقتطع كما اقتطعت الأرض الواقعة جنوبه، بل أبقت عليه بريطانيا سداً مادياً وحاجزاً معنوياً. وبعد أن أجلت الجيش المصري عن السودان في عام 1924 تفرغت بريطانياللجنوب فأخذت تشكل مستقبله في هدوء دون أن يعكر صفو تفكيرها أحد فأصدرت في عام 1928م، أي بعد أربع سنوات فقط من جلاء القوات المصرية، قانوناً للمناطق المقفولة هو آية في المكر الاستعماري والحرب الثقافية الصريحة. بمقتضى ذلك القانون، الذي كان من عبقريته منع الأسماء والألبسة والثقافة العربية، اصطنعت بريطانيا واقعاً جديداً قوامه الموحد ثقافة قائمة على الريبة والعداء. ويتواصل السعي اليوم لأن يبقى الجنوب جرحاً نازفاً، أو أن ينفصل ليشكل كياناً جديداً، أو أن يقبل السودان أن يتحول تحولاً جذرياً الى حليف موثوق به يوفر موقعاً استراتيجياً يوظف لانتصار القوى المعادية انتصاراً نهائياً على خصومها الحقيقيين الى الشمال منه. كان مفهوماً ومتوقعاً إذاً، أن تحتفظ إسرائيل بسياسات التفاف متعددة، من بينها سياسة افريقية" لكن ما يهم هنا هو أنها تبنت "سياسة سودانية" فاعلة ومتجددة تراوحت حسب الظرف بين ما يمكن تسميته بالاستمالة والمدافعة: الاستمالة مثلتها المحاولات الإسرائيلية للاتصال بالقيادات السودانية منذ استقلال البلاد في عام 1956. وهي محاولات وإن لم ترق الى مستوى المحاولات الإسرائيلية مع القيادات العربية الأخرى، قبيل وبعد قيام الدولة الصهيونية في عام 1948، إلا أنها مثبتة ومعلومة، وقد هدفت الى اقتناص فرصة قد تسنح بمجيء نظام مستعد لتطوير تلك العلاقة على حساب التزاماته العربية. لكن ذلك لم يحدث، لذلك نشأت ضرورة اتباع السياسة الأخرى أيضاً وهي سياسة المدافعة. وقد تمثلت تلك في التورط الإسرائيلي البالغ في حرب الجنوب بتأهيل القيادات العسكرية المتمردة وبدعمها المباشر وغير المباشر بالسلاح والعتاد، وأحياناً بالاتصالات السياسية في أوروبا وأميركا كما شاهدناه يحدث أخيراً بترويج قائد حركة التمرد في البرلمانات الأوروبية وفي الكونغرس الأميركي. كان ذلك ضرورياً ومتوقعاً لأن رفض السودان أكل الجزرة استوجب ضربه بالعصا ليبقى معطلاً عن المساهمة الفاعلة في أي نشاط عربي مشترك. لكن السودان قاوم ذلك مقاومة ضروساً: أولاً لم يثبت أن أحداً من القيادات السودانية في الفترات السياسية المختلفة استجاب استجابة فعلية لسياسة الاستمالة الإسرائيلية" وثانياً لم تمنع الضربات الموجعة التي ظل يتلقاها من جنوبه مساهماته الفاعلة في جهود المقاومة ضد الاعتداءات الإسرائيلية على العرب. لقب تطوع السودانيون في حرب 1948، حتى قبل نيلهم الاستقلال لمقاومة إنشاء الدولة الصهيونية، ثم ساندوا أشقاءهم بعد ذلك في معارك أعوام 56 و67 و1973 دونما اعتبار لفلسفة تقديم المصالح الوطنية الخاصة على المصالح الجماعية لأمة ما. لقد برهنت تلك المواقف على روح قومي متجرد لم يكن يعبأ بالعواقب والضرائب السياسية. لم يكن ذلك نهج حكومات فحسب وإنما موقف متكامل استقام عليه مجتمع يتحرك بضمير حي ووجدان يقظ وهو ما يفسر ديمومة ذلك الموقف وحيويته عبر الظروف التاريخية المتباينة. ثم انجلت حرب 1973 عن مضمار جديد اندفعت نحوه العلاقة العربية - الإسرائيلية كما تندفع مياه النهر عندما يشرع مجرى جديداً مخلفاً المجرى القديم لتطمره الرياح السوافي. كان الفارس الأوحد في ذلك المضمار، في ما يبدو لغير المتأمل، هو الرئيس أنور السادات. لكن النظر الأعمق لا شك سيقودنا الى أن اشتراع ذلك الطريق الجديد لم يكن من فعل رجل واحد مهما كانت مواهبه الشخصية وقناعاته. إن ما جرى كان تعبيراً عن شيئين رئيسيين حدثا لدى قطاع من النخبة العربية: الأول شك مخالج في جدوى الأطروحات القومية التي ازدهرت في تلك الفترة، بل في مشروعيتها" والثاني موجة نفوذ ثقافي غربي من جراء ثورة التقانة والاتصالات هتكت أستار الشمولية الواقية. تلك الحالة أشبهت ما تلى حملة نابليون على مصر وافتتان النخبة، على قلتها آنذاك في مصر والشام ثم المغرب العربي، بالثقافة الفرنسية الأوروبية. هذه التغيرات الجذرية في القاعدة الثقافية للمجتمع اضطردت خصوصاً في المجتمعات العربية الأكثر تمديناً وتصنيعاً. هذا لا ينفي بالطبع أهمية أحداث سياسية معينة في تزيين فكرة الاعتراف بإسرائيل التي كانت محرمة قبل ذلك في تقاليد المجتمعات العربية. لقد ساهمت مثلاً حربا الخليج الأولى والثانية في تسويغ الفكرة: الحرب الأولى رجحت لقطاع واسع من العرب أن إيران هي عدو رئيسي ينبغي الانتباه له، ثم تطور ذلك التفكير فجعل إيران العدو الرئيسي، بالتعريف" أما الحرب الثانية فقد تصوب أثرها الى تمزيق غلالات الإخاء المتبقية وقطع أطناب الستر ليوسع العرب بعضهم بعضاً سباباً وفجوراً. وكما فعلت الحرب الأولى عززت الحرب الثانية القناعة أن العدو الحقيقي ليس سوى بعض المنتسبين الى الصف العربي وأن إسرائيل حقيقة واقعة لا يحسن التعامل معها فحسب، ولكن يمكن أن يطور التعاون معها الى منفعة مشتركة وفق صيغة شرق أوسطية، مثلاً، كما نظر لها رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق شيمون بيريز. بيد أن هاتين الحربين لم تكونا لتحدثا آثارهما الزلزالية لو لم يمهد لهما ذلك التطور الموصوف في البنية الثقافية العربية. ذكرت أن التحول نحو قبل إسرائيل كان أسرع الى المجتمعات العربية المتمدينة والمصنعة ولهذا لم يتسلل لقناعات الأنظمة السودانية التي كانت تعبر عن التيار الرئيسي ذي الميول الإسلامية العربية. وبما أن السودان، الأقرب الى البداوة، نصف مصنع ونصف متمدين - التمدين والتصنيع هنا ليسا قيمة موجبة ولا سالبة بل محض قيمة محايدة تتخذ معيارها من مقدار الحداثة العمرانية والتقنية - فقد ظل الوجدان السوداني بعيداً من مفردات الحضارة الغربية الحديثة وبعيداً أيضاً عن قبول فكرة الاعتراف والتطبيع مع وكيلتها في المنطقة. من ناحية ثانية، فإن العروبية والإسلامية ظلا مبدأين متلازمين في ثقافة التيار الرئيسي بصورة لا نجد لها مثيلاً إلا في البلاد التخومية مثل تشادوموريتانيا. ذلك ىعني أن التيارات العربية والإسلامية لم تتصادم في المعترك السياسي في السودان كما فعلت في مصر والشام والعراق. العروبية في الشام والعراق إنما قامت رداً على ما حسب أنه قومية طورانية تلبست بلباس الإسلام حيناً إبان الامبراطورية العثمانية وبلباس القومية العرقية حيناً آخر بعد مجيء أتاتورك. وفي سياق التمرد على الهيمنة العثمانية أو الطورانية نشأت ايديولوجية قومية عربية حملت في ثناياها عناصر الشك والمصادمة مع النزعات الإسلامية، لأنها بدت مرتبطة بالتراث العثماني وأيضاً لأنها حسبت ردة في وجه الاندفاع نحو الحداثة الذي ميز المجتمعات العربية الشامية والعراقية بعد الحربين العالميتين. صحيح أنه في مصر لم تقع ذات الدواعي للصدام بين التيارين لأن العقدة العثمانية بصورتها الموجودة في الشام مثلاً قد انتفت، بل إن مصر تقدمت على تركيا العثمانية في توجهها نحو الحداثة والتطور التقني على النمط الأوروبي بأكثر من مئة عام. قارن نهضة مصر الحديثة على يد محمد علي باشا ابتداء من 1805 وتحول تركيا الى الحداثة العلمانية ابتداء من 1914. ثم إن مصر ما كانت لتعترف لأي كيان آخر بالمزايدة عليها في قضية التوجه الإسلامي بما لها من مؤسسات راسخة كالأزهر وبما لها من تاريخ في مصادمة الحملات الصليبية والتتار من قبلهم. لكن الصدام بين التيارين السياسيين حدث إبان الفترة الناصرية نتيجة حتمية للاحتكاك المتولد من الصراع على الحركة الجماهيرية بين العروبيين والإسلاميين. واستمر هذا الصدام يرتخي ويشتد من ذلك الوقت الى زماننا الحاضر. لكن المد العربي والإسلامي في السودان وأظنه كذلك في موريتانياوتشاد مر بظروف مختلفة للغاية. فلئن كانت التطورت في البلاد العربية التي ذكرتها اندفعت باتجاه تأكيد الصدام بين المدين، فإن مسيرة العروبة والإسلام في السودان وثقت التحالف بينهما. هكذا ساد الإسلام في السودان في بواكير القرن السادس عشر الميلادي بتحالف عربي قاده عبدالله جماع من قبائل القواسمة مع قائد زنجي مسلم هو عمارة دنقس. ثم اضطردت دعوة الإسلام يدفعها نجاح فريد سببه أنها كانت وما زالت حركة اجتماعية طورت مؤسساتها الطوعية والخيرية حتى تمكنت من خناق الوجدان القومي تماماً. وحتى هذه اللحظة يظل الحلف بين الثقافة العربية والإسلام متماسكاً باعتبار أن كل واحد منهما مدخل للآخر. وقد تطور هذا الى أكثر من علاقة استلطاف في الحركة السياسية الحديثة، وهو الشيء الذي يباين النتائج التي توصلت اليها المجتمعات العربية المشرقية خصوصاً. ولذلك فإن التعبير بالإسلام في السودان يساء فهمه تماماً إذا رؤى في غير سياق تأكيد الهوية في وجه التيارات المعادية أو الهجمة الثقافية الغربية. كان هذا الاستطراد مهماً لإثبات التلاحم بين العروبة والإسلام في ثقافة المجتمع وفي تيارات السياسة لتعليل الموقف السوداني من مسألة التعامل مع إسرائيل والغرب عموماً. هذا الاعتبار هو الأهم في نظري من الاعتبار الآخر وهو مقدار التمدين وبالتالي الاستعداد لتقبل مسلمات الغرب الحديثة، لأن هذا الأخير عرضة للتحول والتبدل في مدى زمني محدود. أما الاعتبار الأهم، وهو تمكن القناعات الثقافية القومية والإسلامية وتحالفهما، فإنه هو الذي استطاع أن يمنع من الانجراف نحو اتجاه مصلحي منفلت من الموقف المذهبي. بينما يمكن التنبؤ أنه في مجتمعات أخرى، أو في المجتمع السوداني نفسه إذا حدثت فيه تحولات كبرى، فإن أي ضمور في هذا الالتزام سيقوي الحس الوطني الشوفيني القائم على اعتبارات المصلحة الوطنية الأنانية ويطلقه تماماً من الكوابح الثقافية. ويمكن أن نلاحظ أن هذا هو ما تلاحق من تطورات على الصعيد العربي أفضت بالقوى السياسية العربية الرئيسية الى انسحاب غير منظم من مواقفها السياسية المتقدمة، أحياناً من دون مقابل معقول أو ضرورة غلابة. ولكن هل واكب ذلك مثله من التحول الجذري في موقف إسرائيل من مشروعها الأساسي؟ الحقائق تجيب بالنفي: أولاً لأن إسرائيل دولة يقودها مجتمعها بخلاف الدول العربية التي تقود مجتمعاتها. والمجتمع الإسرائيلي ليس هو فقط ذلك الخليط السكاني المحصور في الأرض المحتلة من فلسطين. إنه مجتمع ممتد ومتشابك ومتناصر بمنظمة رهيبة من العلاقات والروابط والاتفاقيات المهجورة والمهموسة والصامتة. منظومة لا يضعفها بعد المسافات ولا اختلاف السحنات واللغات، بل توحدها رؤية توراتية ثورية، لا فارق في ذلك بين المتدين المتشدد والعلماني الجاحد. هذا يفسر أن بيريز عندما قصد الى ترويج كتابه "الشرق الأوسط الجديد" للمجتمع الإسرائيلي المسير بنبوءات التوارة والتلمود، لم يعلن تخليه عن فكرة الدولة الممتدة من الفرات الى النيل لكنه بشر أن تلك الدولة، بل ما هو أوسع من تلك الدولة، يمكن تحقيقه بمشروع اقتصادي تمثل إسرائيل مركزه النشط. إذاً الأهداف واحدة والرؤية القدسية هي نفسها وحتميات التاريخ لم تتبدل. لم تتبدل سوى الوسائل لتحقيقها. إن إسرائيل على رغم انطوائها على شعب شرقي الأصول لكنها خرجت من رحم الحضارة الغربية. والغرب لا يتنازل في النظر إليها وفق ذلك المفهوم، وهي نفسها لا تعرف نفسها إلا وفقه. لذلك فإنه مهما زالت الحواجز النفسية وقامت الجسور الاقتصادية والاجتماعية بينه وبين الدول العربية ستظل تتحسس رأسها وهي تمشي بين العرب. ولن يتعب المراقب اللماح كي يتوصل الى هذه الحقيقة التي تكاد تصدمك بشخوصها وبيانها. ولعله من السخرية الدالة على صدق تلك الحقيقة أن القرارات الإسرائيلية ما تنفك تتتابع بإقامة الحواجز المادية والإجرائية بين المجتمع الإسرائيلي والمحيط العربي من حوله، في ذات الوقت الذي راجت فيه نظرية بيريز عن الشرق الأوسط الجديد، وهي نظرية تقوم فكرتها المركزية على التطبيع وإزالة الحواجز المادية والإجرائية حتى يندمج المجتمع الإسرائيلي في المحيط العربي من حوله ويصبح بالنسبة له كالقلب المحرك للبدن. هكذا سرعان ما تعود إسرائيل الى غرائزها التي تنسجم معها تماماً كما ينكمش النابض بعد مطه ويعود الى وضعه الطبيعي المريح حسب نواميس الفيزياء. وإذا كانت تلك هي النظرة الحقيقية للمجتمع الإسرائيلي الى الشعوب العربية قاطبة فلا شك في أن نظرتها الى بلد كمصر أشد ريبة ومحاذرة. لأن المجتمع المصري هو أكثر المجتمعات العربية تماسكاً وأقلها من حيث التحديات الداخلية والتنوع الموهن وأقواها تواتراً تاريخياً ومقدرات بشرية واقتصادية وعسكرية. ولذلك ستظل مصر هي الخصم الحضاري الرئيسي والعقبة الأساسية أمام النبوءات الإسرائيلية. العامل الأخير المحدد لعلاقة اسرائيل مع العديد من الدول العربية ومع مصر على وجه الخصوص هو عامل الجوار السياسي العامل الجيوبوليتيكي. إن العلاقة بين مصر ومنطقة الشام وبلاد ما بين النهرين العراق منذ أربعة آلاف سنة من التاريخ المرصود انتظمت على إيقاع خاص هو إيقاع الأرض والجوار المتميز. وفق ذلك الإيقاع ظلت مصر تنزع الى الاتحاد مع منطقة الشام، حرباً أو سلماً، نزوعاً رتيباً متحدداً متكرراً لا تكاد تتغير وتيرته، وأحياناً قليلة كانت الشام أو بلاد ما بين النهرين ترد التحية بمثلها. هكذا جاء الهكسوس - أجداد الفينيقيين على الأرجح - واستعمروا مصر في القرن السابع عشر قبل الميلاد حتى طردهم أحمس الأول وتتبعهم الى داخل فينيقيا أو سورية. وبعد ذلك انفتحت شهية الأسرات المصرية لضم سورية وما جاورها على عهد تحتمس الثالث ورمسيسي الثاني وحتى الفرعون السوداني طهراقة مؤسس الأسرة الخامسة والعشرين في القرن السابع قبل الميلاد. ولعلها من الملاحظات الطريفة أن مصر في العهود الفرعونية كانت تغزو الشام وبلاد النوبة ولم تفضل أن تتوجه نحو أوروبا أو ليبيا، لكن الفارق الجوهري بين غزو الشام وغزو النوبة أنه في الحال الأولى كانت مصر تغزو لتبقى وتوطد ملكها وفي الحال الثانية كانت تغزو لتعاقب ثم لا تلبث أن ترجع الى ما وراء الحدود. وقد تتالى الكر والفر على هذا المنوال في العصور الإسلامية، الأيوبيين والعثمانيين... الخ. وعندما جاء نابليون لم يحد عن تلك السنة فهو بعد استيلائه على مصر في عام 1798 توجه الى غزو الشام، ثم أعقبه محمد علي باشا على ذلك الى أن صدته القوى الأوروبية في عام 1839. بل إنني أمضي لأقول إن مشروع الوحدة بين مصر وسورية في عهد عبدالناصر وشكري القوتلي كان من أثر ذلك النزوع الطبيعي الذي تقويه وتدفعه ايقاعات الأرض والتاريخ. في هذا السياق يمكن اعتبار أن وجود قوة معادية أو محتملة العداء في تلك المنطقة الحرجة يعزز أن احتمالات تفجر العواصف السياسية والأعمال العدائية هو القاعدة وليس الاستثناء. كان هذا الاستطراد التاريخي ضرورياً، لأن دراسة التاريخ، كما هو معلوم، تعين على فهم المستقبل وتعين أيضاً على فهم الذات. هذه الحقائق المذكورة توضح الارتباط العضوي، تاريخاً وحاضراً، بين دول المنطقة. لكنها توضح بصفة خاصة أن المصالح المصرية - السودانية ظلت تحمل ارتباطاً أخص باستقراء الأنساق التاريخية. إن أي سياسي سيكون من الحماقة بمكان عظيم لو أنه أراد أن يتقاضى عن هذه الحقيقة لهوى عنده أو لحاجة ذاتية ضيقة. والآن وقد أوشكت إسرائيل على توقيع اتفاقات سلام نهائي مع خصومها الرئيسيين بالمنطقة سيبرز واقع جديد تصبح إسرائيل بموجبه متفرغة لمرحلة يغلب عليها العمل السياسي وتصعيد سياسة الأحلاف والالتفافات التي برعت فيها واكتسبت خبرة كبيرة واستثمرت فيها استثمارات كبرى عبر أكثر من خمسين عاماً. وما يقدم هذا الخيار هو ضيق مساحة الأرض لديها وبالتالي فرص التنمية المحلية، بما لا يدع أمامها إلا أن تبحث عن وسائل للتمدد في محيطها الحيوي بأساليب جديدة. وستتجه هذه السياسة الى غزو المنطقة بالميزات النسبية لإسرائيل كالتجارة والتقنية والتعليم والخدمات الصحية وأهم من ذلك كله تقنية الري والزراعة. هذا الواقع الجديد هو في الحقيقة إعادة إنتاج للأنساق التاريخية وهو من شأنه أن يلقي بعبء من نوع جديد وتحد مبتكر على المنطقة العربية كلها، وخصوصاً على مصر والسودان اللذين يرجح أن تتصوب سياسة الاحتواء والالتفاف نحوهما. ويوجب عليهما هذا أن يخطا معالم استراتيجية مشتركة. وإذا ما استطاعا أن يكسبا لهذه الرؤية دولة كليبيا بما لها من مقومات وإرادة سياسية فستتكون قاعدة انطلاق صلبة يمكن الاعتماد عليها في الوصول الى منظومة اقليمية كاملة من الدول التي تقبل أن تتواضع على هذه الرؤية الموحدة. لكن قبل الحديث عن الواجبات التي تترتب على دول المنطقة مجتمعة أو على أي نواة أولية تقود دول المنطقة، قبل الحديث عن نظام كلي موجه لا بد من الحديث عن واجبات خصوصاً للسودان ولمصر. كما أوضحنا سالفاً فقد مرت العلاقة بين مصر والسودان طوال تاريخها بمراحل مختلفة شكلتها وقائع الأحداث في البلدين، وقد ظل الناس ينظرون الى هذه العلاقة نظرة خاصة ويصفونها أنها استراتيجية، على اختلاف العهود والأنظمة التي تعاقبت وحكمت هنا أو هناك. وتنامى حظ هذه العلاقة خلال السنوات الماضية لتصبح موضع اهتمام السياسيين والأكاديميين والدارسين في البلدين أكثر من أي وقت مضى، وخصوصاً عقب انتهاء فترة حكم الرئيس السابق جعفر نميري عندما نشب الخلاف بين القوى السياسية في السودان حول الكيفية التي يعبر بها عن حقيقة أن علاقة البلدين استراتييجية ومصالح شعبيهما تكاد تكون واحدة. وازداد الاهتمام بالصورة التي ينبغي أن تكون عليها علاقات مصر والسودان خلال السنوات الخمس الأخيرة إثر تداعي تطورات أشاعت غمائم من الشك الداكن حول النيات والأهداف، وهو أسوأ ما يقطع حبال الثقة ويدمر جسور الإخاء. واتجه الناس هنا وهناك لدراسة هذه الحال والسعي الى استنباط الفوائد والعبر منها. وأضحى من الضروري أن يدرك المعنيون في البلدين ان المرحلة الحالية هي مرحلة جديدة تتيح فرصة حقيقية لاجتياز عقبات الماضي ولتأسيس علاقة قوية على قواعد مستقاة من مفاهيم جديدة، وبما يستجيب للتحديات التي يفرضها وجود البلدين في منطقة ملتهبة تتحرك أحداثها يومياً. والمرحلة الجديدة التي أتحدث عنها لم تبدأ مع التطورات الأخيرة في السودان، لكن تلك التطورات جلتها وعززتها، ولهذا فقد يكون الأجدى أن ننظر للطفرة التي شهدتها علاقات البلدين أخيراً في سياق القناعات التي أخذت تترسخ منذ مدة لدى صانع القرار في السودان، بأن أمر العلاقات مع مصر يحتاج لعناية جادة من الطرفين. إن على مصر أن تدرك أنه تتوافر الآن إرادة حقيقية في السودان للاستثمار الإيجابي للمرحلة، وهذه الإرادة ناشئة من منطلقات عدة: * من رؤية استراتيجية لعلاقات البلدين مستوحاة من صلتهما بمحيطهما الإقليمي والدولي ودورهما فيه. والرؤية الاستراتيجية تعني القناعة المستقرة على أصول وقواعد راسخة، لا على تقديرات انتهازية ظرفية. * ومن تجربة عملية كاشف خاضها السودان طوال سنوات تطوره السياسي واستخلص دروسها وعبرها. * ومن إيمان متنام بضرورة تجاوز نظرية الريبة الى مصر التي ميزت مواقف قطاع مؤثر من النخب السودانية، وإعطاء فرصة عادلة لخيار الثقة والرغبة في القواسم والمشروعات المشتركة. إن السودان بدوره يدرك أن الإشارات التي وردت من مصر أخيراً تعبر فعلاً عن إرادة تستحق التقدير وتستوجب استثمارها لبناء منصات الانطلاق نحو أدوار متناصرة ونحو إقامة شراكة فاعلة ومنتجة. من هذه المعطيات تتفرع واجبات نفسية وعقلية تمهد الأرضية الصالحة لأدوار جديدة: بالنسبة للسودان لا بد من أن يطرح نفسه طرحاً لا تناقض فيه بين ثقافاته الداخلية، طرحاً يؤهل الثقافة العربية الإسلامية للتعامل الإيجابي والبناء مع بقية الثقافات، فأي تعريف للسودان باعتباره ساحة نزاع وتناقض ثقافي ستمتد آثاره السالبة الى خارجه، وسيطيح ذلك بأي مشروع لإقامة نظام اقليمي بناء. ينبغي عدم الانسياق نحو تكريس التناقض الداخلي وهو نفس الشرك الذي نصبته السياسات الاستعمارية بتشكيل العلاقات داخل السودان على أساس الصراع. وعلى مصر من الناحية الأخرى أن تتعامل مع التيارات السياسية داخل السودان تعاملاً جديداً، بما في ذلك التيار الإسلامي، الذي كما وصفناه سابقاً يمثل حالاً فريدة من حيث نشأته ومن حيث توجهاته بحيث لا يمكن له أن يؤدي دوراً تخريبياً لمصالح مصر بسبب ما يقع من التطابق أحياناً كثيرة بين مصالحه ومصالحها خصوصاً بالنسبة الى التحديات الثقافية التي يواجهها. هذا التيار قد تشكل في السودان عبر تطور تاريخي متميز امتد في مرحلته الأخيرة خمسمئة عام وصولاً الى تجربة الإنقاذ الراهنة. وينبغي تجديد الطرح ورؤية آفاق العلاقة على أساس الموجب لا على أساس السالب من مقوماتها الذي قد يتصوره البعض أنه تناقض أصيل بين مصالح مصر ومصالح السودان. هذا النهج يتطلب فهماً جديداً لعلاقات السياسة ولعلاقات القوى داخل المجتمع السوداني ويستوجب النظر إليهما على خلفية كل الأهداف وليس جزء من الأهداف المرتجاة. ينبغي لمصر أن تتفهم خصوصيات السودان النابعة من ديموغرافيته وجغرافيته وتاريخه في رؤيته للإسلام كمحرك ثوري وفي فهمه وتطبيقاته للديموقراطية وفي تنوعه المربك للآخرين. وينبغي للبلدين معاً أن يعقلا الميزات النسبية لكل منهما. فالسودان له ميزات في المحيط الافريقي لا تمتلكها مصر نابعة من الثقافة والجغرافية، ومصر تمتلك ميزات على الصعيد الدولي لم يحصلها بعد السودان. إذ استطعنا أن نحدث هذه التحولات التمهيدية في المفاهيم يمكن الانطلاق معاً نحو إقامة نظام اقليمي متجانس. أي إقامة وحدة في الإقليم على قواعد من النظم السياسية والاقتصادية والأمنية المتناصرة والمتكاملة، وليس بالضرورة المتطابقة. إن هذا لو حدث فسيحصن الإقليم بصفة عامة من الاختراق بواسطة السياسات المعادية التي تستهدف الإقليم كله بالقدر الذي يستهدف الأقطار المكونة له أفراداً، دولاً ومجتمعات. وسيؤدي الى إعادة بناء الإقليم على أساس من المبادئ والمصالح المتجانسة وإلى تقوية حضوره ومساهماته في المحافل الإقليمية والدولية. نظام كهذا يقتضي العمل المتوافق على عدة أصعدة. يقتضي ابتداء تقوية عناصر الاجتماع والشراكة كاللغة والثقافة بالمجهودين الرسمي والشعبي. المحور الشعبي من ذلك يطور ويقوى عبر آليات مختلفة كالإعلام والصلات الشعبية والثقافية والفكرية. أما على الصعيد السياسي الرسمي فيستوجب إنشاء منظومة تنسق المواقف في المحافل الإقليمية والدولية وتنسق المواقف في القضايا المتخصصة، في ما بينها داخلياً وفي ما بينها وبين الآخرين من خارجها، مثل قضية المياه وقضية الزراعة، ويستوجب نزع فتائل المشكلات المعلقة بين دول الإقليم كمشكلات الحدود. وعلى الصعيد الاقتصادي يكون التوجه نحو التكامل الاقتصادي عموماً وجعل المنطقة سوقاً واحدة للمنتجات والخدمات والاتصالات برؤية متكاملة لكيفية تصنيع المنطقة وكيفية تعاملها مع العالم الخارجي في واقع اتفاقيات التجارة العالمية الحرة المتزايدة، ويكون التوجه الى إقامة المشروعات المشتركة التي تخدم الإقليم كمشروعات ربط شبكات الكهرباء والاتصالات والمواصلات والطرق، وتقوية حركة التجارة والانتقال والتواصل الاقتصادي والإنساني عبر الحدود. وأخيراً لا بد للاستراتيجية من بعد دفاعي أمني بموجبه تنشأ نظم متكاملة للأمن الجماعي وفق صيغة نظرية موحدة للأمن الشامل تأخذ في الاعتبار هموم كل بلد على حدة، لكنها تعنى أىضاً بالرؤية الكلية للمهددات وبآفاق التعاون من أجل حماية الإقليم واستقراره ونهضته. هذا يستلزم مقاومة أي اتجاه نحو سباق التسلح بين دول المنطقة ويستلزم قبل ذلك بذل أقصى جهد لتسوية المهددات والأعمال العدائية سواء التي بين دول الاقليم أو التي تستعر داخل أي دولة على حدة. بمثل هذه الترتيبات التي تليق بالمرحلة التي وصلت إليها الإنسانية في طورها الراهن يرجى أن نتمكن من إعادة طرح أنفسنا قاطرة لتحريك الأوضاع في المنطقة بكاملها نحو تجاوز الأنماط التاريخية للصراع التي ظلت تقيدنا قروناً متطاولة فأخرت نمو مجتمعاتنا وحرمتها من استثمار مقوماتها الحيوية من دون معنى أو مكاسب عملية يحق لها أن تفخر بها. * وزير الإعلام السوداني.والنص في الأصل محاضرة ألقاها في دار الأهرام - القاهرة.