للشعراء الكبار مهابة لا مثيل لها، مهابة لا يمتلكها حتى كبار الزعماء والقادة الموصوفين ب"التاريخيين"، حتى يمكن أن تثق أن هذا الوصل العظيم، لم يخلق سوى للشعراء الذين يصنعون تاريخاً ما ويدخلونه، وليس فقط يدخلون تاريخاً هو من صنع غيرهم، أو أنهم يدخلونه بحكم آلة اعلامية ضخمة، هي صانعة شهرتهم. وحضور الكبار كبير أيضاً. هكذا كان حضور الشاعرة العربية الفلسطينية فدوى طوقان، في الندوة التكريمية والحلقة النقدية ضمن مهرجان جرش. كان حضوراً كبيراً ومؤثراً حد البكاء، قبل أن تنطق كلمة، لمجرد الانتقال من نابلس الى عمان، حاملة ما يقارب خمسة وثمانين عاماً من العمر، وسبعين عاماً من الشعر، فكيف وهي تكثف هذا الحضور في اطلالة يومية، رقيقة وشفيفة، على جمهور متعطش للقاء شاعرة هي "أم الشعر الفلسطيني الحديث" ورائدة من رائداته، بل من رواده الذين أخذوه من كهوف التقليد، الى آفاق التجديد كما كان يراها ذلك الجيل من النسوة، ومن شاعرات تجاوزن شروط واقعهن القاسية. جاءت فدوى طوقان الى الشعر من باب المعاناة، ومن بوابة سجن البيت النابلسي، وهو البيت العريق الذي أغلقه الأهل عليها، منذ كانت في الثانية عشرة من عمرها، بسبب وردة تقبلتها، وهي عائدة من المدرسة، من "غلام" كان يتابعها في الحارة، ينتظرها صباحاً ويسير خلفها حتى تصل المدرسة. وينتظرها ظهراً ويسير خلفها الى البيت. وكان حرمانها من الدراسة بسبب الوردة، قد جعلها شديدة التعلق بالورد الجوري الأحمر. ثم كان سجن البيت فرصة للتعلم الذاتي الذي سيشرف عليه، بحب ورعاية وصبر، الشاعر الكبير، ذو القلب الرحب، شقيق الشاعرة، ابراهيم طوقان. وكانت فدوى تتطور سريعاً، تنتقل من شعر المناسبة الذي بدأت معه في سن الخامسة عشرة، الى شعر الحب والقضايا الوطنية، خارجة عن التقليد الذي ظل يرى في المرأة الشاعرة، عبر تاريخ الشعر والشاعرات العربيات - مع استثناءات قليلة - شاعرة لرثاء الرجال وحسب. وبعد البدايات المتباينة، جاءت مرحلة الأربعينات "مترجرجة مضطربة" كما تقول الشاعرة، وكان عليها، وعلى الشاعرات آنذاك، إدراك "اننا نشق طريقاً صعباً غير ممهد، وان شاعرات وشاعريات أكثر توهجاً ستسطع بعدنا وتضيء". ثم تأتي مرحلة النكبة 1948 وما تلاها، حاملة رياح التغيير التي ستحمل "المرأة الى آفاق الحرية والتعليم العالي، والانطلاق في مختلف الأصعدة، فأخذت المرأة العربية تلامس الحياة ملامسة حقيقية واقعية". ولتنتقل شاعرتنا من رومانسية الشعر، الى واقعيته ذات النفس الرومانسي، هذا النفس الذي سيظل يطبع تجربتها كلها، حتى آخر قصيدة كتبتها قبل حضورها الى عمان بأيام، القصيدة التي كابدت كثيراً في قراءتها لجمهورها، لكنها ظلت مصرة على القائها بصوتها المتهدج النحيل، صوتها الذي لم تمحه السنوات الطويلة من الإنشاد، بل أصرت أن تقرأها - مع كلمتها - في كل جلسة من الجلسات الثلاث في الحلقة النقدية، وكأنما تخشى أن يفوت سماعها واحداً من الحضور الجدد. في هذه القصيدة رغبة جامحة لدى الشاعرة أن تملك قدرة أن تقلب هذا الكون، وأن تفرغه من الشر، وأن تمسح بصمات الفقر، وتجفف أنهار الدم، وتمنح الأمن والاطمئنان، وأن تغرس بذور الحب، فتعرش أشجار الحب ويغيب كابوس الحرب. انها رغبة بلا حول ولا قوة. وفي ختام كلمتها ما يؤكد توجهها، حيث الشعر "حاجة انسانية حضارية لا غنى عنها للإنسان، لأن الإنسان خلق عاطفياً، وما دام عاطفياً فسيظل الشعر". وهذا ليس تأكيداً، فحسب، لمقولات العلاقة بين وجود الإنسان ووجود الشعر، التي قال بها الكثيرون، بل هي تأكيد على أن الإنسان هو عاطفة قبل أي شيء آخر. هذا التأكيد الذي يأتي بعد رحلتيها الجبليتين: الصعبة والأصعب. أهم ما في حضور فدوى طوقان هذا، هو تواضعها الكبير والفطري الذي يندر أن تجده لدى شاعر له قامة أقل من قامتها الإبداعية. وربما كان مدهشاً لمن لم يقابلها من قبل، هذه الطفولية العذبة التي يجري بها سلوكها، والأمومة الدافئة التي تضفيها على من يصافح يديها الذابلتين، إذ غالباً ما تستقبل بذراعين مرفوعتين للاحتضان والتقبيل، كأم أو كجدة رؤوم. هذا ما تعلمنا شاعرة رائدة وكبيرة، وليت مهرجان جرش يخصص حيزاً أكبر في كل عام لتكريم الرواد، بدلاً من الشعر الهابط الذي بات يتكرر كل عام، وبدلاً من الحضور الثقيل لشعراء لا يجيدون شيئاً سوى الإساءة للشعر وللشعراء، بتصيد النساء والاعتداء عليهن!