رسائل الناقد المصري (الراحل) أنور المعداوي الى الشاعرة الفلسطينية (الراحلة) فدوى طوقان تراودني في كل مرة أقرأها، وآخرها مع صدور طبعة دار الشروق المصرية من كتاب رجاء النقاش «بين المعداوي وفدوى طوقان: صفحات مجهولة في الأدب العربي». ويتمحور السؤال دائماً حول طبيعة العلاقة بين الناقد والشاعرة، وهل كانت حباً كما افترض رجاء النقاش أم مجرد صداقة. وسؤال العلاقة بين فدوى وأنور لا يقل أهمية عن سؤال العلاقة بين مي وجبران الذي أسال حبراً نقدياً كثيراً، ولا يزال، لأنه سؤال عن جزء مهم وفريد في السيرة الأدبية والشخصية لذوات مبدعة، يتجاوز العناية الظاهرية بشأن العلاقة الشخصية إلى أفق أكثر اتساعاً يتقاطع فيه النفسي مع الإبداعي مع الثقافي الاجتماعي في حقبة أدبية وزمنية معينة. كما تنبع أهمية السؤال من موقع كل من فدوى طوقان وأنور المعدّاوي في تاريخ الأدب العربي الحديث، وقد كان موقعاً ريادياً متقدماً سواء في الشعر بالنسبة لفدوى، أو في النقد الحديث بالنظر إلى الإنجاز المتميز الذي حققه أنور خلال حياته القصيرة. وكذلك تأتي أهميته من القيمة الفنية والتاريخية للرسائل التي تعدّ شاهداً موضوعياً وحيداً على طبيعة العلاقة التي ربطت أنور بفدوى، فهذه الرسائل قد استبطنت الذاتي والشخصي، بقدر ما استبطنت وقرأت الأوضاع الثقافية والسجالات الأدبية والذائقة الفنية والرؤى النقدية السائدة في زمانها. من جهة أخرى فإن سبر غور العلاقة التي ربطت بين فدوى وأنور قد يساعد في إضاءة بعض الجوانب المعتمة في شخصية الاثنين، طالما أن ذات المبدع أحد المداخل المعتبرة لفهم وتفسير إبداعه. كما يسهم في تأمل روح العصر وثقافته الأدبية والاجتماعية، وموقع المرأة المثقفة، وطبيعة علاقتها بالرجل في الوسط الثقافي في مجتمعات بلاد المركز (مصر والشام) خلال حقبة الخمسينات. بين الناعوري وكوليت خوري قرر رجاء النقاش في فترة مبكرة، وتحديداً في عام 1976 أن العلاقة بين أنور وفدوى كانت حباً متقداً، لكن الكاتب والناقد الأردني عيسى الناعوري خالفه في مقال صحافي راداً العلاقة بينهما إلى الصداقة والزمالة الأدبية وحسب. وعدا الناعوري، لم يُجابه النقاش بحسب علمي برأي مخالف يذكر، حتى غدت قصة الحب التي يفترض أنها ربطت بين فدوى وأنور أمراً مفروغاً منه لا يخضع لمناقشة أو مراجعة، بل ربما تم تحليل قصيدة لفدوى، أو تم تناول سيرة أنور ومأساة حياته وفي الذهن، كما فعل رجاء النقاش نفسه، ظلال وتأثيرات هذه القصة المفترضة. ويبدو أن ميل غالبية النقاد إلى تبني رأي رجاء النقاش له أسباب عدة، من بينها شهرة رجاء نفسه التي فاقت شهرة الناعوري، وكذلك انتشار رأيه لظهوره في الكتاب الذي احتوى رسائل أنور لفدوى وطُبع أكثر من مرة، أمام محدودية الصدى الذي أحدثه رأي الناعوري. والأهم كان وقوف فدوى بحزم ضد رأي الناعوري في سابقة طريفة محملة بالدلالات النفسية، ذلك أنها كتبت له رسالة في أعقاب نشر مخالفته لرجاء تقول فيها: «نعم كان هناك حب حقيقي وعبرت عنه بأكثر من قصيدة». ولما كان الناعوري احتج باقتصار العلاقة بينهما على الرسائل رغم زياراتها لمصر، فقد عددت فدوى في رسالتها للناعوري زياراتها لمصر زيارة زيارة، ذاكرة السبب الذي حال بينها في كل مرة وبين لقيا المعداوي! وغالب الظن أن فدوى كانت لحظتها مدفوعة بحاجة انفعالية لتكتب رداً بهذا الشكل، كتلك الحاجة الشديدة التي تدفع كوليت خوري حتى اليوم لتذكيرنا في كل إطلالة إعلامية بأنها وحدها كانت حب نزار قباني الكبير، مع وعد يتكرر كل عام بأنها ستنشر رسائله إليها في خمسينات القرن المنصرم. وكتلك الحاجة التي جعلت ديزي الأمير تشكو رجاء النقاش على صفحات المطبوعات متمنية عليه أن يفرج عن رسائل الشاعر السوداني محمد المهدي المجذوب التي سلمتها له. وأزعم أن رجاءً أو «حافظ أسرار الغرام» ذهب إلى ربه من دون أن يفعل لأنه ببساطة لم يجد في تلك الرسائل القيمة الأدبية والجمالية والتاريخية التي وجدها في رسائل أنور وإلا لنشرها بلا تردد. وما يستوقف المرء أن فدوى التي أنكرت في رسالتها على الناعوري إنكاره قصة الحب بينها وبين أنور، وفدوى التي سلمت بنفسها رسائل أنور التي كانت بحوزتها إلى رجاء النقاش ليتولى أمرها حائكاً حولها قصة الحب، هي نفسها فدوى التي تجاهلت كلياً في سيرتها الذاتية بجزأيها الأول والثانية («الرحلة الأصعب»، دار الشروق في عمّان)، الإشارة إلى هذه القصة، فهل كانت تريد من غيرها إثبات شيء لا تريد هي بنفسها أن تثبته أو تتحمل مسؤوليته المباشرة في سيرتها المخطوطة بيدها، الباقية بين الأيدي؟ لنتأمل متى بدأت فدوى تنطلق قليلاً في حواراتها الصحافية كأن تقول: «أحببت وكثر هم الذين أحبوني»... عندما أعطتها الشيخوخة حصانتها وجلالها. ربما كانت فدوى بحس براغماتي عال قد وعت أن المجتمع الثقافي الفلسطيني الذي دفع بها وعزّز مواقعها في الآلة الإعلامية العربية فصارت اسماً شعرياً كبيراً مع أنها توقفت عن الشعر قبل سنوات طويلة من وفاتها، لم يكن ليفعل لو كانت منطلقة أو متحررة في سيرتها الذاتية أو مخيالها الإبداعي أو حياتها الخاصة بشكل يصادم العقلية الفلسطينية المحافظة. هي، مثلاً، حين تحدثت في سيرتها عن اتصالاتها بالإسرائيليين كانت تعرف أن ذلك مهما كان حساساً للبعض فإنه لن يصل إلى دقة أو حساسية حديثها عن الرجل أو عن حياتها العاطفية. وما يقول باحث فلسطيني هو المتوكل طه يعبر بدقة عن ذلك: «سيرتها متحفظة، غامضة، ناقصة، المحذوف منها أهم من المكتوب والمعلن فيها». لكن السؤال المشروع الذي يهدف إلى فهم موقف فدوى لا الى إدانته هو: لم أسقطت أنور كلياً من سيرتها وهو عرّابها الأمين. لقد ضنت عليه بكلمة واحدة مع أنها لم تغفل أسماء عدة عابرة، حتى إنها تجنبت مجرد الإشارة الموضوعية البحتة للدور الكبير الذي لعبه في مسيرتها الشعرية، فهو من كان يقرأ قصائدها ويعطيها رأيه النقدي ويشجعها على مزيد من الإبداع. والأهم من ذلك أنه تولى بنفسه ديوانها الأول، متابعاً كل ما يتعلق به: من اختيار العنوان، إلى المراجعة، إلى اختيار الجهة الناشرة، إلى الصف والتدقيق، والإخراج الفني، واختيار صورة الغلاف، وفي ما بعد الإيعاز للوسط الثقافي في القاهرة بكتابة مراجعات للديوان أسهمت في قبوله وانتشاره! هل كان ما بينهما حباً أم قبولاً غير مشروط ومسامرة على الورق؟ كان شعور فدوى ربما سينصرف لأي شخص يبدي نحوها، وهي المحرومة، تلك الرعاية التي أبداها لها أنور، فهي اختبرت التسفيه والرفض الشديد في إطار عائلتها النابلسية المتزمتة التي تحكمت بها عقدة عدم الثقة في جنسانية الأنثى. ففي إطار ما سمّاه رايش الدراما المنزلية تشكلت شخصية فدوى، حيث لعبت أسرتها التي كانت نموذجاً على المؤسسة القمعية دوراً حيوياً في نشوء كبتها. ففدوى كانت متعطشة إلى التعاطف والقبول غير المشروط بمعناه الروجرزي (عند كارل روجرز) أو بمعناه عند رولو ماي: «أن تفضي إلى شخص بأفحش أفكارك وأدق أسرارك وأخفى أحزانك وتفاهاتك وأهوائك ثم تبقى مقبولاً محترماً من جانبه»، فماذا حين يأتي هذا من ناقد شاب ذكي وسيم متأنق كان ملء السمع والبصر كأنور المعدّاوي؟ إن علاقة أنور بفدوى كانت علاقة على الورق بالمعنى الفعلي، فهما لم يلتقيا مطلقاً ولا مرة واحدة. والذي يستشفه المرء من حياة فدوى الضاغطة أن ذلك النوع من العلاقة القائم على المراسلة كان يلائمها في مرحلة ما من حياتها ويريحها نفسياً، إذ يمنحها لذة الشعور بوجود الرجل إلى جانبها من دون أن يترتب على هذا الوجود أي تبعات أو مسؤوليات تثقل كاهلها ولا يمكنها الوفاء بها كتلك المترتبة على العلاقات العاطفية العادية. وهي إن كانت اعترفت بهذا الأمر اعترافاً صريحاً إلا أنها قصرته على فترة المراهقة إذ تقول: «كانت مراهقتي العاطفية حادة مشتعلة، نفس مكبوتة تتفتح لأول كلمة حب تأتيها على صفحة رسالة. حب بالمراسلة... كنت أقع في هذا اللون من الحب الخيالي وأغوص فيه، وبيني وبين التجربة الواقعية جدران القمقم». لكن المؤكد أنها حين ارتبطت أيضاً مع الشاعر المصري إبراهيم محمد نجا، كانت لا تزال داخل القمقم، فلم تتجاوز علاقتها به الورق، إذ إنهما لم يلتقيا أبداً، بشكل يجعل المرء يعتقد بأن الحب عن بعد كان اختيار فدوى الشخصي، أو بمعنى أدق اضطرارها، في فترة معينة من مشوار حياتها، وليس مصادفة ترتبها لها الأقدار. أنور وعى جيداً تركيبة فدوى النفسية وشرطها الاجتماعي، فهو عندما كتب فصلاً مهماً في مؤلفه عن الشاعر علي محمود طه، عنوانه: «أثر المرأة في حياته»، مازجاً فيه بين التفسير الأدبي والنفسي، كان مثل من يتحدث لاشعورياً عن علاقته هو بالمرأة وخبرته بها، قبل أن يتحدث عن منقوده أو عن أي شخص آخر. يقول أنور عن طه: يعف عن المرأة حين يدرك بفطنته أو بإنسانيته أنها ليست بائعة جسد... كان يفرق بين الصديقة وبين العشيقة، بين امرأة خُلقت للحب الروحي وبين امرأة خُلقت للحب الجسدي». ويقول في تعليقه على إحدى قصائد الشاعر: «هذا نموذج من النماذج الأنثوية التي كانت تعترض طريقه فلا تثير في نفسه نزوة من نزوات الغريزة وإنما تنحصر الإثارة في دائرة القلب الذي يتسع للعطف والرحمة... بدت لعينيه وهي إنسانة مضيّعة... شريدة تلتمس المأوى... وعندئذ نام في أعماقه الرجل واستيقظ الإنسان». ثم يتابع وكأنه يعطي دليلاً أو مرشداً للرجال من بعده: «امرأة تقبل بكيانها اللافح فهو إقبال الجسد، وامرأة تقبل بوجهها البريء فهو إقبال الروح، وامرأة تقبل بحديثها المصفى فهو إقبال الصداقة، وامرأة تقبل بنظرتها الكسيرة فهو إقبال من ترتجي العون وتنشد المساعدة... وكل هذه النماذج الأنثوية قد مرت به فاختلف إزاءها الحس والعاطفة». ومع أن هذا التقسيم نظري بحت ليست له قيمة إجرائية، لأن المرأة قد تقبل على من تحب في هذه الحالات كلها من دون فجاجة أو تناقض بينها، إلا أن بيت القصيد أن أنور قد أدرك منذ البداية أن فدوى لن يتجاوز وجودها في حياته وجود صديقة تبعث إليه برسائلها الرقيقة وتستقبل منه مثلها، وهي بشخصيتها وحياتها العائلية القاسية، أنامت الرجل في أعماقه وأيقظت الإنسان، ولم تثر في قلبه كامرأة سوى مشاعر العطف من دون أن يلغي ذلك إعجابه بها كشاعرة موهوبة تشق طريقها. أين فدوى من غادة؟ فدوى لم تكن لديها مشكلة مع جسدها أو مع مشاعرها، لذا لا معنى لاستدعاء كل الإرث – إن كان لفرويد أو لهيلين دويتش- الذي يفسر علاقة المرأة بالرجل من خلال عصابيتها أو حتميتها البيولوجية. ومن هنا يصبح اتجاه كارن هورني لتحليل المشروطية الاجتماعية، أو تنظير شير هايت لفهم قصة النساء مع الحب أكثر مصداقية وجاذبية، إذ تكون العلاقة العاطفية بالنسبة لأي امرأة ليست فعلاً رومنطيقياً أو إيروتيكياً، بل هي فعل ثقافي بحت، بمعنى أن المرأة تبني علاقتها مع الرجل بطريقة تعكس، على نحو مثالي، النظام الاجتماعي القائم والقيم الثقافية السائدة. بناء على ذلك فإن شرط فدوى الاجتماعي حين تغير، أو حين تحررت من منظومة القيم الثقافية التي نشأت فيها وسافرت إلى بريطانيا، عرفت الرجل عن قرب بشكل أو بآخر. وقد صرحت في السنوات الأخيرة من حياتها بأنه كان مصرفياً إنكليزياً متزوجاً. كما صرحت بأنها عرفت أيضاً موظفاً في إحدى السفارات الأجنبية. نعم هي حولت الإنكليزي في سيرتها إلى شبح يطوف معها في غابة أو كاتدرائية، بلا هوية ولا روح ولا ملامح ولا حتى اسم، مكتفية بأن ترمز له بالحرف A، لكن ذلك يأتي متناغماً بشكل عام مع سيرتها التي أرادتها متحفظة للسبب الذي ذكرته آنفاً، ويتعلق باستفادتها من قبول ودعم الوسط الثقافي الفلسطيني المحافظ في وقت مبكر كانت فيه بأمس الحاجة للقبول والدعم. يمكن المقابلة بين شخصية فدوى التي تشكلت تحت طاحون الضغط والقهر الاجتماعي بحسب تعبيرها الحرفي وشخصية غادة السمان مثلاً، ليتبين كيف يمكن لحياة المرأة العاطفية وحياتها الإبداعية معاً أن يكونا أحد تجليات الثقافة، أو المنظومة القيمية والسيكولوجية الأصلية أو الحادثة بفعل تبدل شروط حياة المبدعة. وعلى هذا الأساس قد لا يكون عسيراً فهم اختباء ليلى بعلبكي التام بعد أن أحدثت خضة لجيل الخمسينات، أو انسحاب نازك الملائكة وانقلابها على ذاتها بعد ثورتها الشعرية الراديكالية، إلى حد جعل الناقدة العراقية فاطمة المحسن تقول إن دخول نازك في الحياة الزوجية كان إيذاناً بانتكاساتها الأدبية. هل يوجد حب في ظل غياب كلي للحضور الجسدي؟ إن الجسد هو أحد أبعاد الشخصية المهمة والحاسمة في تشكل وتطور العلاقات بين الأشخاص، وهي العلاقات التي تتدرج من علاقات العمل والصداقة إلى علاقات الحب والارتباط العاطفي. وتهميش الجانب الفيزيولوجي لوجود الإنسان في العلاقات العاطفية مقابل الجوانب الأخرى من عقلية وروحية ليس أكثر من اتجاه طوباوي مبتذل ليس له أي اعتبار علمي أو واقعي، لأن الجسد لا يتحدد بالمستوى البيولوجي فقط من طول ووزن وشكل ولون وملمس ورائحة وملامح، بل هو محصلة تفاعل هذا المستوى مع مستويين آخرين: اجتماعي ووجودي. ومن هذا التفاعل ينتج الجسد المعاش الذي يعكسنا أو يمثلنا ويموضعنا داخل التجربة العاطفية. وفي علاقات الشراكة يكون للجسد عالمه الموغل في العمق، وله لغته الصريحة والرمزية، وله خريطته المعقدة من الأفكار والمشاعر والدوافع والانفعالات، التي تفصح عن حقيقتها وتجد ما يكافئها حين يكون حضوره حقيقياً وليس متخيلاً. فالتعبير عن أعمق مشاعر الحب يتم بالجسد ومن خلاله، فهو الذي يعطي معنى وأبعاداً للغة اللفظية، وحين تقمع الثقافة التعبير اللغوي عن المشاعر والرغبات العاطفية، يبدع الجسد في لغته التعبيرية والرمزية. ولكن أين يأتي مكان أنور وفدوى أو أين نضعهما، حين نحاول مقاربة معنى الحب؟ بحسب نظرية إلين هاتفيلد هناك نوعان أساسيان من الحب لا يبدو بأن أي منهما يفسر شأن العلاقة التي ربطت فدوى بأنور. الحب المشبوب Passionate Love والحب الفائض بالحنان والرحمة Compassionate Love. الحب المشبوب قد لا يُعمّر طويلاً، ويمتاز بحدة مشاعر الحب وكثافتها، وبالقلق والشغف والجاذبية الحسية، والفرد فيه يختبر الاستثارة الفيزيولوجية الداخلية في حضور الحبيب وقربه. وهذا الحب يحدث حين تكون الثقافة المجتمعية، أو ثقافة الفرد الخاصة، من النوع الذي يُعلي من قيمة الحب، أو على الأقل يتسامح مع الدخول في تجربته، وكذلك حين يقابل الفرد شخصاً يملأ عينه حسب التعبير الدارج، ويملأ عقله أيضاً. النوع الثاني الذي قد يأتي في الظروف المثالية مترتباً على النوع الأول، أو قد ينشأ مستقلاً بذاته، هو حب رقيق، يميزه الشعور المتبادل بالأمان والثقة، وتكون فيه العاطفة المتبادلة هادئة، لكنها عميقة ومستقرة وأكثر ميلاً نحو الديمومة. طبعاً لا حاجة للقول إن الجاذبية الجسدية والاستثارة الفيزيولوجية ومشاعر الشغف الحقيقي ستنعدم أو تكاد في العلاقات الشبيهة بعلاقة فدوى وأنور، ناهيك عن الشعور المتبادل بالعواطف العميقة المستقرة التي يدعمها الإحساس بالأمان والثقة. وتشبيه كثير من النقاد ومنهم رجاء النقاش نفسه قصة فدوى وأنور بقصص الحب العذري ليس صائباً، لأنهم يغفلون أنه في حال تراث العذريين وقصصهم لم تنعدم قوة العاطفة ولا الشغف ولا دفء اللقاء ولا حميمية الحضور الجسدي، لكن الوصال هو الممتنع لجملة من الأسباب المركبة ليس هذا مجالها. أمام الرسائل كتب أنور لفدوى على مدى ثلاث سنوات تقريباً سبع عشرة رسالة، إذ كانت الرسالة الأولى بتاريخ 26/11/1951، في حين جاءت الرسالة السابعة عشرة والأخيرة بتاريخ 13/9/1954، ولم تظهر أي إشارة حب صريحة من أنور بإقرار رجاء نفسه سوى في الرسالة الثالثة عشرة التي كانت بتاريخ 12/8/1953. وهذا يعني أن عامين مرا تخللتهما اثنتا عشرة رسالة، أو ما نسبته 70 في المئة من حجم المراسلة، قبل أن يذكر أنور شيئاً عن الحب، وهذا أمر لا بد من أن يستوقف الباحث. وحتى الرسائل الأربع الأخيرة التي كتبها أنور إلى تاريخ انقطاعه النهائي لم يحدث فيها تجديد حاسم أو تصعيد للإشارة الواردة في الرسالة الثالثة عشرة. وواضح أن لهذه الرسالة أهمية خاصة عند رجاء ودوراً مركزياً إلى حد أنه جنح إلى المبالغة في التعليق عليها ليؤكد قصة الحب المفترضة. فهناك فرق كبير بين أن يقول أنور لفدوى في هذه الرسالة إنه يشعر بأن ما بينهما في الأيام الأخيرة: «شيء فوق الصداقة، وفوق الإعجاب» وبين أن يأتي رجاء معلقاً على هذه الجملة بقوله: «يقول المعدّاوي إن العلاقة بينهما قد وصلت إلى درجة عالية من الحب العنيف»! وحتى إشارة أنور للحب التي وردت في هذه الرسالة جاءت في معرض تبريره لانقطاعه عن فدوى مدة قاربت العام، فهو يذكر الآن بأن السبب الذي دعاه لينقطع عنها كان شعوره بأن العلاقة تحولت إلى «حب بغير أمل». لكن من المعلوم أن الإنسان بوعي أو من دون وعي قد يبالغ في إظهار مشاعره إذا كان في موقف اعتذار من شخص عزيز عليه، لأن قراءة ما قبل الرسالة الثالثة عشرة وما بعدها، وأقصد على نحو خاص الرسالة الثانية عشرة، والرسالتين الرابعة عشرة والسادسة عشرة، تبين في شكل جليّ أن المرض كان قد اشتد على أنور، وغني عن القول بأن نوبات الألم الشديد التي كانت تهاجمه ووصفها لفدوى كفيلة بأن تشغله عما سواها، فانقطاعه عنها كان لانشغاله بنفسه أو لدواعي المرض وما يرتبط به من آلام جسدية ونفسية، وليس خشية من «حب بلا أمل» كما زعم لها معتذراً. بل إن فدوى ذاتها في الرسالة التي كتبتها لرجاء النقاش حين سلمته رسائل أنور، ذكرت أنها ضاقت ذرعاً في العامين الأخيرين من انقطاعه المفاجئ ثم عودته معتذراً بالمرض، وهو العذر الذي لم تصدقه. ومع أن رجاء النقاش جزم بأن العلاقة بين أنور وفدوى كانت حباً عنيفاً، إلا أن القارئ للرسائل - وهذا شيء في منتهى الغرابة - لن يجد عبارة واحدة قال فيها أنور لفدوى بشكل مباشر صريح: «أنا أحبك» أو عبارة واحدة سألها فيها: «هل تحبينني؟» كما يفعل المحبون على سبيل التشوق والتوجد من دون ملل في كل زمان ومكان، وكأنما العبارة والسؤال: «أنا أحبك... هل تحبني؟» يولدان في كل مرة بمذاق مختلف وإحساس جديد لا يفقد دهشته. تحفل رسائل أنور بالتوجيهات والنصائح لفدوى، كما تحفل بالأحاديث والآراء الثقافية والنمائم البريئة والحكايا الشخصية. وخلال هذه الرسائل التي امتازت بكونها قطعاً أدبية راقية، يحرص أنور على الكتابة لفدوى بحساسية عالية مع أنها رسائل شخصية لم يدر في خلده أنها ستنشر يوماً. فعل ذلك لأنه يعرف بأن فدوى ليست امرأة مكررة أو عادية، بل مثقفة ومبدعة يلزمها أسلوب خاص وذوق مرهف ولغة قد لا تلزم سواها. ومشاعر أنور في هذه الرسائل تظهر كخليط من الود والصداقة والإعجاب والأخوة أيضاً. فهو ختم رسالته الأولى بقوله: «ولك يا أختاه مني تقدير»، ليحافظ على هذه النغمة الأخوية في رسائل أخرى عديدة. فالرسالة التاسعة يختمها قائلاً: «ولك أيتها العزيزة الغالية أعمق مشاعر الأخوة». وفي الرسالة العاشرة كتب: «أنا عاجز عن شكرك يا أختاه لأني أمام فيض من العاطفة الأخوية». بل إنه في الرسالة الثامنة وفيما يظهر أنه رد منه على إحدى رسائلها يقول لها بأن إحساسها نحوه هو: «إحساس الأخت نحو أخ يود من أعماق قلبه أن يملأ بعض الفراغ الذي تركه أخوك وأخي... إبراهيم طوقان». وهنا بالذات يبدو بأن أنور كان يعرف جيداً بأن فدوى انطلاقاً من ظروفها الموضوعية ودوافعها التي تعرضت للكبت طويلاً لم تكن في تلك الفترة من حياتها تبحث في الرجل عن الحبيب، بل كانت تبحث عن الأخ المفقود الذي كان سندها وملاذها في مواجهة الجبروت العائلي، أو عن فردوسه الذي فقدته قبل الأوان. فهي تصف شقيقها إبراهيم بينبوع الحب والعطف، وتقول عنه إنه عوضها عن أب لم يشعرها أبداً بدفء عاطفته، وتشبه إشراقة وجهه على حياتها بإشراقة وجه الله. فإبراهيم الذي توفي عام 1941 عن عمر ناهز السادسة والثلاثين، انتشل فدوى من جحيمها العائلي، ولعب بجدارة دور الأستاذ والمربي والموجه لشقيقته التي أُخرجت من المدرسة وأُقعدت في البيت باكراً، حتى صدقت مقولة: لو لم يكن إبراهيم ما كانت فدوى. هذا طبعاً لا يلغي أن فدوى توفرت على سمات نفسية عالية مثل: ضبط الذات والكفاءة والتنظيم والالتزام بالواجب والمثابرة في سبيل الإنجاز وتحقيق الأهداف، مما يعني أنها كانت أرضاً خصبة لغرس شقيقها الذي كان تقدمياً متحرراً بمقاييس عصره وعصرنا. لقد شكلت الرسائل التي كان يرسلها إبراهيم لشقيقته في أثناء إقامته خارج نابلس دروساً خصوصية، تعلمت منها أصول النحو والصرف والعروض وكتابة النثر. والمتتبع لرسائل أنور لها التي بدأت بعد ذلك بسنوات سيلاحظ لغة التوجيه والتهذيب، فهي بدأت تتعلم وتتهذب على يد أنور، كما سبق وتعلمت وتهذبت على يد إبراهيم. وأنور بدأ يرعى موهبتها ويوجهها مثلما سبق وفعل إبراهيم، كما لو كان هناك تماهٍ بين الرجلين لصالح صورة الأخ. فالشعور الأخوي كان ظاهراً للعيان في رسائل أنور، وحتى حين بدأ ظلال من العاطفة تتسلل، كان ذلك مزيجاً مركباً من الإعجاب والمودة والامتنان، لكنه ليس حباً أو عشقاً. وأفترض أن ذلك أيضاً كان حال رسائل فدوى (المفقودة)، وإلا لجاءت ردود أنور قطعاً مختلفة. فمن المستبعد وغير المعقول أن تكون فدوى قد بثت أنور مشاعر الحب من دون أن نجد صدى لذلك في رسائله المتوفرة بين أيدينا، سواء تمثل ذلك الصدى في التجاوب، أم في الممانعة الخفية أو المهذبة. الاستدلال ليس صحيحاً... وقصص الحب لا تنتهي بيسر وسلاسة: قال رجاء النقاش إن حماسة أنور لديوان فدوى وسهره على نشره وقيامه على حراسة اسمها في الحياة الأدبية دليلاً على أنه أحبها، لكن هذا قول تنقصه الدقة لسببين، الأول: أن أنور كان أريحياً من عادته مد يد العون والمساعدة للأدباء والمثقفين في مصر والعالم العربي، والتعريف بهم وبنتاجهم الأدبي. هكذا فعل أنور مع نزار قباني. كما كان مع سيد قطب في مرحلته النقدية قبل تحوله الدراماتيكي أول من لفتا النظر إلى نجيب محفوظ. أما سهيل إدريس فقد كان أميناً مع نفسه ومع التاريخ، فأفرد في سيرته الذاتية فصلاً كاملاً بعنوان «أنا والمعدَاوي» اعترف فيه اعترافاً واضحاً لا لبس فيه بأفضال أنور عليه، سواء في التعريف به وبنتاجه الأدبي، أو في مساعدته على إنجاز أطروحته في الدكتوراه. والسبب الثاني وهو لا يقل أهمية عن سابقه: أن أنور الناقد قد وجد في ديوان فدوى الذي تبناه ونشره تمثيلاً وتطبيقاً لنظريته التي سماها «الأداء النفسي»، وأي ناقد في مكان أنور سيعنيه أن يتبنى عملاً إبداعياً يصب في مصب مذهبه النقدي. وهذا ليس بنادر في الحياة النقدية العربية، إلى حد تبني أدب ليس بذي مستوى لأنه يخدم طروحات نقدية معينة لأصحابها. إن قصص الحب تمر قبل نهايتها بمرحلة احتضار طويلة نسبياً، يتخللها انقطاع وعودة، ثم عودة وانقطاع، بسبب شدة التعلق المتبادل، وعدم احتمال طرفيها عذاب الهجر ولوعة الفراق. فالشريكان العاطفيان لا يسلمان سريعاً بانتهاء العلاقة، فهناك عملية شاقة من المقايضة والاستجداء والوعود. أما فدوى فقد أنهت قصتها بمنتهى اليسر والسلاسة، إذ تقول في الرسالة التي كتبتها لرجاء حين سلمته رسائل أنور: «لم أرد على آخر رسالتين بعث بهما إلي، وصممت على رفع جدار بيني وبينه، وكانت النهاية عند هذا الجدار المصمت». وهذا يفسر مغزى عبارة مهمة لعز الدين المناصرة وقد التقى بفدوى طوقان عام 1966، بعد مضي ثلاث سنين على وفاة المعداوي إذ قال: «كان كلامها – أي فدوى - يوحي بأكثر من حزنها على رحيل ناقد وأقل من حزنها على حبيب»! حين اكتشفت إليزابيث كوبلر روس النموذج الذي يصور دورة الحزن، أو المراحل الخمس للحزن ،The five stages of grief فقد كان ذلك من مشاهداتها للمحتضرين على فراش الموت. بينت الدراسات النفسية بعد ذلك أن الأفراد يمرون بهذه المراحل الخمس في كل محنة شخصية جسيمة، وفاة عزيز مثلاً أو خسارة صديق أو الطلاق أو نهاية علاقة عاطفية وغيرها من الأحداث التراجيدية، كفيلة بأن تدخل الفرد في دورة الحزن التي وصفتها كوبلر روس. الإنكار في المرحلة الأولى ثم الغضب ثم المساومة ثم الاكتئاب ثم القبول كمرحلة خامسة وأخيرة. لو أخذنا علاقة حب تلفظ أنفاسها الأخيرة، فإن الفرد يبدأ بآلية الإنكار، لا يعترف بالواقع ويعتقد أنها أزمة موقتة وستعود العلاقة إلى طبيعتها، شيئاً فشيئاً يدخل في مرحلة الغضب حانقاً على الظروف التي جمعته بالطرف الآخر، متسائلاً عن العدالة في ما يحدث له من ألم، ثم تأتي مرحلة المقايضة رغبة منه في تأجيل الفقد، وفيها تظهر الوعود التي يقطعها للطرف الآخر: أرجوك أعطني فرصة أخيرة وسأكون الشخص الذي تريد. لكنه ما إن يدرك أن العلاقة منتهية لا محالة حتى يدخل في المرحلة الرابعة التي تتميز بمشاعر الإحباط والقنوط واليأس، تمهيداً لوصوله إلى المرحلة الأخيرة التي يتقبل فيها الخسارة مدركاً أن الحبيب ذاهب إلى حال سبيله لا محالة، محاولاً استخلاص المعنى من التجربة، وهذه المرحلة تنتهي بمشاعر الراحة والسلام. وكثيراً ما يختبر العشاق - النساء على وجه خاص- في مرحلة ما من دورة الحزن ما يُسمى بزملة القلب المُحطم Broken Heart ،Syndrome الذي بدأ الاعتراف به إكلينيكياً في العقدين الأخيرين، إذ يترتب على الهجر أو انهيار العلاقة المعاناة من بعض الأعراض العضوية والنفسية، كالآلام في منطقة الصدر وضيق التنفس وآلام المعدة والدوار والغثيان والشعور بالإنهاك والأرق وفقدان الشهية ونوبات البكاء ومشاعر الوحدة والانكسار واهتزاز صورة الفرد عن ذاته وفقدانه للقدرة على الاستمتاع بمباهج الحياة. وكما رأت كوبلر روس المحتضرين يساومون في صلواتهم: «اشفني يا رب وسأقترب منك أكثر»، فإن العشاق يساومون بعض على طريقتهم أيضاً. على رغم هذا فقد قررت فدوى في شكل مفاجئ أو صممت بحسب تعبيرها الحرفي على عدم الرد على رسالة أنور السادسة عشرة بتاريخ 12/5/1954، الطافحة بالألم والمزاج السوداوي، وبعد مضي أربعة أشهر وتحديداً في 13/9/1954 كتب لها أنور رسالته الأخيرة التي انطوت معها صفحة المراسلة بين الاثنين إلى الأبد. * ناقدة سعودية والمقالة هذه مقتطفة من دراسة طويلة لها.