تتطرق الراحلة أروى صالح في كتابها "المبتسرون" بتوسع الى علاقة المناضلين المصريين من ابناء جيل السبعينات بسابقيهم من الماركسيين من أبناء جيل الستينات والذين استوعبهم النظام الحاكم في داخله من طريق الاجبار، بعد سنوات طويلة من القمع. "هناك مقعد دائماً في مجلس العدم الماركسي الباحث عن دور. كان مثل هذا المثقف في الستينات هو ذلك الذي حددت له سلطة عبدالناصر دوره، اعتقلته مدة كافية ثم اخرجته وعينته في إحدى مؤسساتها العامرة في ذلك الزمن، وكان ملزماً أن يغني في قفص أو ينزوي في عزلة غامرة جدرانها الشعب ذاته الملتف حول الزعيم. فاكتفى بنصف أغنيته ولم يغفر لنفسه ذلك أبداً، ربما أكثر من جميع من دانوه ... ومن سخرية الحياة المرة إن جيلنا يتساقط ناسه اليوم على موائد العدم بالجملة، من دون أن يكون قد سمعهم أحد يشدون حتى بربع أغنية، وما زالوا يبحثون عن دور أصغر كثيراً من الذي حققه مثقفو الستينات الذين أشجونا أدباً وشعراً يخترقان الحزن الصادق، فيهما كل الأكاذيب، ويضعون فناً يستحق هذا الوصف بل يعدون مشاريع عملاقة أحياناً. لكن التاريخ لم يمهلهم وعاجلنا قبل أن نبدأ، فنحن ابناء الزمن الذي فقد فيه حتى الحزن "جلاله"، صار مملاً هو الآخر". وعلى رغم التناقضات والكراهية بين جيل الستينات وجيل أبناء السبعينات إلا انه توجد بينهما عناصر استمرارية بل "وراثة". انقسم جيل الحركة الطالبية الى تيارات: اليسار المتطرف، ويمين اليسار وكل ما بينهما. ويتبادل الطرفان الاتهامات وعبارات الكراهية من دون أي مبرر، لأنها ليست تعبيراً عن الواقع الخارجي. وكانت هذه الخصومات استمراراً للخلافات التي تركوها في معسكرات الاعتقال المصرية في الخمسينات والستينات. حيث تجادل الشيوعيون حول أمور لا تستحق كلها التقدير. خلافات أصلها جميعاً في عالم اليساريين المنغلق تحت ظروف الحصار والهزيمة. لقد قدموا لنا لبناً مسموماً من دون أن يمكنونا من التجربة في الواقع الحي. فكان الانفصام سابقاً لنمو الحركة الطالبية وهي ورثته جاهزاً ومعدة حتى قبل أن يقول الواقع كلمته. وفي ظل غياب "القاعدة الشعبية" امتازت مواقف التيارات الماركسية في الستينات بالجمود الأيديولوجي وتلاوة النصوص. إضافة الى ذلك كان ماركسيو الستينات مثل جميع الحركات الشيوعية العالمية أبناء عصر الحرب الباردة والروح الستالينية التي حولت الماركسية الى "ديانة رسمية" تحمل وجهاً واحداً فقط للحقيقة. وقد صاغ هذا النموذج الشيوعيون في الدول الأوروبية ذات التقاليد الديموقراطية "فما بالك ببلادنا، التي لم تعرف من قبل حركة عمالية قوية مستقلة جديرة باسمها". أما جيل الحركة الطالبية فاستقى هو الآخر بعض الاتجاهات الستالينية التي أدت مع مرور الزمن إلى شبه كبير بينه وبين المجتمعات الدينية الاسلامية. واتخذ مصطلح "الصفوة" التي تحمل الوعي للجماهير، معنى فاشياً، عزل هذه الصفوة وخلق حاجزاً بينها وبين العامة. نشهد إذاً على ظاهرة مأسوية وساخرة في الوقت نفسه لجماعة ثورية تتباهى بأن تنطق باسم الجماهير لكن تلك الجماهير لا تتبعها. العامة في مصر "لم يتصوروا أن أحداً غير عبدالناصر قادر على إدارة حرب ضد الاستعمار". ولم يتصوروا ابداً أنه عندما يدعو الطلاب الى حرب تحرير شعبية، فالمقصود طريقة مستقلة عن نظام الحكم. "لقد صفق الشعب للحركة الطالبية، لكنه لم يفهم رسالتها فقد كان ملتفاً حول قضية قومية لم يعرف عنها غير الذي سمح له النظام الحاكم بمعرفته". تطرح أروى فكرة توحي بأنه "يحتمل أنه لو كان وضع اللاسلم واللاحرب قد استمر فترة أطول لكان من الممكن أن تتطور الحركة الشعبية المستقلة". لكنها تدرك أن ذلك لا يمكننا من فهم التاريخ. وأن "من من الحكام سوف ينتظر أن تنمو الحركة الشعبية على حسابه؟". وتقرر "ان السادات لم ينتظر. وان الحركة الطالبية هي التي عجلت عملية السلام وأجهضت تلك البداية". هكذا وصلت الحركة الطالبية الى نهايتها الحتمية وغير المشرفة. وتصف أروى بسخرية أبناء جيل السبعينات الذين وجدوا طريقهم في العودة الى المؤسسة البورجوازية. والمثقف الذي يميز هذا الجيل هو الشخص عديم التقاليد الأخلاقية "وهو يرفض التقاليد الأخلاقية الموجودة في المجتمع، لكن أخلاقاً مختلفة لم توجد بعد ... لذلك يقفز من الأخلاق البورجوازية الى الهواء الطلق حيث يكتشف نعيم الحرية ويجمع كل عيوب أخلاق الطبقات، حينئذ يطلق لحيته ويدعو نفسه "مغترباً" وفي النهاية ينجح في الحصول على مقعد محترم في احد المجالس الادارية، وبعدها يحلق ذقنه ويتمسك بادعاء أن العدم هو الحقيقة الواحدة والوحيدة. وفلسفته السابقة لا تمنعه من الافراط في الأكل والشرب في مجالس الطبقات التي صعد اليها بفضل تمرده عليها وإدانته لها ... بل يتمتع نفسه باحتقار من زالت أوهامه عنها". على هذه الخلفية، خلفية اخطف وكل وخذ ما تستطع أخذه يمكننا أن نفهم الشعار الحالي للمناضلين السابقين، شعار "تحقيق الذات"، وليس معناه البحث عن حياة غنية أو منتجة ولا علاقة شاملة مع العالم المحيط ومع حيوية الناس الآخرين. ومعناه البحث عن "مكان تحت الشمس" ووضع قدم في الهرم الطبقي و"الحصول على امتياز لأصحاب الامتيازات". اللغة التي يتحدثها اليوم مناضلو السبعينات تهتم بالنجاح والفشل والنجومية والمنافسة. وهذه هي لغة البيزنس لا لغة المعرفة. هذه هي النقطة التي وصل اليها جيل المناضلين المهزوم. جيل السبعينات وعلاقات الرجل بالمرأة يفسح كتاب أروى صالح مكاناً واسعاً لمناقشة مشكلة علاقة الرجال والنساء، وبدقة أكثر علاقة الرجال بالنساء داخل جماعة الطلاب الثوريين ولدى المناضلين السابقين. شبه مؤكد أن أروى صالح تظهر من خلال ذلك احباطها مما مرت به هي نفسها، ووهمها عن نوع جديد من العلاقات والتي ظهر في النهاية أنها علاقات استغلال جنس. على أية حال تعتبر هذا البعد الخاص كواحدة من علامات التدهور وهزيمة "جيل المبتسرين". ان الحركة الطالبية في السبعينات، بخلاف الأجيال السابقة لليساريين، جذبت كثيراً من الفتيات الى الانخراط السياسي. وكان يساريو جيل الستينات لا يزالون يعملون ويتثقفون في البيئة البورجوازية التقليدية ولم يطرحوا تساؤلاً حقيقياً حول مدى العلاقات الزوجية المألوفة. ففي هذا النظام كانت المرأة تلقب وفقاً لتبعيتها للرجل "اما غير متزوجة، أو متزوجة، أو أرملة أو مطلقة" - وعدا ذلك فهي عاهرة. ولقد حاول يساريو الستينات أحياناً خرق المحظورات القديمة، لكن هذه التجارب انتهت إما بالزواج التقليدي أو بتجربة منحطة تتجاوز مرضيتها ولا أخلاقيتها كلاً على حدة أو الى الجمع بينهما. وتستطرد أروى قائلة "إن جيل السبعينات كان أول جيل من اليساريين آمن بالارتباط الحر المتحرر من الحسابات الاجتماعية والطبقية، اتصال مبني على الحب الشخصي فقط ويؤكد الالتزامات تجاه الآخر، وليس على الاجبار الاجتماعي لكن فقط على الرغبة في الاستمرار معاً. ويبدو أن هذا "الحلم الوردي كان جزءاً من منظومة الالهام شاملة متجانسة"، حلم كبير بتغيير العالم، يزيد من قوة المحبين ويمنحهم الالهام. كان يبدو أن التمرد الشخصي مرتبط بالتمرد السياسي ويستمد قوته من الانتماء لمرحلة العشرينات من العمر والتي تخلو من القلق، فتزوج الشباب معظمهم ضد رغبة الآباء ومروا ولفترة قصيرة باسطورة البيت الفقير المبنية قواعده من الحب والتمرد المشترك. لكن سرعان ما حدث الانهيار. فكانت البيئة التي تحيطهم معادية لطبيعة علاقاتهم، الأمر الذي اغتال حلمهم في النهاية. "وفرض الواقع مبادئه وبذلك تغير أساس علاقات الحب والزواج". وحول هذا الواقع المهتز تحولت الأسرة، وفقاً للنموذج البورجوازي، الى ملاذ الفرد وحصنه. لم يكن المناضلون السابقون شاذين في بحثهم عن "جزيرة صغرى يقف الشخص عليها في وسط الطوفان". لم يعد هناك حلم مشترك بل خوف مشترك من الخواء الذي سيطر بعد ضياع الأحلام، من عدم الأمان الاقتصادي، من الاغتراب الجارف ومن مجتمع يبدو الجميع فيه منشغلاً بنفسه. وعندما عادوا الى أحضان البورجوازية أصبحت هذه الفكرة "مضيعةٌ للوقت لا معنى لها". و"لم يثر أي شيء الاهتمام باستثناء ما وافق لعبة الزوج والزوجة وفقاً لتوقعات المجتمع المحيط ووفقاً للحسابات الشخصية لكل منهما. وأصبح الارتباط المتبادل علاقة غربة متبادلة". تكتب أروى، ان علاقات الزواج البورجوازية تسير وفقاً لقانون اقتصاد السوق: بائع ومشتر، عرض وطلب. الرجل يدفع والمرأة تزوده بالمتعة وتبدد الملل وتلعب دور المسلية والمهرجة. أما لدى المثقف الثوري ف"تختفي قوانين السوق البورجوازي، لكن يبقى الاستغلال". وهو ينتقل من صورة البيع والشراء الى "اللعبة الخارجة عن القانون والمسموح فيها بخرق كل المحظورات، والنجاح هو الفاصل الوحيد". ها هو سيناريو علاقة المثقف الثوري بالفتاة البورجوازية المتمردة والتي يلتقي بها في إطار التجربة الثورية: يلتقي الاثنان في كافتيريا الحرم الجامعي، ويتحدث هو عن القيم الزائفة للمجتمع البورجوازي في كل ما يتعلق بالعلاقات الزوجية، لكنه في الحقيقة يسعى الى "الحب الحر" الذي يقدم مجاناً والمنزوع عن اية مسؤولية شخصية، وبالتالي لا يعاقب. "أما فاتورة المسؤولية الشخصية فيسددها طرف واحد دائماً - المرأة - والتي ينجح المثقفون في الشرق العربي في تحويلها دائماً الى عاهرة". إن المثقفين الثوريين يعشقون "تحطيم الأوثان"، ويشعرون بدفعة لإثبات إن "الكل باطل"، وينطبق ذلك أيضاً على نوع العلاقات مع النساء. ويريدون إثبات ما عرفوه من قبل من خلال تجاربهم الكثيرة أي أنهن لا يصلحن إلا لواحدة من اثنتين: "إما زوجة بلهاء غير جديرة بهم أو عاهرة لئيمة وهي أيضاً غير جديرة بهم، من دون ذلك فالمرأة في نظرهم أسطورة". والمفارقة غير المدهشة في علاقة المثقف المصري بالمرأة هي في أنه حينما يحلم بها فهو رومانسي لا شفاء له: فهي في أعماله الأدبية إلهة صغيرة تمسح جراحه، تعوضه عن هزائمه وخيبة امله، تضمه اليها وتهبه الأمان المفقود. جميلة دائماً عيناها سوداوان أو عسليتان أو خضراوان، لكنهما دائماً واسعتان، ولها ثديان مستوردان من أوروبا تحديداً ... ويعود المثقف ويحاصر المرأة الواقعية بتوقعات وتصنيفات عليها أن تندرج في احداها". من الجدير بالذكر أن النظرية الجنسية لتحليل ظاهرة "المبتسرون" في كتاب أروى صالح، بعيدة تماماً عن المقالات النقدية والتأبينية التي كتبها اصدقاؤها وخصومها، باستثناء واحد فقط وهو الكاتب الطبيب اليساري القديم د. شريف حتاتة زوج الكاتبة نوال السعداوي الذي اشار في مقال مثير نشره بعد انتحار أروى الى هذا البعد بصفته أهم أبعاد كتابها لأنه يعكس مدى مأساة هذه المرأة الصغيرة القابلة للانكسار، والتي منيت بهزيمة مزدوجة: مرة كعنصر في حركة الطلاب، ومرة أخرى بكونها إمرأة عرفت الاحباط وخيبة الأمل بلا رحمة في مواجهة عالم جنسي. عزلة المناضلة بذلك اكتملت فصول الكتاب، الا أن المؤلفة رأت هناك ضرورة في إضافة رسالتين شخصيتين جداً. لقد ذكرت سابقاً أن الرسالتين، مثل المقدمتين في أول الكتاب، قد كتبتا بترتيب زمني معكوس: فتأخرت الأول وتقدمت الثانية. وفسرت ذلك بأن هناك منطقاً معيناً في هذا العكس الزمني. نظراً لأن الرسالة المتأخرة والتي طبعت أولاً تكشف عن بحث الاتصال المفقود مع واقع إنساني واجتماعي حقيقي، وهذا البحث يرافقه الكثير من الآلام. أما الرسالة الثانية فنلاحظ بوضوح التسليم بفكرة الموت الذي سوف يخلص أروى من حياة فقدت معناها. أما لغة الرسالتين فهي العربية المصرية العامية وكلتاهما موجهتان الى "عزيزي" الذي لا تذكر اسمه يتضح في ما بعد أنهما موجهتان الى الفنان عدلي رزق اللّه، صديق أروى المقرب في هذه الفترة والذي صاحبها في فترة نمو أفكارها وتجاربها النضالية وكذلك في مرحلة الانكماش، لكن، في هذه الفترة الأخيرة لم يستطع مساعدتها. تبدأ أروى رسالتها المنشورة أولاً كتبت في القاهرة 15 كانون الاول / ديسمبر 1988 باعتذار عن عدم قدرتها على الكتابة لفترة طويلة مع هذا فان الرسالة تحتوي على 16 صفحة. وتذكر أروى "من فترة تزيد على السنة دلوقتي وأنا حاسة إن فيه احتياج لوقفة مع النفس لكن كنت نافرة من اني أعلمها"، فهي تمقت "لعبة تأمل الذات" وتعتقد أن الاتصال بالعالم الواقعي سوف يجلب لها الشقاء. وعلى رغم ذلك فان رسالتها تعبر عن تأمل الذات أكثر من أي شيء آخر. تتساءل أروى: "عن ماذا كنت أبحث وأنا أرتبط بالشيوعية؟ كانت تعني لي إيه بالضبط؟" لأنها اعتبرت دائماً وجودها الشيوعي من المسلمات "لكن، في مكان من نفسي سألت نفسي مرات عدة بالوضوح والمدى ده". وجوابها هو "إن الشيوعية كانت في الحقيقة بديل عن العالم الواقعي اللي كان مصدر عذاب غير مفهوم وبالتالي لا حدود له"، وليس من الغريب أن تكون هذه الاجابة مرتبطة من ناحية المضمون بتحديداتها حول موضوع "الكيتش النضالي" كما ظهر ذلك في المقدمة المتأخرة لكتابها والتي كتبتها بعد سبع سنوات من هذه الرسالة الشخصية. وتحكي أروى أنه في فترة متقدمة من شبابها كان لديها إحساس بالأمن يربطها بالآخرين ويحميها من الانهيار. "قدم لي ديستويفسكي وأنا مراهقة أول يقين أن عذابي مفهوم ومبرر، ولعله كان أول صك انتماء لطفلة، شيء ما في ذلك المحيط الهائل المسمى بالعالم ... ما كانش فيه حد يقول في الوقت المناسب إن المسافة بين الجمال العبقري ده والأمل اللاواقعي ممكن تتقصف فيه الرقاب". فقدت أروى على حد قولها منذ عام، ليس فقط الرغبة في الكتابة بل أيضاً الرغبة في القراءة. "على رغم فضولي للمعرفة مانتهاش، بالعكس، لكن السلام اللي كنت مطمئنة دائماً إني حلاقيه في القراية ماعدتش قادرة أبحث عنه فيها". وتتساءل عن سبب ذلك "هل بحكم المرحلة دي من العمر؟ أم أن السبب في الحرمان الطويل، العريق، من الدفء الانساني الكافي لبعث الاطمئنان والقوة في القلب ليجترأ على مصاعب رحلة الكشف والتمرد...؟" وعندما وصلت الى حال مشابهة في الماضي كان عذرها أنها ربما اخطأت في اختيار الاتجاه وأن عليها الاستمرار في البحث عن نفس "الأوهام غير المحطمة" وعن الجمال الذي ربما يكون موجوداً لدى أناس مختلفين عن الذين عرفتهم. لكن "في النهاية لما باتتطلع في داخلي مش لاقية غير مقبرة جماعية". هل هذا هو سر ضعفها وعدم قدرتها على الاستمرار في نشاطها السياسي وعدم جرأتها على الكتابة والتدريس؟ أم أن الحكاية كلها ً"حكاية طفلة أهلها نسيوا يعلموها تثق في نفسها؟". تقول أروى "ظبت نفسي في الشهور الأخيرة باقرا عن تاريخ الحزب الشيوعي الصيني وباشتري كتب هيجل في نفس الوقت اللي باهرب فيه من القراية عن القضية الفلسطينية والانتفاضة ... الزاوية دي ما عادتش هي اللي بتشغلني في الموضوع، إنما بابني علاقتي بالحياة على اساس إيه؟ فين الرابطة الحقيقية بالبشر؟". حقاً ان أروى منزعجة جداً من ان تجربتها تدور في فقاعة منعزلة تماماً عن الناس الحقيقيين. "كنت باطلب من الناس الكثير اللي أنا فاقداه، بابحث عندهم عن سند يصلب الانكسار في داخلي وباطلب من كل قادم جديد أن يطيب الجراح اللي خلفتها الخيبات السابقة وبتتكفل بتجديده الخيبات المحتومة القادمة". لقد اعتقدت أروى للحظة أنها قد اعادت لنفسها "بعضاً من التوازن" وانها تحررت من كثير من مخاوفها من التعامل مع الناس. لكن سرعان ما تعود وتذكر "انني دون حماية من المؤسسات التي احتمى بها معظم جيلي وانا متشردة في الحياة بدون وضع اجتماعي من أي نوع. حتى السكن كان في ضيافة أختي انتحرت أروى، عندما قفزت من نافذة شقة اختها ي أ أنا أعرف أني محكوم عليا ابقى على هامش الحياة لأني مش حمل معاركها". الرسالة الثانية، التي هي في الحقيقة تسبق الأولى، أرسلتها في تموز يوليو 1985 من مدينة أشبيلية بأسبانيا حيث مكثت هناك للعلاج من مرض نفسي الفصام في الشخصية. وهي رسالة قصيرة نسبياً - أربع صفحات فقط - تشتكي فيها أيضاً من عدم قدرتها على القراءة والكتابة. لكن الجوهر يكمن في تطرقها الى الشيخوخة والموت! "الأحاسيس الغريبة اللي بتلح عليا دلوقتي - ومش فاهمة طلعت منين - ومش قادرة اقاومها على رغم ما فيها من قسوة: النفور من العواجيز، نفور بيوصل أحياناً لدرجة شعور جسدي بالاشمئزاز، بحس انهم سبة في وجه الحياة ... بافتكر حاجة بشعة سمعتها عن تقليد ياباني، إن الناس لما تعجز تاخد قليل جداً من الزاد وتطلع على قمة جبل تستنى الموت فيه. غصب عني إبتديت أشوف فيها فكرة وابتدت تداعبني فكرة! إني لما أوصل لمرحلة معينة من العجز أنتحر. ابتديت لأول مرة في حياتي أتأمل شوية الموت بس مش من زاوية ميتافيزيقية. بمعنى البحث عن ما وراء الحياة لكن باعتباره عملية قضاء على الحياة ... يبدو لي ان طبيعة موت ما بتحددها طبيعة حياة الشخص اللي بينتهي ده. مثلاً إيه اللي ممكن بفقده شخص الحياة فعلاً. إيه اللي ممكن يفقده شخص زي ده بالموت؟ حايتخلص من وضعه المهين على الأقل. وضع فقد فيه صفته كبني آدم. الغريب أنه من الزاوية دي الموت يبدو لي مش مخيف". تدل جميع الشواهد الى أن أروى صالح كتبت خاتمة كتابها القصيرة عشية نشر الكتاب بعد أن صفت حسابها مع أبناء جيلها واتضحت لها صورة "الكيتش النضالي". وتحمل الخاتمة عنوان بيت من احدى القصائد العامية في مصر المغنّاة: "ليه يا بنفسج بتبهج وانت زهر حزين". وهذه الخاتمة القصيرة هي بمثابة لحظة حنين الى بقايا الحلم المفقود. تود أروى أن تحيي الحالمين من أبناء جيل السبعينات حيث كانت "لحظة حلمهم بامكانية تغيير شكل الحياة من المسموحات الوحيدة التي أتيحت لهم وسلبت من الأجيال التي تلتهم". وتقول أروى "أن لكل حالة ضريبتها! فالأجيال الحالية من الشباب ليست لديهم أيديولوجية ويدفعون ثمن خضوعهم للقيم غير الانسانية في المجتمع البورجوازي من دون أن يمروا بتجربة نضالية مثل هذه التي مررنا بها. لكن أيضاً أبناء جيل السبعينات دفعوا ثمناً باهظاً على هذه اللحظة القصيرة الرائعة. فكل واحد فيهم اما سار في سكة السلامة، طريق التوبة، الاذعان لقوة الأمر الواقع وحتى اعلان الكفر بكل قيم التمرد القديم أو طريق الندامة: الانهيار، اعتزال الحياة، المرض النفسي، - فانه شاء أم أبى لا يعود أبداً نفس الشخص الذي كان قبل أن تبتليه غواية التمرد. لقد مسه سحر الحلم مرة وسوف تلاحقه دوماً ذكرى الخطيئة الجميلة - لحظة حرية، خفة لا تكاد تتحمل لفرط جمالها - تبقى مؤرقة كالضمير، وملهمة ككل لحظة مفعمة بالحياة والفاعلية، ومؤلمة". و"لكن، ترى ألا يبقى من حلمنا القديم سوى وهم تبدد، وبضعة جراح مرة"؟ تقول أروى أن عدد الاجابات عن هذا السؤال كعدد أبناء الجيل. وفي ما يتعلق بي فقد استبقيت من هذا الماضي ما اجتذبني فيه دائماً - امكانية الحلم ذاتها على رغم اني كثيراً ما أشك في اننا نقترب بالفعل من نهاية العالم. وبقي يجتذبني خيال ماركس كآخر الحالمين العظام وبقي جزء من دماغي يعمل بآلية تعلمها في عالم أفكاره. إذ يستحيل عليّ فهم الناس خارج وجودهم العياني في طبقة. أما نقده للمجتمع الرأسمالي، فلعله نبوءته الوحيدة التي تتأكد كل يوم. كان هذا الفكر وهذا الحلم ذات يوم جزءاً من رحلة لانتزاع تحرر أتوق اليه ولا أفهمه". إن كتاب أروى بالنسبة اليّ بمثابة تعبير عن التناقضات الثقافية والاجتماعية التي مر بها المجتمع المصري، مثل باقي مجتمعات الشرق الاوسط، وعن ضعف التيارات الثورية في داخل دائرة هذه التناقضات، الضعف الذي يحكم عليها بالوجود على هامش النظام وأن تصبح غير مرتبطة بالواقع. وكمراقب من الخارج فانني أميل الى تفهم هذه التناقضات وهذا الضعف وحتى "خيانة المثقفين" تبدو لي محاولة للعثور على اي موطن قدم أو أدنى تأثير في نظام حواجز وتوازنات المجتمع المصري. أما أروى صالح فلم تستطع أن تبدي أي تفهم أو عفو. لقد كان حلمها الثوري سابقاً لأوانه كما كانت لحظة اليقظة من هذا الحلم متأخرة جداً. * كاتب إسرائيلي