يعيش المجتمع الايراني أزمة حادة ويزداد الصراع بين الحكام والمحكومين عمقاً واتساعاً. إلا أن الصحف والاذاعات لا تتطرق على الأغلب الى هذا الصراع العام بل الى صراع محدود يتفاقم هو أيضاً كل يوم بين جناحي النظام أي المتشددين والاصلاحيين. وهنا يجب القول إن هذا الصراع الأصغر المحدود ليس "زوبعة في فنجان" بل يهدف الى الاحتفاظ بمصالح النظام ككل من جهة وبمصالح كل طرف من أطراف الصراع سواء سمي يساراً أو يميناً أو اصلاحياً أو شمولياً. وبما أن لهذا الصراع الأصغر آثاراً حتمية على مجمل التطورات في البلد، نرى أنه من الأهمية أن نلقي الضوء على التناقضات التي تدور في باحة القصر وبين أجنحة الحكم ذاتها. وها هي العناوين الرئيسة للأحداث خلال الآونة الأخيرة: - مصير الانتخابات في دورتها الأولى 18 شباط فبراير الماضي التي هُزم فيها رفسنجاني ما زال مجهولاً، وذلك نتيجة لمعارضة المتشددين الذين يسيطرون على أغلبية مقاليد السلطة بما فيها مجلس صيانة الدستور الذي يحق له أن يلغي نتائج فرز الأصوات. علماً أنه يصعب على المحافظين أن يبتلعوا نجاح الاصلاحيين وأن يقبلوا هزيمة رفسنجاني بالذات، الذي كان من المفترض عندهم أن يحصل على نصيب الأسد ويحرز رئاسة المجلس النيابي في الدورة المقبلة. حاول رفسنجاني المستحيل وأعاد المحافظون خلال الأشهر الثلاثة الماضية ولمرات عدة فرز العشرات من صناديق الاقتراع، وهدد مجلس صيانة الدستور بإلغاء كل نتائج الانتخابات في طهران ليتمكنوا من فرض رفسنجاني على الناخبين وبذلك أعطوا مثالاً لديموقراطيتهم! - نجح الاصلاحيون في الدورة الثانية للانتخابات في 5 أيار مايو الجاري أيضاً. - قام بعض القياديين في الحرس الثوري الباسداران بتوجيه انذار الى الرئيس الاصلاحي خاتمي، واعتبر الجميع هذا التحذير بمثابة تمهيد الطريق لانقلاب عسكري وبموافقة ضمنية من المرشد آية الله علي خامنئي. - تم اغلاق جميع الصحف الاصلاحية التي يبلغ عددها أكثر من 15 صحيفة واسبوعية واعتقال عدد من الصحافيين البارزين. - استغل المحافظون سيطرتهم على الاذاعة والتلفزيون لمهاجمة الاصلاحيين، كما تذرعوا بما حصل في مؤتمر للاصلاحيين في برلين للهجوم على الاصلاحيين وأصدورا الحكم باعتقال جميع من شاركوا فيه. - لعب الولي الفقيه، دور الحكَم ودافع عن "اسلامية" خاتمي وفي الوقت نفسه صرّح بعدم رضاه عمّا يقوم به بعض الوزراء، ويقصد بذلك ما يقوم به عطاء الله مهاجراني وزير الثقافة والارشاد. - اعتصام مجموعة كبيرة من طلاب الحوزة الدينية في مدينة قم احتجاجاً على دور الرئيس خاتمي، ومن جانب آخر قام 200 طالب ورجل دين من الحوزة الدينية نفسها بتوقيع بيان دفاعاً عن خاتمي. - تظاهرات عمالية تطالب بإلغاء قانون معاد للعمال صوّت عليه المجلس أخيراً، كما رفعوا شعارات لمصلحة خاتمي. - اشتباكات بين الشبان والشابات من جهة وغوغائيين من أنصار المحافظين في مدينة رشت - شمالي ايران. الا أن الأهم من بين هذه الوقائع هو هزيمة رفسنجاني في الانتخابات. كان للإيرانيين عهد مع الانتخابات منذ ثورة الدستور عام 1906، إلا أن الممارسات الاستبدادية طوال حكم الشاه البهلوي الأب والابن حتى سقوط النظام الملكي في 1979 أفرغت العملية الانتخابية من أي محتوى ديموقراطي. وبسقوط الشاه كان من المتوقع أن يسترجع الشعب اعتماده على النفس، وهكذا كان، إلا أن ممارسات النظام الجديد أثبتت للناس شيئاً فشيئاً أن النظام الاستبدادي الديني الجديد أيضاً بإيديولوجيته اللاهوتية لا يستند الى آراء الشعب ولا يقبل حكم صناديق الاقتراع. والشاهد على ذلك ما صرّح به أحد أقطاب النظام آية الله مهدوي كني، رئيس جمعية رجال الدين المحافظين، والذي اقترح إقامة حكومة اسلامية على غرار الخلافة، أي من دون الرجوع الى الانتخابات التشريعية. إلا أن الضغط الشعبي وجذور التطلعات الديموقراطية - ولو صورياً - لدى المواطنين، تسببا في ايجاد شرخ في هيكلية النظام وأوجدا تياراً اصلاحياً من بين أهل النظام، ما أنتج ظهور خاتمي كرئيس للجمهورية خلافاً لكل التوقعات التي عمل من أجلها المحافظون. مضت ثلاث سنوات على انتخاب خاتمي رئيساً للجمهورية، إلا أن موازين القوى لم تسمح له أن يفي بما وعد، بحيث أصبح هو أيضاً هدفاً للانتقادات من بعض انصاره، وقد يستغرب القارئ ما يجري في ايران نتيجة لعملية الشد والجذب بين أجنحة النظام. فمثلاً يقرر المجلس النيابي قانوناً إلا أن الحكومة لا تنفذه. وفي المقابل يتعرض رئيس الجمهورية لانتقادات وحملات شديدة في خطب الجمعة والبرامج الاذاعية وبعض الصحف المحافظة والرئيس لا يمكنه أن يحرك ساكناً دفاعاً عن نفسه. وملفّات التحقيق في اغتيالات سياسية دينية لا تحصى في السنوات الماضية ضد شخصيات من المعارضة أو ضد المثقفين العلمانيين أو ضد النشطاء من أهل السنّة أو البهائيين، كلها واجهت أبواباً مغلقة، لأن المحافظين يمنعون متابعة التحقيق. نتيجة هذا الوضع البائس هي النفور المتزايد لدى المواطنين تجاه النظام ككل، لما يرون من تدهور أوضاعهم المعيشية وإثراء أقلية تتمتع بالنفوذ في بعض أجنحة النظام. ورفسنجاني الشيخ أكبر هاشمي يشغل رسمياً رئاسة مجلس تشخيص مصلحة النظام، هذا المجلس الذي لم يكن له في الأساس دور قانوني كبير، إلا أن رفسنجاني سعى الى استخدام نفوذه في كل أجهزة النظام منذ اليوم الأول من قيامه وتمكن من توسيع دائرة صلاحيات هذا المجلس ونفوذه الشخصي، بحيث يبقى اليوم، وكما كان، الرجل الأول في الحكم الاسلامي في ايران. وتشير الدلائل منذ سنوات الى أنه كان يخطط لأن يكون رئيساً بلا منازع مدى الحياة. وليس من قبيل المصادفة ان الناس بعفويتهم وبذكائهم الجماعي المعتاد كانوا يلقبونه "أكبر شاه"، بسبب تمهيده الطريق لسلطة مطلقة على غرار السلاطين التقليديين في تاريخ ايران. إلا أن رفسنجاني لم يكن بإمكانه القفز فوق هذا الحاجز الضئيل الذي تبقّى للشعب، نعني الممارسة الانتخابية. فدخل معترك الانتخابات بدعايات لا تقارن مع أي من المرشحين، كما لم يسمع كلام الذين نصحوه بعدم ترشيح نفسه منعاً لنكسة قد يتعرض لها. وجاء حكم صناديق الاقتراع ليسقطه الى الحد الأدنى الذي لم يكن يتخيله أبداً. إنه كان مرشحاً ائتلافياً من كل التيارات المحافظة ومن تيار من المحافظين يسمى "كاركزاران" البناؤون، تيار ليبرالي اقتصادي قام بتنفيذ برنامج للتنمية طبقاً لما يوصي به البنك الدولي، تيار نشأ منذ البداية بمبادرة من رفسنجاني شخصياً منذ أن كان رئيساً للجمهورية لمدة ثماني سنوات ويتشكل من أصدقائه وعائلته، ويشرف أو يدير مباشرة الكثير من المؤسسات المالية الكبرى مثل البنك المركزي و"مؤسسة المستضعفين" التي تملك المئات من المصانع ومراكز الانتاج!. في عهد الشاه كانت هناك انتقادات ضد العائلة المالكة لضلوعها في مناصب وأرباح كبرى، وها قد حلّت محلها اليوم عائلات وأزلام رجال الدين الذين يسيطرون على المناصب وأهمهم عائلة رفسنجاني. يكفي أن نذكر مثالاً على ذلك: كان محسن هاشمي أحد أبناء هاشمي رفسنجاني في عام 1980 لم يصل الى سن العشرين وكان ينوي دخول الجامعة" إلا أن الجامعات في ايران كانت مغلقة لمدة ثلاث سنوات إثر ما يسمى بالثورة الثقافية التي تهدف الى "أسلمة الجامعة". ابن رفسنجاني لم يدخل جامعة طهران طبعاً ولم يشارك في الحرب الدائرة آنذاك مع العراق في حين أن آلاف الشبان كانوا مرغمين على الذهاب الى جبهة القتال والموت. فذهب ابن رفسنجاني الى بلجيكا ودرس الهندسة وتابع دورة دراسية في كندا. وعاد بعد خمس سنوات فقط وكان لا يتجاوز آنذاك 25 عاماً. واليكم المناصب التي شغلها مباشرة بعد عودته وحتى الآن: - مسؤول مشروع لصناعة الصواريخ في جهاز الحرس الثوري الباسداران. - مسؤول مشروع لصناعة صاروخ الشهاب الرقم 2. - عضو الأمانة العامة في هيئة صناعة الأسلحة الدفاعية. - رئيس هيئة التحقيقات الخاصة في مكتب رئيس الجمهورية. - رئيس مكتب رئاسة الجمهورية. - عضو الأمانة العامة للجهاد الجامعي. - رئيس المعهد الثقافي لنشر معارف الثورة. - رئيس مكتب رئاسة مجلس تشخيص مصلحة النظام. - المدير التنفيذي لمصلحة النقل في ميدان طهران المترو. نقلاً عن كتاب "تجاوز الأزمة" مذكرات هاشمي رفسنجاني، 1998، طهران، ص 45 بالفارسية. وكان رفسنجاني، منذ اليوم الأول لقيام النظام الحالي، أقرب الناس الى الخميني وهو الذي كان يتجرأ أحياناً على أن ينتقد ما كان يقرره الخميني، وبعد ثلاث سنوات من الحرب مع العراق حينما كان الخميني يميل الى وقف الحرب كان رفسنجاني هو الوحيد الذي أقنع الخميني بضرورة استمرار الحرب التي دامت خمس سنوات أخرى! كما كان وراء القمع الذي تعرضت له المعارضة بمختلف فئاتها اليسارية أو الوطنية في الثمانينات، ويشار الى ضلوعه في اغتيالات في الداخل والخارج ضد عناصر في المعارضة السياسية أو الدينية. وكان من شأن هذه الممارسات من رفسنجاني أو أمثاله من رجال الدين، أن تُفرغ الشعارات الدينية من محتواها ووصلت الى حد أن آلافاً من المواطنين، خصوصا الشباب منهم "يخرجون من دين الله أفواجاً"! وبعد عشرين عاماً من سقوط الشاه وإقامة النظام الجديد الذي بدأ بشعارات الاستقلال والحرية وانتهى باستقرار الجمهورية الاسلامية وشعارات وأوهام لإقامة مجتمع حر وعادل، يرى المواطنون في قيادة رجال الدين، ومن أهمهم رفسنجاني، السبب الأساس في جر البلاد الى هاوية البؤس والغلاء والفحشاء والرشوة وخصوصاً تفاقم الفوارق الاجتماعية التي لم يكن لأحد أن يتصورها أيام الشاه البائدة. مأزق رفسنجاني هو أساساً مأزق النظام. * كاتب ايراني مقيم في فرنسا.