الفكر الإبداعي يقود الذكاء الاصطناعي    السعودية وكأس العالم    «الإحصاء»: 12.7% ارتفاع صادرات السعودية غير النفطية    حلاوةُ ولاةِ الأمر    بلادنا تودع ابنها البار الشيخ عبدالله العلي النعيم    حائل.. سلة غذاء بالخيرات    حملة «إغاثة غزة» تتجاوز 703 ملايين ريال    رغم الهدنة.. (إسرائيل) تقصف البقاع    أفغانستان: 46 قتيلاً في قصف باكستاني لمخابئ مسلحين    وطن الأفراح    الحمدان: «الأخضر دايماً راسه مرفوع»    المملكة ترحب بالعالم    رينارد: مواجهة اليمن صعبة وغريبة    "الثقافة" تطلق أربع خدمات جديدة في منصة الابتعاث الثقافي    "الثقافة" و"الأوقاف" توقعان مذكرة تفاهم في المجالات ذات الاهتمام المشترك    أهازيج أهالي العلا تعلن مربعانية الشتاء    شرائح المستقبل واستعادة القدرات المفقودة    منع تسويق 1.9 طن مواد غذائية فاسدة في جدة    نجران: «الإسعاف الجوي» ينقل مصاباً بحادث انقلاب في «سلطانة»    حل الفصائل.. خطوة سورية على الطريق الصحيح    مليشيات حزب الله تتحول إلى قمع الفنانين بعد إخفاقاتها    أمير نجران يواسي أسرة ابن نمشان    الأبعاد التاريخية والثقافية للإبل في معرض «الإبل جواهر حية»    63% من المعتمرين يفضلون التسوق بالمدينة المنورة    ملك البحرين: علاقاتنا بالسعودية أخوية ومميزة    العناكب وسرطان البحر.. تعالج سرطان الجلد    5 علامات خطيرة في الرأس والرقبة.. لا تتجاهلها    لمن لا يحب كرة القدم" كأس العالم 2034″    ما هكذا تورد الإبل يا سعد    واتساب تطلق ميزة مسح المستندات لهواتف آيفون    الزهراني وبن غله يحتفلان بزواج وليد    الدرعان يُتوَّج بجائزة العمل التطوعي    أسرتا ناجي والعمري تحتفلان بزفاف المهندس محمود    فرضية الطائرة وجاهزية المطار !    أمير الشرقية يرعى الاحتفال بترميم 1000 منزل    المأمول من بعثاتنا الدبلوماسية    اطلاع قطاع الأعمال على الفرص المتاحة بمنطقة المدينة    ارتفاع مخزونات المنتجات النفطية في ميناء الفجيرة مع تراجع الصادرات    وزير الطاقة يزور مصانع متخصصة في إنتاج مكونات الطاقة    تدشين "دجِيرَة البركة" للكاتب حلواني    مسابقة المهارات    إطلاق النسخة الثانية من برنامج «جيل الأدب»    نقوش ميدان عام تؤصل لقرية أثرية بالأحساء    وهم الاستقرار الاقتصادي!    أفراحنا إلى أين؟    آل الشيخ يلتقي ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة والزيارة    %91 غير مصابين بالقلق    «كانسيلو وكيسيه» ينافسان على أفضل هدف في النخبة الآسيوية    في المرحلة ال 18 من الدوري الإنجليزي «بوكسينغ داي».. ليفربول للابتعاد بالصدارة.. وسيتي ويونايتد لتخطي الأزمة    اكتشاف سناجب «آكلة للحوم»    دور العلوم والتكنولوجيا في الحد من الضرر    خادم الحرمين وولي العهد يعزّيان رئيس أذربيجان في ضحايا حادث تحطم الطائرة    حرس حدود عسير ينقذ طفلاً مصرياً من الغرق أثناء ممارسة السباحة    منتجع شرعان.. أيقونة سياحية في قلب العلا تحت إشراف ولي العهد    مفوض الإفتاء بجازان: "التعليم مسؤولية توجيه الأفكار نحو العقيدة الصحيحة وحماية المجتمع من الفكر الدخيل"    نائب أمير منطقة مكة يطلع على الأعمال والمشاريع التطويرية    نائب أمير منطقة مكة يرأس اجتماع اللجنة التنفيذية للجنة الحج المركزية    إطلاق 66 كائناً مهدداً بالانقراض في محمية الملك خالد الملكية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



العودة : من "تهتدون" إلى "تفلحون" كتاب الصادق المهدي 6 . الهجرة السودانية إلى الخارج ... والعلاقة بمصر والمدى الأفريقي
نشر في الحياة يوم 30 - 11 - 2000

} يعرض السيد الصادق المهدي في هذه الحلقة مسألة الهجرة السودانية الى بلاد الاغتراب وتزايدها المستمر منذ العام 1969. وهو في تقسيمه المهاجرين الى مجموعات، وتعداده أسباب هجرتهم وأوضاعهم الراهنة، يحاول تأليف معادلة للربط بينهم وبين الوطن الأم من جديد. منطلقه في ذلك أن ازدهار السودان وازدهار أحوال مواطنيه لا يكون إلا بتغليب الهم العام على الخاص. ويقدم المهدي عرضاً لتقلب العلاقات بين السودان ودول الجوار، من مصر الى دول حوض النيل، الى العلاقة بالقرن الافريقي، وبالجماهيرية الليبية، في محاولة لبلوغ توازن مطلوب وضروري.
منذ عهد النظام المايوي 1969 - 1985 ثم في عهد الإنقاذ 1989 - حتى الآن اختلفت الهجرة السودانية إلى خارج الوطن اختلافاً نوعياً. والسودانيون في المهجر الآن مجموعات:
- مغتربون: وهم الذين التحقوا بأعمال ووظائف خارج السودان. وتربطهم بالجهات التي يعملون معها عقود عمل محددة. هؤلاء يفترض أن اغترابهم مؤقت وسيعودون.
- لاجئون: وهؤلاء هم الذين غادروا السودان لأسباب مختلفة أهمها الاضطهاد السياسي، العمليات الحربية، ضيق المعيشة، التشريد من الخدمة، المجاعات. هؤلاء أشبه بمن في حال انتظار لأنهم لم يجدوا بديلاً مناسباً، فإن تحسنت الأوضاع التي طردتهم يتوقع عودتهم للبلاد.
- مواطنون: منذ العام 1969 ظهرت مجموعة جديدة تزايدت أعدادها مع الأيام هي مجموعة إعادة التوطين. إعادة التوطين مفهوم متعلق بمعاهدة جنيف للاجئين للعام 1951. هذه المعاهدة تلزم الدول الموقعة عليها أن تمنح ملجأ آمناً لمواطني الدول الذين يتعرضون للاضطهاد. هذا الوضع يفترض الإقامة المستمرة في الدول المانحة لحق اللجوء وهي الدول الغربية الغنية.
سكان السودان الآن يقدرون بحوالى 35 مليون نسمة. ظروف الحرب، والقهر السياسي، والمجاعات، والحاجة الاقتصادية، والتشريد من الخدمة، غيّرت التوزيع السكاني لأهل السودان بصورة جذرية. فنحو 4 الى 5 ملايين نسمة من السكان نزحوا داخلياً من مناطق العمليات والمجاعات إلى مناطق حضرية في المدن الكبيرة وعلى رأسها العاصمة القومية. ونحو 4 الى 5 ملايين هاجروا إلى خارج السودان.
المغتربون السودانيون
الدولة الحديثة في السودان اهتمت بالتأهيل البشري ما جعل الكوادر السودانية المؤهلة أكاديمياً ومهنياً وفنياً، ذات كفاية عالية. وعندما نشأت ظروف جاذبة للعمل في الخارج في اليمن، ودول الخليج، ولدى المنظمات الإقليمية، والدولية، ولدى بعض الدول الغربية أمّها السودانيون بأعداد محدودة ثم جاءت الظروف الطاردة فتضامن الجذب والطرد ليزحما الاغتراب السوداني حتى بلغ حوالى نصف مليون مواطن ومواطنة.
هذا القطاع من أبناء وبنات الوطن ثروة بشرية حقيقية ورأس مال بشري يمكن قياسه بأن الأخصائي يكلف الخزينة نحو 172 ألف دولار.
كان الاغتراب في أيامه الذهبية مضبوطاً بأسس محددة كالآتي: أن يحصل المغترب على عقد عمل من الجهة المستخدمة" أن يكون المخدم أو وكيله حاضراً للتوثيق أمام وزارة العمل" أن يضمن العقد أجراً معيناً كحد أدنى. وغيرها من الضمانات الأخرى. في تلك الظروف كان المغترب السوداني عزيزاً وكان المغتربون السودانيون أكثر المغتربين كرامة حتى يحكى تندراً أن بعض المخدمين لمغترب امتحنه بقوله غداً سأنهي عقدك. فكان رد السوداني. "لماذا غداً؟ الآن".
ثم جاءت ظروف أثرت في وضع المغترب السوداني سلباً أهمها:
- الظروف الطاردة في السودان زادت الحاجة الى الاغتراب فاندفعت أعداد كبيرة للاغتراب متجاوزة الضوابط ذاهبة الى البلدان باسم الحج، والعمرة، والزيارة، ودعوة الأقارب وغيرها من الأسباب والذرائع. ثم يبقون بحثاً عن عمل من دون أوراق ثبوتية وربما اشتروا إقامات من السوق السوداء.
- اتجهت بلدان الاغتراب إلى تشغيل مواطنيها الذين نالوا حظاً من التأهيل مما أدى الى الاستغناء عن خدمة العمالة الوافدة ومنها العمالة السودانية - "التفنيش".
- زيادة العرض من الذين يبحثون عن العمل، وتناقص الطلب، جعلا السودانيين يقبلون بأجور زهيدة ويقبلون شروط المخدم مهما كانت.
وواجه المغترب السوداني مشكلات عائلية حقيقية: أن يجد صعوبة في إلحاق زوجه وأولاده به، أن يبقى زوجه وأولاده في الوطن ويواجه ما في هذا الوضع من مشكلات، وحتى الذين صحبوا أولادهم واجهتهم مشكلات التعليم لا سيما في المستوى الجامعي.
المغتربون السودانيون قاموا بدور مهم في تطوير دول الاغتراب وتنميتها فكان السودان بمثابة مصدر لرأس المال البشري - أهم جزء في رأس المال - وفي الاغتراب اكتسب السودانيون خبرات وتجارب غنية وكونوا علاقات وصداقات ومعارف وكانوا خير سفراء للسودان في ديار الغربة. ويمكن أن يصبح هؤلاء حلقة وصل قوية بين السودان ودول الاغتراب.
ظاهرة الاغتراب ستستمر مهما كانت أوضاع المستقبل ولكن عدداً كبيراً سيعود الى السودان إذا تحسنت أوضاعه الاقتصادية. أثناء ظروف المواجهة السياسية في السودان دعم عدد كبير من المغتربين المعارضة السودانية. نحن في حزب الأمة شهدنا جزءاً مهماً من نشاط الحزب كان قوامه المغتربون.
كان المغتربون عامة يقاطعون الوفود الحكومية، ويقاطعون السفارات السودانية، ولا يدفعون الضرائب الكثيرة التي يفرضها النظام، وحتى الزواج والعزاء، لا يحملهم الى السودان، وإن أحب كثير منهم لقاء أهله في الخارج واعدهم في بلد آخر غير السودان.
في المرحلة الجديدة مرحلة التواصل والحوار ينبغي تقنين أوضاع المغتربين بتجديد جوازاتهم من دون شرط، والإعفاء من الضرائب المتراكمة لأن إمكاناتهم لا تسمح بسدادها.
الاهتمام بقطاع المغتربين كقطاع عزيز على الوطن أمر ضروري. وإن هم بقوا في الاغتراب أو عادوا الى الوطن فان لهم دوراً تنموياً كبيراً. والميزة التي امتاز بها المغتربون انهم كانوا وما زالوا يساهمون في مد حبل سري لأهلهم في السودان ساهم وما زال يساهم في تمكين قطاعات واسعة من أهل السودان على مواجهة ظروف العلاج، والكسوة، وغيرها من مصروفات الحياة الشهرية، علاوة على تمويل مناسبات العبور من فرح وترح.
الواجب يقتضي أن يجد ملف المغتربين اهتماماً من أجل:
- أن تتفق الدولة السودانية مع دول الاغتراب على رعايتهم وصيانة حقوقهم.
- إيجاد آلية مقبولة لديهم للتشاور المستمر مع الدولة بخصوص السياسات والتشريعات التي تخصهم.
- تسهيل مشكلات التعليم التي تعترضهم.
- تنظيم أندية جامعة ثقافية واجتماعية وترفيهية في مناطق تجمعاتهم.
- المساعدة على إقامة رياض أطفال تحتضن أطفالهم.
- وضع سيناريوهات وخطط لتنظيم عودة من يقررون العودة منهم حيث تكون مصحوبة بمشروعات تنموية.
مع تحسن الأوضاع الاقتصادية في السودان، يرجى أن يكون القطاع الأول من المغتربين الذين يقررون العودة هم الذين اضطروا إلى أعمال هامشية لا تناسب مؤهلاتهم، والذين بقوا في دول الاغتراب من دون طريق قانوني، والذين أجبرتهم ظروفهم على فرض أنفسهم على أقاربهم أو معارفهم من أصحاب العقود بموجب قانون الحنان السوداني المعهود.
ينبغي أن تطور الدولة السودانية في عهدها الجديد كل وسائل تقوية العلاقة بين المغترب والوطن وأن تقوم الأحزاب السياسية والمنظمات المدنية بدور مهم في هذا التواصل. كما ينبغي أن يخطط لدور المغتربين في التنمية سواء الذين عادوا أو الذين استمروا في الغربة.
اللاجئون السودانيون
هؤلاء هم القطاع الأكبر عدداً من سودان المهجر وهم القطاع الأضعف لأنه لا يحظى بأي حقوق، فحكومة السودان لا ترعاهم بل تعاديهم ويعادونها ولا يجدون رعاية إلا من هيئة غوث اللاجئين. وسواء وجدوا في معسكرات، أو كانوا يعيشون مشردين في بعض المدن الكبيرة في القاهرة ودمشق وبيروت ونيروبي وكمبالا، وغيرها من البلدان فالمطلوب لأوضاعهم الموقتة اتصالات مكثفة تجريها القوى السياسية والدولة بمفوضية غوث اللاجئين.
وفي إطار التطورات المتوقعة نحو السلام والتحول الديموقراطي ينبغي وضع برامج محددة لإعادة استقرارهم الاختياري في بلادهم. هذه العودة يجب أن تقترن بحوافز تنموية لتقوم الأمم المتحدة والدول المتبرعة بتمويل برنامج استقرار للاجئين يكون مقترناً بالتنمية. هذا البرنامج سوف يحفز عودتهم الى الوطن مثلما يخدم التنمية فيه.
الموطّنون السودانيون
برنامج إعادة التوطين من برامج الصحوة الإنسانية التي أشرقت بعد الحرب العالمية الثانية 1939 - 1945 وقد قننته معاهدة جنيف للعام 1951م. استفادت من هذا البرنامج أعداد محدودة من السودانيين غالبيتهم من الجنوبيين في الفترات الماضية. ولكن منذ التسعينات خلقت سمعة النظام السوداني المتشدد عطفاًً على ضحاياه من السودانيين فانفتح البرنامج على مصراعيه واستقبل عدداً كبيراً ومتزايداً من الضحايا ومن غير الضحايا حتى بلغ العدد الكلي الآن نحو نصف مليون. العامل الأول وراء لجوء هؤلاء عامل اقتصادي ولكن عدداً كبيراً منهم هم ضحايا الاضطهاد السياسي والأمني، والتشريد من الخدمة، وآثار الحرب المأسوية. مثلما أن هناك عوامل كثيرة غير الاضطهاد الذي هو العامل الأصلي وراء طلب إعادة التوطين، فإن الدول المانحة وهي تمنح حق اللجوء واعادة التوطين لالتزامها معاهدة جنيف 1951 تفعل ذلك لأسباب أخرى أيضاً. فالولايات المتحدة أجازت سياسة تهجير متفتحة تقبل التنوع السكاني وتوشك أن تجعل الولايات المتحدة الأميركية مرآة العالم حيث تكون كل قاراته: أوروبا وآسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، كما أن بعض الدول الغربية صارت تعاني شيخوخة سكانها لانخفاض معدلات النمو السكاني فانفتحت للهجرة. وفي بلدان أوروبية غنية يعزف السكان الأصليون عن بعض الأعمال غير الماهرة. هذه البلدان فتحت مجالاً للمهاجرين.
والسودانيون الذين انتفعوا بإعادة التوطين في البلدان الغربية وجدوا منافع مادية ملموسة: يرحلون بوسائل مريحة، ويستقبلون باهتمام، ويمنحون مساكن، وعلاجاً مجاناً، وتعليماً لأطفالهم مجاناً، ولفترة من الزمان يدعمون نقدياً لمواجهة مصروفات الحياة.
ينبغي أن نعترف بأن هذه الدول التي منحت مواطنينا حق اللجوء والتوطين دول رحيمة فاقت معاملتها الإنسانية بمراحل معاملات دول أخرى تربطها بنا وشائج قوية. إن المنافع المقترنة بإعادة التوطين جعلته أمنية المواطن السوداني لا سيما قطاع الشباب، فإن نالوه فرحوا فرحاً شديداً ووالاهم أصدقاؤهم بالتهاني، وبعد أن يستقروا في أرض السعادة يسعون بكل الوسائل المتاحة لضم أسرهم إليهم. صار أصحاب هذا الامتياز أو "الكرت" الأخضر الأميركي محط المجد والحسد والعملة الصعبة لعقد الزيجات.
إن السمعة السيئة التي اكتسبها "الإنقاذ" جعلت الهوية السودانية مرغوبة من شعوب غير سودانية لأنها أفضل وسيلة لاستدرار العطف. حقاً مصائب قوم عند قوم فوائد. ولكن هذا النعيم المادي مشوب بمشكلات يكتشفها الموطّنون بعد حين. أهمها:
- السودانيون عادة يأتون من خلفية عائلية متضامنة وجماعية، الوسط الجديد يفترض المسؤولية الفردية والعائلة النووية. هذا محل توتر.
- نمط الحياة الجديدة يوجب القفز مباشرة من مجتمع قبل صناعي إلى مجتمع تخطى الصناعي إلى ما بعده. هذه القفزة تحدث صدمة حضارية واختلافاً لا يطاق في وسائل تربية الأطفال وحقوقهم - ووسائل التعامل مع المرأة وحقوقها - ووسائل التعامل مع الشباب وحقوقهم - الأسرة مطالبة بقدرات أكروباتية فائقة للتعامل مع هذه القفزات.
- وهناك مشكلة التعامل مع الثقافة الجديدة وحاجز اللغة.
- الجيل الحالي من المواطنين هم الأول، فليس أمامهم مرشدون.
ومع هذه الصعوبات التي سوف تظهر أكثر وأكثر مع الأيام فان الاستطلاعات وسط الموطّنين السودانيين تظهر حتى الآن ميل الأغلبية للاستمرار حتى إذا تحسنت أوضاع السودان.
ما دام الوطن القديم طارداً بكل معنى الكلمة فإن الوطن الجديد سيكون ملجأ. لن تنشأ مشكلة تفضيل إلا إذا نما لعلم الموطّنين أن السودان عبر إلى حال جديدة ليست فيه حروب ولا بيوت أشباح بل فرص واسعة للحياة، حينئذٍ يمكن أن يفكر البعض في العودة.
نحن في مرحلة فيها تيار العولمة وهذا يعني أن الذين لا يعودون يمكن أن يفكروا في استئناف الاتصال بالوطن الأم. إن الموطّنين سوف يكتسبون مهارات واتصالات تجعلهم طاقة استثمارية في البلدان التي استقروا فيها ويمكن أن تجعلهم حلقة استثمارية بين الوطن الجديد والوطن الأم.
ويمكن مساعدة السودانيين الموطّنين لكي يقيموا أنشطة ثقافية وتعليمية تحافظ على هويتهم الثقافية وصلتهم بالوطن الأم والثقافة الأم.
العلاقة بين الموطّنين السودانيين والدولة السودانية الآن علاقة عدائية فلولا قهرها لما حصل اللجوء. ولكن في الظروف الجديدة يرجى أن تقوم بين الموطّنين السودانيين والدولة السودانية علاقة إيجابية.
إذا أطل فجر جديد في السودان ربما فكر بعض الموطّنين في العودة. في هذا المجال يمكن الاتفاق مع الوطن الأم على مشروع عودة اختيارية للوطن تقترن بالاستثمار والتنمية. الأسرة الموطّنة تكلف دولة التوطين حوالى ألف دولار شهرياً. إذا قررت الدولة المعنية منح الشخص المبلغ المستحق لثلاث سنوات مقدماً على أن يودع في صندوق استثماري وتكون العودة مقترنة بهذا الامتياز فإن عدداً قد يختار هذه العودة.
في كتابه عن العولمة والهوية الثقافية الذي سماه "الليكسس وشجرة الزيتون"، وصف توماس فريدمان التجاذب الشديد بين العولمة والهوية الثقافية. الذين تشدهم سيارة الليكسس سوف يفضلون البقاء في الوطن الجديد. والذين تشدهم شجرة الزيتون سوف يفضلون العودة إن كانت الظروف مناسبة. كان وما زال موقف هذا القطاع من قطاعات مواطنينا من النظام عدائياً وكان ولا يزال النظام يبادلهم العداء. ولذلك كان هذا القطاع متشككاً في إقبالنا على الحوار والحل السياسي ولكننا نخاطبهم بضرورة الاهتمام بالوطن الذي يحترق والذي إذا ترك لعوامل المواجهة الحالية ربما تمزق أو فرضت عليه حلول دولية تضر به.
نعم إن مصلحة هذا القطاع تكمن في أن يظل النظام السوداني منبوذاً وأن يواصل تقديم البرهان على بطشه بالناس. هذا يبرر الحاجة الى التوطين ويفتح المجالات للمزيد منه. لكن المصلحة الوطنية العليا في أن يقلع النظام السوداني عن الممارسات السابقة وأن يفتح الباب لحوار حقيقي وأن يوجد حلاً سياسياً شاملاً حتى إن كان ذلك على حساب فرص التوطين. ينبغي ألا نسمح للخاص بأن يقف في طريق العام. ولا للضرورة الاستثنائية بأن تصبح هي القاعدة.
أدت سياسات المرحلة الماضية الى دفع السودانيين نحو سودان المهجر فغادرت البلاد أعداد كبيرة فقدت البلاد على اثرها مواطنين بدرجات عالية من التأهيل. فأساتذة الجامعات، والأخصائيون، والمهندسون وغيرهم غادروا البلاد بأعداد كبيرة. على سبيل المثال في الفترة 1990 - 1995 غادر البلاد 735 أستاذاً جامعياً. هذه الثروة البشرية رافقها تغريب الثروة المادية. فالتقدير العام أن الثروة السودانية المغرّبة تبلغ 70 مليار دولار.
السياسة الجديدة إن هي أعادت الثقة في السودان الوطن والسودان النظام فإنها سوف تفتح باب منافع كبيرة للسودانيين من حيث عودة الثروة البشرية والثروة المادية.
السياسة الجديدة لا ينبغي أن تهدف الى إدانة أو إلغاء، أو عزل سودان المهجر بل أن تحقق العكس تماماً. أن تحقق:
1- إزالة العداء تماماً بين السودان الأم المتجدد، وسودان المهجر.
2- تبادل المنافع بين السودان الأم المتجدد وسودان المهجر.
3- تبني السودان الأم لسودان المهجر ثقافياً وإعلامياً.
4- شد أنظار سودان المهجر للاهتمام بمصير، ورفاهية، وتنمية الوطن الأم.
5- برمجة العودة الاختيارية حيث ينتفع بها العائدون والوطن الأم. بل وعن طريق تطوير العلاقات حيث تنتفع بها أوطان المهجر نفسها.
الانفتاح الإقليمي
هنالك عدد من مشكلات السودان التي أثرت سلباً في استقراره وأمنه وتنميته وهي مشكلات ذات أبعاد إقليمية.
1- العلاقة السودانية - المصرية. هناك عوامل شوهت العلاقات المصرية - السودانية. فكثير من المصريين يتهيبون الخوض في الشأن السوداني بموضوعية خوفاً مما يسمونه حساسية السودانيين. وكثير من السودانيين يشكون من أن المصريين يعاملونهم بدونية. ويقولون ان السوداني يعلم كثيراً عن مصر. ولكن معلومات المصري عن السودان شحيحة.
لدى بعض السودانيين وبعض المصريين انطباعات سالبة متبادلة شبيهة بالانطباعات السالبة المتبادلة بين المجموعات الوطنية أو الجهوية داخل الوطن الواحد.
هذه الانطباعات السالبة المتبادلة غذاها الاختلاف السياسي وشكلت خلفية للصراع الذي دار في السودان. وانقسم فيه الرأي العام السوداني وأيد البريطانيون الموقف المضاد لمصر. وأيدت مصر الموقف المتطلع للاتحاد معها. هذا الصراع حسم في عام 1956 باستقلال السودان. لكنه ترك آثاراً عميقة. فالبريطانيون غرسوا في الذهن المصري بإجراءات اتخذوها وسياسات مارسوها أن مصالح مصر في مياه النيل يمكن تهديدها من السودان. لذلك قامت مصر بمجهود متصل بعد استقلال السودان لإضعاف العناصر السودانية التي يمكن أن تهدد تلك المصالح ولتقوية العناصر الأخرى التي يمكن أن تحميها، هكذا ترسخ في السياسة السودانية وجود موالين ومعادين لمصر. وبدا في السياسة المصرية تجاه السودان انحياز لأحباب وعداء لآخرين.
إن تاريخ الخمسين سنة إلا قليلاً التي مرت على استقلال السودان أوضح كيف أن هذا الموقف السوداني من مصر، والموقف المصري من السودان أخر العلاقات بين البلدين حتى بدا كأن النهاية المنطقية لهذا الاستقطاب هي أن يحمي السودان خياره الوطني من التدخل المصري بالقوة. وأن تحمي مصر مصالحها الحيوية من السودان بالقوة. المنطق القديم الذي سارت عليه العلاقات بين البلدين إذا ترك مندفعاً نحو نهايته المنطقية فإنه سوف يقود حتماً الى نتيجة فاسدة: منطق القوة.
وفي عهد نظام "الإنقاذ" وصلت العلاقات السودانية - المصرية الى درجة العداء التام. كان وجودنا في مصر في هذه المرحلة بالذات مجالاً لاتصالات مباشرة بالمسؤولين المصريين على كل المستويات، وبمنظمات المجتمع المدني، وبالمفكرين، والمثقفين، والصحافيين، ورجال الدين، والمؤسسات العلمية، الدينية، والثقافية، وبالقوى السياسية، النقابية المصرية فاستمعوا الينا واستمعنا اليهم بصورة مباشرة ساهمت في تفهم أوضح واقناع متبادل بمصالح مشتركة واتضحت لنا جميعاً الحقائق الآتية:
أولاً: إن ذهنية الحرب الباردة في التعامل بيننا وليدة ظروف تاريخية وسياسية معينة ينبغي تجاوزها الى ذهنية وصال استراتيجي.
ثانياً: إن بين البلدين خصوصية تقوم على أسس موضوعية ينبغي تقنينها والارتفاع بها عن المزايدات مهما تقلبت الأحوال.
ثالثاً: إن السودان يعرض مصالحه للخطر بمعاداة مصر، وأن تلك المصالح يمكن حمايتها بالتفاهم والشفافية.
رابعاً: إن مصر تعرض مصالحها للخطر إن هي حاولت تكليف جماعة سودانية معينة حمايتها، بل يحميها الاتفاق القومي مع القوى السياسية السودانية.
لعب سوء الفهم للعلاقات السودانية - المصرية دوراً مهماً في عدم الاستقرار في السودان وفي ترويع مصر وتهديد أمنها. لذلك يرجى أن يكون التفهم المتبادل مرتكزاً على تحول أساسي في العلاقات يحميها من التقلب ومن سوء الفهم ويرسخها.
2 - تهميش العلاقة الأفريقية: الوعي السياسي السوداني الحديث الذي بلورته مدارس الموردة، وأبو روف، والفجر، ومدني، ثم طوره مؤتمر الخريجين ركز على هوية سودانية همشت العامل الأفريقي في العقل السياسي السوداني.
وبعد الاستقلال تأثرت السياسة السودانية والديبلوماسية السودانية باتجاه ركز على العوامل العربية والإسلامية ولم يعط العوامل الأفريقية إلا دوراً هامشياً.
على الصعيد السياسي والديبلوماسي استمر هذا العيب على طول عهود السودان السياسية الستة. وفي العهد السادس "عهد الإنقاذ" احتل الاتجاه الإسلامي العربي مكانة أعلى. بل تحولت العلاقات الأفريقية في الجوار المباشر نحو العداء. الفن هو قرون استشعار المجتمع. والأدب والشعر من أهم أدوات الفن. الأدباء والشعراء السودانيون بدأوا في الستينات يعبرون عن الوعي الأفريقي السوداني. وكان أول تعبير عن الغابة والصحراء هو تعبير محمد عبدالحي في قصيدته "العودة إلى سنار":
سأعود اليوم يا سنار
حيث الرمز خيط من بريقٍ أسودٍ
بين الذرى والسفح
والغابة والصحراء
هذا التوجه الأفريقي في الأدب والشعر السوداني لم يجد طريقه إلى العقل السياسي السوداني إلا مؤخراً. ففي مواجهة نظام "الإنقاذ" نمت علاقاتنا واتصالاتنا بل وإقامتنا في دول شرق إفريقيا لا سيما كينيا وأوغندا، ودول القرن الأفريقي لا سيما أثيوبيا وإريتريا بصورة ما كان بالإمكان نموها لولا هذه الظروف. بل قويت علاقاتنا بقياداتها وأحزابها السياسية ومثقفيها واتضح لنا بصورة غير مسبوقة التكامل الأمني والتنموي بل البشري بيننا.
كما أن تأزم الحرب الأهلية في البلاد واعتبار أحد أطرافها الجوار الأفريقي ظهراً له أديا إلى تعاظم دور الوساطة الأفريقية في الشأن السوداني، في الغرب الأفريقي أولاً أبوجا ثم القرن الأفريقي ثانياً الإيقاد وصار للعواصم الأفريقية دورها المهم في تطورات الحرب والسلام في السودان.
إن تجاربنا المباشرة في البلدان الأفريقية والدور الأفريقي الضخم في قضايا الحرب والسلام السودانية سوف تؤثر تأثيراً قوياً في السياسة والديبلوماسية السودانية.
الرقم الأفريقي سوف يتمدد بصورة غير مسبوقة في المعادلة السودانية محققاً التوازن المطلوب.
3 - حوض النيل: امتدت الأزمة السودانية فشملت كل دول حوض النيل.
السياسة والديبلوماسية السودانية والمصرية جعلت من النيل شأنا ثنائياً مصرياً سودانياً كأن دول المنابع غير معنية بالنيل.
فتحت اتصالاتنا بقيادات ومثقفي دول حوض النيل مداركنا لوجهات نظر أخرى في أمر النيل ولمسنا عناصر نقد للتصورات المصرية والسودانية وتنبيه إلى ما يمكن أن يحدث من ضرر إذا غاب الاتفاق واندلعت الحرب الباردة أو الساخنة حول موارد النيل. اتضحت لي ضرورة أن نتجه بالنيل الى الحوار الجاد والتعاهد الاستراتيجي فعكفنا على دراسة ملف النيل وألفت كتابي: "مياه النيل: الوعد والوعيد". ومهما كان إدراكي النظري للقضية فإن التجوال في حوض النيل والتفكر مع أهله في جنوبه وشماله كانا لي مفتاحاً ذهنياً ثمرته ذلك الكتاب.
4 - تداخل الأمن والتنمية في القرن الأفريقي: الثورتان الإريترية والأثيوبية انطلقتا من عمق سوداني ووجدتا متنفساً سودانياً لولاه لخنقتا. والمقاومة السودانية لأحلك فترات "الإنقاذ" وجدت عمقاً إريترياً، أوغندياً، أثيوبياً. والحرب الثنائية الأثيوبية الإريترية تجر السودان حتماً ضلعاً ثالثاً فيها لاحتوائها أو الانحياز فيها. كذلك حرب البحيرات العظمى. هذا في ما يتعلق بالقضايا الأمنية والسياسية. وفي ما يتعلق بالتنمية فإن المنطقة لن تستطيع علاج مسألة توفير الطاقة الكهرومائية بتكاليف زهيدة إلا على أساس إقليمي. كذلك موضوع زيادة موارد النيل. وأوغندا وهي بلد محجوبة عن البحر تنظر الى النيل كشريان مائي يمكن أن تستغله على طول نهر النيل إلى البحر الأبيض. هذا النوع من التخطيط إن كان فنياً في الإمكان يمثل رافداً إستراتيجياً للروابط المطلوبة في حوض النيل وموضوع سلامة البيئة الطبيعية. انجلى لنا بحقائق دامغة وتجارب ملموسة التداخل الأمني والتنموي في منطقة القرن الأفريقي ولا شك في أن برامجنا السياسية وعلاقاتنا وتحركاتنا سوف تتبنى تلك الحقائق.
إن رحلة العودة يصحبها وعي أكبر بأحوال ومشكلات سودان المهجر ويصحبها إلمام كبير بالدروس السياسية والحياتية المفيدة التي توافرت لنا في دول حوض النيل من المنابع للمصب، وفي دول الجوار في القرن الأفريقي وفي دول الجوار في الشمال الأفريقي لا سيما الجماهيرية الليبية.. هذه المفاتيح الذهنية سوف يكون لها أثرها الفاعل في الفكر، والسياسة، والتنمية، والأمن، والديبلوماسية السودانية.
الحلقة السابعة بعد غد السبت.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.