منذ سنوات والصراع على السلطة في ايران يشتد حيناً ويهدأ حيناً، الا انه بما له من أهمية حيوية لمصير النظام ككل يقترب من نقطة الانفجار. والرهان بجميع ابعاده ليس بسيطاً يمكن اخفاؤه بمصالحة بين الطرفين كما حاول الخميني مراراً في مواجهة الاعداء في الخارج أو الداخل. لقد كانت القراءات المختلفة للاسلام واستيعاب "الجمهورية الاسلامية" كنظام سياسي، سبباً في شن الحملات من هذا الطرف على ذاك. أما في ما يخص القضايا الأخرى فقد كانت توجد دائماً صراعات وخلافات بين أجنحة النظام من جهة وبين النظام وفئات الشعب المتطلعة الى حياة أفضل من جهة أخرى. ودوماً كانت نقطة الضعف تنجم عن نقطة قوة النظام ألا وهي نظرية ولاية الفقيه الدخيلة بحسب رأي البعض على الفقه الشيعي. لقد طرح الخميني هذه النظرية في حلقات دروسه بمدينة النجف عندما كان منفياً هناك وبعد ان نقل بعض طلبته الكلام المسجل الى الكتابة. الا ان أولوية النضال ضد نظام الشاه صرفت انتباه المعارضة عن خطورة مقولة ولاية الفقيه وتناقضها الكامل مع الديموقراطية التي كان الجميع يتطلع اليها. فالهدف الأساسي للمعارضة الدينية أو اليسارية لم يكن الا اسقاط نظام الشاه، أما التفكير في البديل فكان بعيداً جداً عن اهتمامات الناس. وسقط الشاه في 1979 لكن الخميني وأنصاره لم يجرأوا على طرح ولاية الفقيه كنظام بديل للملكية. الا ان "أسلمة" المؤسسات تمت تدريجاً بحسب "مخطط" لم يكن على الأرجح مقبولاً حتى من رجال الدين الخمينيين أنفسهم. فبعض الكبار من رجال الدين أمثال آية الله شريعة مداري الأهم فقهياً والاقدم من الخميني كان ضد ولاية الفقيه وكذلك آية الله كلبايكاني وآية الله ابو الفضل زنجاني وآية الله محمود طالقاني ذي الشعبية الواسعة. الا ان الخميني سحق الجميع وأزالهم من طريقه بعد ترسخ اقدامه. بعد ذاك، مهد شعار حزب الله الذي رفعه خلال أكثر من 20 سنة في مواجهة أي تحرك شعبي أو اصلاحي "مرك بر ضد ولايت فقيه" الموت لمعارضي ولاية الفقيه الطريق لإسكات أي صوت ينتقد شيئاً يمس جوهر دكتاتورية الفقيه، وكانت آخر حلقة من حلقات هذا الصراع من نصيب الاصلاحيين. فعلى رغم قبولهم بالدستور الذي ينص على أولوية ولاية الفقيه ظل المتشددون يأخذون عليهم عدم اعتناقهم الصادق هذه النظرية. فالمتشددون الذين من مصلحتهم استمرار النظام تحت سيطرة رجال الدين والذين يحتفظون بالقضاء والجيش والحرس الثوري وأموال هائلة ومؤسسات كبيرة تسيطر كل واحدة منها على المئات من المعامل والمصانع والمؤسسات التجارية يشنون كل يوم حملات على الاصلاحيين ويزرعون في طريقهم ألغاماً تشل حركتهم. ومنذ أكثر من ثلاث سنوات وحركة اصلاح النظام من داخله التي يحاولها الرئيس خاتمي مشلولة تماماً، ما أدى الى انخفاض شعبيته ويأس الجماهير المغلوبة على أمرها من أي اصلاح ظنوا - في غياب اي بديل اخر - انه قد يتم من داخل النظام. ان التناقض حاد بين الديموقراطية وفكرة ولاية الفقيه التي يشبهها الخميني بولاية العاقل على المجانين والاطفال. والشعب في نظره قاصر لا بد من فرض الوصاية عليه كالمجانين والاطفال. وهذا هو السبب الأساسي لكل هذه الصراعات المتواصلة. فالاصلاحيون لهم قراءتهم للاسلام ويذهبون بعيداً في تأويلاتهم للنص ليصلوا الى نوع من المصالحة بين الاسلام والحداثة والديموقراطية الا ان ميزان القوي ليس في صالحهم لأن للمتشددين أجهزتهم الأمنية التي لا تتورع عن الاقدام على أي عمل من شأنه اسكات وتصفية المعارضين من اغلاق الصحف ومنع التجمعات، الى الاغتيالات. ويمكننا القول باختصار ان تجربة "ولاية الفقيه" التي كابدها الايرانيون لا مثيل لها في التاريخ الاسلامي. هذه التجربة المريرة أوصلت العديد من رجال الدين الى اعادة النظر في جدوى وصحة هذه النظرية، وكان على رأسهم آية الله حسين علي منتظري الذي كان من منظري ولاية الفقيه وكان الخميني قد عينه خليفة له، الا انه اليوم يعارض النظرية المطلقة. الحلقة الأخيرة للصراع هي رسالة المرشد خامنئي الى المجلس النيابي الذي يسيطر عليه عددياً الاصلاحيون لمنعه من مناقشة اصلاح قانون المطبوعات والصحف والذي تم بموجبه اغلاق 24 صحيفة وكان الاصلاحيون في معركتهم الانتخابية يؤكدون انه سيكون أول موضوع سيناقش في المجلس. والطريف ان رئيس المجلس مهدي كروبي، صرح في بداية الجلسة بأن النقاش حول قانون المطبوعات يجب حذفه من جدول الأعمال. ولما واجه اسئلة واعتراضات عدة من الاصلاحيين قال إنه تلقى "حكماً حكومياً" حكم حكومتي بالفارسية بهذا الشأن. وجدير بالذكر ان هذا التعبير جديد بكل معنى الكلمة ولم يسبق ان استخدم من قبل رسمياً. فماذا يعني ان يتلقى المجلس النيابي المنتخب من الشعب "حكماً" أي امراً حكومياً بأن يفعل كذا وكذا؟ وأخيراً جاء رده ليعلن ان الولي الفقيه قد "أرسل لنا رسالة يطلب منا عدم الدخول في هذا النقاش" لتغيير قانون المطبوعات. وأضاف كروبي ان "هذا هو نظام ولاية الفقيه المطلقة". اما من اين اتى تعبير "حكم حكومتي"؟ فالجواب انه جاء من انزعاج المتشددين من وصف النظام بالجمهوري. ذلك أن النظام الجمهوري يتناقض مع ولاية الفقيه. هذه هي نقطة الضعف التي يعاني منها النظام والتي كانت المعارضة اليسارية والديموقراطية تذكر بها وتنتقدها منذ اليوم الأول لحكم الخميني، وقد نالها ما نالها من اضطهاد فظيع بسبب ذلك. وسبق لآية الله مهدوي كني رئيس جمعية رجال الدين روحانيت وهو من أقطاب المتشددين، أن صرح قبل سنوات عدة "أن نظامنا الاسلامي يجب ان يسمى في المستقبل الحكم الاسلامي حكومت اسلامي بمعنى انه يجب التخلص من كلمة الجمهورية". وبديهي انه يقصد بذلك انه بعد اقرار "الحكم الاسلامي" على غرار الخلافة الاسلامية لا تبقى حاجة الى الانتخابات ومشاركة الشعب لأن الخليفة لا يعزله الا الموت. فالأمور تقرر من قبل الحاكم - الولي الفقيه - والشعب عليه ان ينفذ حكم الله الذي يأتي من الفقيه ولي الأمر. أليس هذا التعبير أقرب الى تعبير الخميني حين عنون كتابه "حكومت اسلامي" الحكومة الاسلامية. لقد كشف رئيس المجلس مهدي كروبي، منذ اليوم الأول ما في طبيعة هذا النظام من تناقض مع الجمهورية وحكم الشعب. فقد قام خامنئي بتوجيه رسالته هذه الى المجلس إثر جلسة حضرها أيضاً رفسنجاني وآية الله محمود شاهرودي ومحمد خاتمي ويبدو ان هذا الأخير لم يتمكن من التفوه بشيء. فموقف خامنئي إذاً انقلاب على الاصلاحيين وعلى خاتمي بالذات الذي يعرف ان الرياح تجري بما لا تشتهي سفن الاصلاحيين. ولذلك ربما سكت للمرة الألف وأغمض عينيه عن العقبات الكأداء التي توضع في طريق تنفيذ ما وعد به حين كان مرشحاً لرئاسة الجمهورية، وربما رأى ان مصلحته هي في مجاراة المحافظين الذين ما زالت لهم اليد الطولى، لكن الى متى؟ لقد تمكن خامنئي ان يخطو خطوة مهمة نحو الحكم الاسلامي الديموقراطي الذي لا يحسب اي حساب لرأي الشعب. ألم يؤكد الخميني أنه "اذا اجتمع الشعب كله على أمر وكنت أنا ضد موقفه فالحق يبقى معي"؟. والآن يمكننا تشبيه هذا الصراع المحتدم بين الاصلاحيين والمتشددين بصراع بين سفينتين على بحر متلاطم الأمواج. هذا البحر هو الشعب الايراني الذي اتعبته ال22 عاماً من "حكومت اسلامي" التي غدرت بكل وعودها. وهذا الشعب يمكنه ان يفاجئ في أية لحظة الجميع في ايران وفي العالم.