تشهد إيران اليوم سلسلة تجاذبات سياسية بين "رئيس الجمهورية" و"مرشد الثورة". الأول يريد أن يعطي الدولة موقع الريادة والطرف الأقوى في صوغ القرارات. والثاني يتمسك بالدستور الذي يعطي للمرشد مركز الريادة في قيادة الدولة. ظهرت عن المشاكل الأخيرة، التي شهدتها شوارع طهران، الكثير من التحليلات والقراءات والاستنتاجات تركزت على الديموقراطية والحريات وحقوق الإنسان ومشاكل الاقتصاد، واهملت الجانب التقني الدستوري للأزمة وصلتها بخصوصية الوضع الإيراني، وخصوصاً موضوع الدستور المعقد الذي يرتب مراكز القوى بين مجموعة متعادلة في الصلاحيات. وأدى تداخل الصلاحيات وانقسام القوى إلى انتقال التوتر من قمة الدولة إلى قاعدة المجتمع، فما هي تلك الخصوصية للأزمة الإيرانية؟ كانت بلاد فارس، قبل قرن من الزمان، تعاني من ديكتاتورية مطلقة لا تعرف المشاركة الشعبية ولا تداول السلطة بشكل سلمي. انطلقت الحركة الديموقراطية فيها إثر قيام الشاه ناصر الدين القاجاري بتوقيع اتفاق احتكار وبيع وتصدير التبغ مع شركة بريطانية من دون الرجوع الى رأي الشعب. ورفض الشاه فسخ الاتفاق على رغم المعارضة الشعبية، ولولا تدخل المرجع الديني الاعلى آنذاك الميرزا محمد حسن الشيرازي، المقيم في سامراء العراق، واصداره لفتوى تحريم استعمال التبغ وبيعه وزراعته، لما تنازل الشاه عن الاتفاق الجائر. وأدى التراجع الى فتح نقاش واسع في صفوف الشعب الايراني عن الانتخابات البرلمانية والحكم الدستوري والفصل بين السلطات. وعرف الشعب الايراني "الحركة من اجل المشروطة"، التي قادها رجل دين آخر مقيم في النجف هو المرجع الاعلى الشيخ محمد كاظم الآخوند الخرساني مع ثلة من المجتهدين الشيعة في العراقوايران، ونجحت حركة المشروطة بعد نضال طويل في فرض دستور 1906 الذي سمح باجراء انتخابات برلمانية حرّة وتشكيل حكومة منتخبة من الشعب للمرة الاولى في ايران. وعلى رغم معارضة فريق من العلماء للمشروطة كالمرجع الديني السيد كاظم اليزدي ورفعهم لراية المستبدة او الحكم المطلق، او المشروعة ضمن الدستور الجديد لخمسة من المجتهدين موقع الاشراف على عمل مجلس الشورى الوطني ورفض اي قانون يخالف الشريعة الاسلامية . وظل موقع رجال الدين في الحياة السياسية الايرانية بعيداً عن السلطة على رغم انهم شهدوا حالات من التعاون مع الصفويين والقاجاريين الا انهم لم يستولوا على السلطة بشكل كامل من قبل، حتى قيام الثورة الاسلامية التي قادها الإمام الخميني عام 1979. وعندما قام رجال الدين الاصلاحيون في القرن الماضي بقيادة حركة المشروطة من اجل تقييد صلاحية الشاه المطلقة، لم يحاولوا ان يستبدلوا انفسهم به، وانما كانوا يهدفون الى دفع الشعب الى المشاركة السياسية، وبدت هذه الرغبة واضحة في الحركة الثورية التي عصفت بنظام الشاه محمد رضا بهلوي وفي الدستور الاسلامي الجديد الذي جاء نسخة متشابهة مع دستور 1906، واشتمل بصورة رئيسية على مبدأ تقسيم السلطة بين القوى الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية، واعطى للشعب دوراً كبيراً في المشاركة السياسية والمراقبة والتنفيذ. ومع ان مؤسس الجمهورية الاسلامية الإمام الخميني قبل الدستور الاسلامي الجديد الذي ضمن للولي الفقيه موقع الاشراف العام والقيادة العليا وخصوصاً قيادة القوات المسلحة، الا ان كثيراً من رجال الدين في ايران كالشيخ محمد المؤمن والشيخ الجواد الآملي والشيخ محمد اليزدي والشيج الجنتي قبلوا الدستور على مضض خوفاً من خسارة الجماهير لأن رجال الدين هؤلاء كانوا يريدون بناء نظام "اسلامي" خالص على اساس نظرية ولاية الفقيه، وكانوا يعتقدون بتعارض الديموقراطية والانتخابات ومجلس الشورى والفصل بين السلطات مع نظرية ولاية الفقيه التي كان يدعون اليها. وهناك بعض المؤشرات التي تؤكد ميل الامام الخميني في قرارة نفسه الى هذا الاتجاه، وانه لم يقبل بالدستور الا كضرورة موقتة، وقد احتفظ لنفسه بالحق في الغاء الدستور متى يشاء. ويذكر ان نظام ولاية الفقيه الذي يسمح للمجتهد العادل بتولي السلطة العليا في "عصر الغيبة" تطور على يد الامام الخميني من نظام المرجعية الدينية وكان يُعنى اساساً بالجوانب العبادية والشخصية والاجتماعية وشيء من الممارسة السياسية في حدود الحسبة كالفتوى التي اصدرها الميرزا الشيرازي عن التبغ او الفتوى الاخرى الشهيرة التي اصدرها تلميذه الشيخ محمد تقي الشيرازي لمقاومة الاحتلال الانكليزي للعراق والثورة عليه في سنة 1920. كانت نظرية المرجعية الدينية تتلفح بوشاح من القدسية وتتمتع كلمتها بقدر عال من الاحترام والتقدير في صفوف ابناء الطائفة الشيعية. واعتمد الامام الخميني على هذه النظرية في تطوير نظرية "ولاية الفقيه" وتحويلها الى نظرية سياسية شاملة تعطي للحاكم الفقيه مكانة سامية وتضعه فوق الشعب والدستور والقانون، وتركز بيديه كل السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية والعسكرية. ولئن كان الإمام الخميني لم يصرح برفضه للدستور الذي يحد من صلاحيته، حاول عملياً ان يتجاوزه باعلانه نظرية الولاية المطلقة في عام 1988، وقام بالهيمنة الفعلية على مجلس الشورى واستلحاق رئيس الجمهورية وجعله تابعاً ومقلداً له، كذلك فعل مع السلطة القضائية التي احتفظ بحق تعيين رئيسها واحداث محاكم خاصة محكمة رجال الدين تعمل خارج اطار الدستور. وعلى رغم ان المرشد الحالي السيد علي خامنئي كان يرفض تدخل الامام الخميني في اعمال الدولة عندما كان رئيساً للجمهورية، الا انه قام بالدور نفسه بعدما خلف الخميني في منصبه، مع انه ليس مرجعاً تقليدياً وغير معروف بالاجتهاد من قبل الا انه احتل منصب الإمامة وتلفع بهالة الولي الفقيه وهيبته. واخذ يرى لنفسه الحق ان يكون الرئيس الاعلى في ايران، في حين يحاول الرئيس محمد خاتمي ان يصبح رئيساً فعلياً للجمهورية استناداً الى صناديق الاقتراع. والمشكلة في الحقيقة ليست بين الرجلين، فقد حدثت سابقاً بين الإمام الخميني والرئيس السابق ابو الحسن بني صدر، وتكررت مع الرئيس خامنئي عام 1988 وتتكرر الآن بين خامنئي وخاتمي وسوف تتكرر في المستقبل. انها تكمن في ايديولوجيتين متناقضتين: واحدة ترى الشرعية لنفسها استناداً الى نظرية النيابة العامة للفقهاء وانها شرعية مطلقة غير مقيّدة بإرادة الناس او انتخابهم، وأيديولوجية اخرى ترى الشرعية صاعدة من الناس ومحددة بإرادتهم ومقيدة برغبتهم وبالحدود التي يرسمونها. لا ننكر محاولة بعض فقهاء قم التوفيق بين النظريتين والجمع بين الولاية والديموقراطية، وذلك باعطاء دور كبير للأمة لاختيار الولي الفقيه والتأكيد على عدم شرعية حكم الفقيه الا اذا انتخبته الأمة، والتشكيك بنظرية النيابة العامة المسؤولة عن الهالة القدسية التي يتلفع بها الفقهاء، باعتبار ضعف الاحاديث التي تستند اليها، وعدم دلالة الادلة العقلية على الولاية المطلقة للفقهاء. ولكن محاولة هؤلاء الفقهاء ذهبت ادراج الرياح في خضم الصراع على السلطة. ان القضية اليوم لم تعد جدلاً فكرياً يدور بين اروقة المدارس، وانما صراع شرس على السلطة، واذا كان الرئيس خاتمي يرفع شعار الحرية والديموقراطية وحقوق الانسان فمن الطبيعي ان يرفع المحافظون شعار الدفاع عن ولاية الفقيه. لذلك يرجح ان المعركة بين الطرفين ستستمر وسيحاول المحافظون وأنصار ولاية الفقيه تعديل الدستور والغاء منصب رئاسة الجمهورية او تحويله الى منصب هامشي تابع بصورة كاملة للمرشد، بينما تسمى الحركة الاصلاحية التي فشلت في تحقيق اهدافها في ظل هيمنة ولاية الفقيه، الى إحداث تغيير جذري في النظام والغاء منصب الولي الفقيه او تقليص دوره وقصره على القضايا الروحية والاخلاقية، هذا اذا سارت الأمور بشكل عقلاني وهادئ. واذا قدر للحركة الاصلاحية ان تشق طريقها في المستقبل، فإنها لن تستطيع ان تعتمد على الشعارات السياسية والظروف الاقتصادية من دون ان تعالج الجذور الثقافية لنظرية ولاية الفقيه، خصوصاً ما يتعلق منها بموضوع النيابة العامة للفقهاء الذي يقف وراء الأزمة السياسية والشعور بالتناقض بين الاسلام والديموقراطية. * كاتب، ورجل دين عراقي.