وفاة الملحن محمد رحيم عن عمر 45 عاما    مصر.. القبض على «هاكر» اخترق مؤسسات وباع بياناتها !    ترامب يرشح سكوت بيسنت لمنصب وزير الخزانة    حائل: دراسة مشاريع سياحية نوعية بمليار ريال    «موديز» ترفع تصنيف السعودية إلى «Aa3» مع نظرة مستقبلية مستقرة    الاتحاد يتصدر ممتاز الطائرة .. والأهلي وصيفاً    "بتكوين" تصل إلى مستويات قياسية وتقترب من 100 ألف دولار    بريطانيا: نتنياهو سيواجه الاعتقال إذا دخل المملكة المتحدة    الأمر بالمعروف في عسير تفعِّل المصلى المتنقل بالواجهة البحرية    النسخة ال 15 من جوائز "مينا إيفي" تحتفي بأبطال فعالية التسويق    القادسية يتغلّب على النصر بثنائية في دوري روشن للمحترفين    (هاتريك) هاري كين يقود بايرن ميونخ للفوز على أوجسبورج    نيمار: فكرت بالاعتزال بعد إصابتي في الرباط الصليبي    وزير الصناعة والثروة المعدنية في لقاء بهيئة الصحفيين السعوديين بمكة    مدرب فيرونا يطالب لاعبيه ببذل قصارى جهدهم للفوز على إنترميلان    الأهلي يتغلّب على الفيحاء بهدف في دوري روشن للمحترفين    وفد طلابي من جامعة الملك خالد يزور جمعية الأمل للإعاقة السمعية    قبضة الخليج تبحث عن زعامة القارة الآسيوية    القبض على (4) مخالفين في عسير لتهريبهم (80) كجم "قات"    أمير المنطقة الشرقية يرعى الأحد ملتقى الممارسات الوقفية 2024    بمشاركة 25 دولة و 500 حرفي.. افتتاح الأسبوع السعودي الدولي للحِرف اليدوية بالرياض غدا    بحضور وزير الثقافة.. «روائع الأوركسترا السعودية» تتألق في طوكيو    مدرب الفيحاء يشتكي من حكم مباراة الأهلي    أوكرانيا تطلب أنظمة حديثة للدفاع الجوي    محافظ عنيزة المكلف يزور الوحدة السكنية الجاهزة    أمانة الشرقية تقيم ملتقى تعزيز الامتثال والشراكة بين القطاع الحكومي والخاص    رحلة ألف عام: متحف عالم التمور يعيد إحياء تاريخ النخيل في التراث العربي    «طرد مشبوه» يثير الفزع في أحد أكبر مطارات بريطانيا    فيتنامي أسلم «عن بُعد» وأصبح ضيفاً على المليك لأداء العمرة    هل يعاقب الكونغرس الأمريكي «الجنائية الدولية»؟    شقيقة صالح كامل.. زوجة الوزير يماني في ذمة الله    «الأرصاد»: أمطار غزيرة على منطقة مكة    الرعاية الصحية السعودية.. بُعد إنساني يتخطى الحدود    فريق صناع التميز التطوعي ٢٠٣٠ يشارك في جناح جمعية التوعية بأضرار المخدرات    "الجمارك" في منفذ الحديثة تحبط 5 محاولات لتهريب أكثر من 313 ألف حبة "كبتاجون    الملافظ سعد والسعادة كرم    "فيصل الخيرية" تدعم الوعي المالي للأطفال    الرياض تختتم ورشتي عمل الترجمة الأدبية    «السقوط المفاجئ»    حقن التنحيف ضارة أم نافعة.. الجواب لدى الأطباء؟    «بازار المنجّمين»؟!    مسجد الفتح.. استحضار دخول البيت العتيق    الثقافة البيئية والتنمية المستدامة    عدسة ريم الفيصل تنصت لنا    المخرجة هند الفهاد: رائدة سعودية في عالم السينما    تصرفات تؤخر مشي الطفل يجب الحذر منها    ترمب المنتصر الكبير    وزير الدفاع يستعرض علاقات التعاون مع وزير الدولة بمكتب رئيس وزراء السويد    فعل لا رد فعل    إنعاش الحياة وإنعاش الموت..!    رئيس مجلس أمناء جامعة الأمير سلطان يوجه باعتماد الجامعة إجازة شهر رمضان للطلبة للثلاثة الأعوام القادمة    إطلاق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش في السعودية    "التعاون الإسلامي" ترحّب باعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة التعاون معها    أمير الرياض يرأس اجتماع المحافظين ومسؤولي الإمارة    أمير الحدود الشمالية يفتتح مركز الدعم والإسناد للدفاع المدني بمحافظة طريف    أمير منطقة تبوك يستقبل سفير جمهورية أوزبكستان لدى المملكة    سموه التقى حاكم ولاية إنديانا الأمريكية.. وزير الدفاع ووزير القوات المسلحة الفرنسية يبحثان آفاق التعاون والمستجدات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كل هذا "الكيتش الصراعي". أروى صالح وحركة الطلاب المصريين الوطنية بحثاً عن دفء الجماعة 1 من 2
نشر في الحياة يوم 15 - 08 - 2000

في 21 حزيران يونيو 1997 ألقت سيدة، في الأربعينات من عمرها، بنفسها من الدور العاشر في عمارة سكنية بحي الدقي في القاهرة. كانت هذه السيدة هي الكاتبة المصرية أروى صالح، وفي عام 1972، أي قبل انتحارها ب25 سنة. كانت أروى عضواً في الجماعة التي قادت الحركة الطلابية، ذلك عندما خرج الطلاب في جميع أنحاء مصر، من داخل الحرم الجامعي الى الشوارع في تظاهرات عنيفة مطالبين بإعلان الحرب على الفور، من أجل تحرير الأراضي المصرية التي احتلتها اسرائيل. والى جانب الاحتجاج على تردد السادات في دخول الحرب، سعت الحركة الطلابية الى تغيير اجتماعي - سياسي شامل في النظام المصري كنوع من "الثورة على الثورة"، بوحي من أفكار "يسارية جديدة" كانت منتشرة وقتذاك بين الجماعات الطلابية في غرب أوروبا وشرقها.
تعتبر عملية انتحار أروى تعبيراً عن حساب نفسي عسير واحباط كبير لممثلة حساسة وحالمة لهذا الجيل الذي يطلق عليه "جيل السبعينات"، وهو الجيل الذي حصل على وعيه ومشاركته السياسية في بداية السبعينات، على خلفية الأحداث السالفة الذكر. والذي حدث للحركة الطلابية وتطلعاتها أن استجاب الرئيس السادات بالفعل للأصوات المنطلقة من الشوارع والجامعات وخاض حرب التحرير في تشرين الأول اكتوبر 1973. غير أن هذه الحرب كانت بداية لاستراتيجية "الانفتاح الاقتصادي" والتي كان قد خطط لها قبل ذلك بفترة. ولقد صاحب هذه الاستراتيجية بعض الاجراءات مثل الابتعاد عن الاتحاد السوفياتي والتقرب من الولايات المتحدة، واتباع نظام التعددية الحزبية المحدودة والمراقبة وأخيراً تبنى خطوات في اتجاه اتفاق سلام مع اسرائيل. حظي السادات بإعجاب الجماهير المصرية "وخطف" الأنظار بعيداً عن ناقديه من الشباب. والحقيقة أنه تسبب بعودة معظمهم الى النظام الذي أرادوا تغييره. لقد عاد جزء كبير من أبناء جيل السبعينات من حيث أتى، الى الأحضان الدافئة للبورجوازية المصرية. ووجد البعض الآخر ملاذه في الدين وأصبح من نواة الحركات الاسلامية الراديكالية. وفشل البعض في العثور على مكان له في أحد هذين الاتجاهين وأصبح خاضعاً بعد ذلك للشعور بالغربة والاحباط.
كانت أروى صالح تعد من الجزء الثالث. فمنذ انهيار الحركة الطلابية وهي لم تعد الى نفسها. فقد عانت في كثير من الأحيان من انهيار عصبي الأمر الذي استدعى العلاج. وفشل زواجها ولم تنجح في الاحتفاظ بأي عمل. وأدت مرارتها المحاطة بالدمار النفسي الى خلق أعداء كثيرين لها، فيما لم يزل البعض من قدامى أصدقائها يكنون لها العطف والتشجيع. وقد عبرت عن مرارتها هذه وألمها في كتاب صدر عام 1995 بعنوان "المبتسرون"، تحاسب فيه أبناء جيلها حساباً عسيراً وتنتقد فيه تجربتهم الثورية الزائفة.
حظي هذا الكتاب بتوزيع واسع وأثار جدلاً كبيراً بين هؤلاء التي وجهت أروى نقدها لهم. وقبل فترة قصيرة من انتحارها عام 1997 صدرت الطبعة الثانية وسرعان ما أصبحت حديث اليوم بين محافل المثقفين المصريين. سيهتم المقال الذي نحن بصدده بعرض مضمون هذا الكتاب. وهو ليس نقداً أدبياً. فالكتاب يحمل شكلاً أدبياً خاصاً به وربما يتناوله البعض في أحد الأيام. أود أن أبدي ملاحظة فقط في ما يخص ذلك، بأن نص الكتاب ليس سهلاً للقراءة. وكان لا بد لي من قراءته مرات عدة حتى استطعت أو هكذا أظن أن أتعامل مع أسلوبها ومع فحواها. والمؤلفة نفسها تتفق مع نقادها بأن هذا العمل "لا ينتمي الى أي جنس أدبي".
ان الكتاب يتميز حقاً، من ناحية الشكل، بعدم وجود نظام أو أسلوب محدد. فالعبارات طويلة ومعقدة جداً وتحتوي على كميات كبيرة من المقولات المبهمة والجمل الاعتراضية. وكثيراً ما تقفز فجأة من موضوع الى آخر كما أن هناك أحياناً عدم اتصال نصي ومنطقي. وأذكر أنه في احد لقاءات الكاتب نجيب محفوظ مع المقربين منه، والتي اعتاد أن يعقدها اسبوعياً في فندق "شبرد" بالقاهرة ويجري فيها حواراً تلقائياً حول أي موضوع يطرحه الحاضرون، عرضت كتاب أروى صالح للمناقشة حيث كنت قد انتهيت من قراءته الأولية. فأشار كثير من المشاركين في المناقشة الى العيوب نفسها التي أشرت اليها آنفاً. وكان ردي هو: ان هذه العيوب تمنح الكتاب جودته وروعته حيث انها تعبر عن اختلاط المشاعر والانفعال التي كانت تمر الكاتبة بهما أثناء كتابته.
لكن غرض هذا المقال عرض مضمون الكتاب كنقطة تأمل شخصية وخاصة للكاتبة، لنظام الحكم والمجتمع آنذاك ولقوى اجتماعية معينة في مصر الناصرية وما بعدها. وهو أيضاً قصة فشل "معروفة من البداية" كما اتضح في ما بعد لتجربة ثورية ساذجة ومحاولة للتصدي لأسباب وملابسات الفشل. وليس أقل من ذلك، فهذه هي قصة شخصية مأسوية لفتاة مصرية، انجذبت الى حلم الخلاص الشخصي والعام في العشرينات من عمرها وتحطم الحلم وتسبب لها بعد 25 سنة في فقدان الأمل والضياع.
بنية الكتاب وتفاصيل أخرى
صدر كتاب "المبتسرون" في طبعتين الأولى عام 1995 والثانية عام 1997 عن دار النهر للنشر. استمرت عملية كتابة هذا الكتاب سنوات طويلة، ربما عقد من الزمن، وتشير كل الدلائل الى أن هذه العملية كانت جزءاً من محاولات الشفاء لأروى صالح. ووفقاً لشهادة الكاتبة نفسها فإن هذا الكتاب كان جاهزاً للنشر في عام 1990. ولا يوجد أي تفسير لسبب تأخر نشر الكتاب طوال خمس سنوات. ربما كان ذلك بسبب ترددها وتخبطها.
وضعت المؤلفة عنواناً ثانوياً للكتاب وهو "دفاتر واحدة من جيل الحركة الطلابية" ويشير هذا العنوان الثانوي الى أن الكتاب ليس جنساً أدبياً يخضع لقواعد شكلية محددة والكتاب هو في الحقيقة عبارة عن كتيب صغير الحجم يضم 118 صفحة كما يضم مقدمتين وثلاثة فصول وملحقين تصفهما الكاتبة بأنهما "وثائق شخصية في الدفاتر" وهما في الحقيقة رسالتين شخصيتين كتبتهما لأحد أصدقائها وخاتمة قصيرة للكتاب.
المقدمتان مرتبتان ترتيباً زمنياً معكوساً، أي أن المقدمة التي ظهرت ثانية قد سبقت الأولى وأصبحت جزءاً أساسياً من الكتاب. والمقدمة الأولى والتي تصفها الكاتبة بأنها مقدمة لا بد منها عن "الكيتش الثوري"، قد كتبتها عشية نشر هذا الكتاب تعليقاً على الملاحظات التي سمعتها في اللقاءات التي عرضت فيها المسودة، قبل فترة قصيرة من نشر الكتاب. أما عناوين الفصول الثلاثة التي تكون بمجملها جوهر الكتاب ومضمونه فهي "المثقف متشائماً" و"مصائر جيل الحركة الطلابية" و"المثقف عاشقاً".
أما الرسالتان فتظهران أيضاً بترتيب زمني معكوس فأول رسالة كتبت في القاهرة عام 1988، أما الرسالة التي تأتي في الترتيب الثاني فقد بعثت من اشبيلية باسبانيا عام 1985. ومن القراءة المتعمقة للكتاب نستنتج عدم وجود ترتيب زمني، ليس نتيجة تشتت نفسي، بل عن نية مقصودة ومنطق داخلي، سوف أتعرض اليه في ما بعد.
الكيتش الصراعي لجيل السبعينات
يبدو أن الذي جعل أروى صالح تضيف مقدمة جديدة الى مقدمتها الأصلية، والتي كانت جزءاً من الكتاب، كان لقاء أجرته بغرض عرض مسودة الكتاب لمراجعة مضمونه، مع مجموعة شباب من أبناء جيل الثمانينات والتسعينات. واندهشت عندما اتضح لها أن المشكلات السياسية والاجتماعية التي كانت محور نضال أبناء جيلها لم تعد تهم أبناء الأجيال الشابة. فقد تطرق هؤلاء الشباب الى هذه المشكلات بفتور وعدم اكتراث. وفي مقابل هذا كانت لهم ملاحظات حول لزوم كتابة هذا الكتاب بالصورة التي عليها "هل تكتبين لمجرد جلد الذات؟"، "لماذا لا تكتبين رواية بدلاً من ذلك؟"، "كتابك مادة يستعملها المؤرخ لكنه ليس التأريخ نفسه". والجزء الوحيد الذي أبدوا اهتماماً كبيراً به كان الرسالتين الشخصيتين، المتصفتين بالكشف الذاتي الشديد، واللتين لم تقصد الكاتبة أصلاً ضمهما الى الكتاب وقامت بذلك بعد تردد كبير وبعد مشورة "أديب محنك" لم تذكر اسمه. لفت هذا اللقاء نظرها الى أن "الحاضر" التي تتحدث عنه في كتابها ليس إلا ماضياً ولى بلا عودة. بل بدأت هي نفسها تنظر بعدم اكتراث الى المشكلات السياسية الرئيسية للتجربة الثورية للحركة الطلابية في السبعينات. وتكتب على سبيل المثال "الواقع أنه في اللحظة التي أكتب فيها هذه السطور - وليغفر لي أبناء جيلي إذا استطاعوا - فلم أعد أعتقد أن اسرائيل أكثر شراً من أي من جاراتها والأشد جوراً، والفارق الوحيد الجوهري - في ما يبدو لي - هو انها الأقوى حالياً، وأعترف - آسفة بحق - اني لم أعد أعتقد أن الفلسطينيين إذ تقوم دولتهم سيعدلون في ما بينهم. هل هي عدمية وطنية؟ حالياً، نعم تماماً. فلست أجد كل المجازر الوطنية في العالم الآن ملهمة على الاطلاق، بل مثيرة للاشمئزاز فحسب. ومثلها العرقية والدينية بل الطبقية".
يمتد هذا النقد الذاتي المتأخر لأروى صالح أيضاً الى التصور الذاتي الجماعي لأبناء جيلها. وفقاً لهذا التصور الذاتي، أصبح هذا الجيل من الثوريين اليساريين كمن يمثل رفض العصر الناصري و"المعارضة الممثلة للطبقة العاملة التي ستفني بورجوازية عبدالناصر فردوسها القادم حقاً". غير أنه اتضح في ما بعد أن الحركة الطلابية نفسها كانت جزءاً من الخريطة نفسها التي دعت الى تحديها، الخريطة التي رسمها النظام الناصري "الخريطة التي يحدها شرقاً المعسكر الاشتراكي وغرباً المعسكر الرأسمالي وفي الوسط - بل القلب - حركات التحرر الوطنية في العالم الثالث". بعبارة أخرى يتضح أن مرجعية جيل السبعينات، على رغم شعاراته الماركسية، لم يكن طبقية لكن وطنية وفقاً للبرنامج الناصري. "عندما تحول زمن عبدالناصر الى ماض ضاعت معالمه، تهنا ولم نجد ما نتوكأ عليه في المتاهة سوى الحنين. ... تعرى وعينا التاريخي وهو يواجه حاضراً لا يسير وفق نبوءاته الثورية فأخذنا نولول مع النادمين على "زمن الانهيار" - قياساً بالطبع على زمن عبدالناصر، الذي بقي منتصباً كصنم قديم يبتسم لنا بنصف شفقة وبنصف سخرية". وفي ما يخص ذلك، تصف أروى صالح تجربة الحركة الطلابية ب"الكيتش الصراعي" وتقتبس من احدى مقالات محمد حسنين هيكل الذي حاول فيه وصف الشباب الذين اختاروا الانضمام الى منظمة نضالية بأنهم شبان يبحثون عن حماية ودفء الجماعة. وتتساءل أروى "لماذا إذاً كنا ننضم جماعات الى الجماعات النضالية الرائجة في زمننا؟ أكنا نستجيب لنداء التاريخ... أم لدواع خفية كما يلمح هيكل؟" وتجيب: "عدا أقلية فالأرجح أن كلتا الاجابتين صحيحة، انضم البعض الى الحركات النضالية لعدل ميزان الحق أو التاريخ، وخلالها يحاول الواحد منهم أن يقفز على أزماته الداخلية". كما تقتبس من كاتب تشيكي معروف ميلان كونديرا والذي وصف الكيتش بأنه "الشيء الموجود بين الدوافع الخفية من جهة وبين النداء العام". وتذكر أروى أن الكيتش هو كلمة ألمانية بمعنى "نفاية" لكن الكاتب استخدمها في سياق يشير الى نوع من أنواع الرومانسية والعاطفية المستبدة. وتقول "في رأيي أن الكلمة مرادفة لحكم الخلاص الجماعي" والأمر الذي يجعل الانسان اليساري "مناضلاً" ليس هذه النظرية أو غيرها، بل مقدرته على ادخال أية نظرية كانت الى الكيتش الذي يسمى ب"المسيرة الكبرى". وتختتم قائلة: "وفي مملكة الكيتش التوتاليتارية تعطى الاجابات مسبقاً محرمة بذلك أي سؤال جديد". بمعنى آخر ترى أروى صالح أن أبناء جيلها لم يكونوا أبداً ثوريين بمفهوم الكلمة الحقيقي، بل أطفالاً بورجوازيين مدللين وظفوا مدخراتهم الشخصية في عبارات نضالية. وعندما تم إحباط هذه الحركة وتبددت الآمال عادوا من حيث أتوا.
على رغم الوعي المتأخر "بكل هذا الكيتش" وعلى رغم علمها بقصة "الكيتش" الخاص بها وعلى رغم تراجعها عن النظرية السياسية الى درجة الدهشة من انضمامها الى السياسة ابتداء، فإن أروى صالح لا ترى ضرورة في التخلي عن تقديم كتابها الى القارئ كما هو. وتنصح القارئ بأن يعتبر فصول الكتاب "كلمات متقاطعة مفتاحها هنا في هذه المقدمة".
خلفية نشأة الحركة الطلابية
في المقدمة الأصلية للكتاب تعرض أروى صالح الخلفية التي ساعدت في رأيها على نشأة الحركة الطلابية. ومن الجدير بالذكر أن أروى تطرقت الى عصر عبدالناصر وعصر السادات كما لو كانا عصراً واحداً ولا تفرق بينهما تقريباً. ويبدو أن حقيقة اندلاع الحركة كان بعد عام وربع من وفاة عبدالناصر وتولي السادات مقاليد الحكم، لا تمثل تغييراً عندها. والظاهر أن أروى لا تتطرق قط "لثورة التصحيح" التي قام بها السادات في أيار مايو 1971 والتي قضى فيها على "مراكز القوى" الناصرية وولى المخلصين له المناصب القيادية. ويبدو أن أروى لم تعتبر ذلك أكثر من صراعات قيادية لأصحاب الطموحات الخاصة وليس تغييراً في جوهر نظام الحكم، بل تعتبر أروى، في موضوع آخر من الكتاب، اختيار عبدالناصر للسادات ليخلفه بمثابة مناورة تقليدية محسوبة من عبدالناصر الذي أدرك، بعد هزيمة 1967، أن الظروف الدولية خصوصاً ضغط الولايات المتحدة تفرض على مصر عملية تعايش مع اسرائيل. ولم يكن عبدالناصر قادراً على تحمل هذا الخزي وعرف أنه في حاجة الى رئيس "يقوم بالمهمة". هكذا وقع اختياره على السادات. "لذلك فقد انطوى اختياره على حكمة جديرة بعبدالناصر ولكن أيضاً على خبث جدير به". وتقول أروى "وعلى رغم أن ملف السادات لم يفتح كله بعد لحساب التاريخ إلا أن ميتته وحدها تشهد بأن عبدالناصر - ميتاً - كانت له الكلمة الأخيرة... لقد صنع عبدالناصر التاريخ ميتاً، تماماً كما صنعه حياً". أي أن المقصود نظام حكم واحد ومتصل يقوده جمال عبدالناصر سواء كان حياً أو ميتاً كممثل عن البورجوازية الصغرى التي تحولت الى البورجوازية الجديدة الأسوأ من سابقتها.
إن الفترة التي تلت هزيمة 1967 بالذات كانت فترة حيوية سياسية وثقافية كبيرة أكثر من أي فترة أخرى طوال العصر الناصري. فقبل الهزيمة كانت تبدو الحياة في عصر عبدالناصر أزهى من أي حلم. فتعلم الفقراء وتفتحت أمامهم سبل التقدم في المجتمع. وتوالت الانتصارات على الامبريالية عند الحديث عن السياسية الاقليمية والدولية لعبدالناصر، ووصلت الى مسامع كل منزل عن طريق نشرات الأخبار في الراديو. "وكل متشكك في هذا الحلم المعيشي اما مجنون أو به بطر وهو في الحالتين منبوذ". غير أن الهزيمة وضعت الكثير من علامات الاستفهام حول هذا الحلم. "في الوقت نفسه بدونا كشعب يحاول بعد فترة طويلة من النسيان يعيد الى نفسه القدرة على التفكير، ونظام الحكم الذي أبعدت الهزيمة الخوف عنه سمح للشعب بالابتهاج في فترة قصيرة بهذه اللعبة الخطرة. فقد بدأ المثقفون يفتحون من جديد الملفات المحظورة. وتجرأ الكتاب على الاستهزاء بالرقابة وكتبوا كلمات "خطيرة" شربتها أرض ظمأى تبحث عن طرق جديدة والهام جديد". كانت هذه هي خلفية اندلاع الحركة الطلابية.
"ان هذا المؤلف الصغير" في رأي الكاتبة يعيد الى الأذهان تجربة المجموعات الطلابية التي نظمت وقامت بالتظاهرات. "استمد حلمهم قوته من تجديد نشاط الشارع من أجل التطلع الى تغيير شامل لمستقبل الوطن وإنقاذه". والكاتبة على وعي بأن "سذاجة ذلك الحلم تبعث على السخرية اليوم - لدى أبناء جيلنا أكثر من أي أحد آخر"، غير أنها تحدد "ان حلمنا المهزوم لم يكن سراباً كله، كما يلذ لكثيرين منا الآن أن يصفوه ليذلوا ماضيهم - إمعاناً في رد الفعل على غرورهم السابق" بل كان تاريخاً أيضاً، تبقى منه "أشياء حقيقية غريب أن نهدرها حتى بعد هزيمة حركة الطلاب". ويهتم الكتاب أيضاً بجوهر هذه الهزيمة التي قضى فيها النظام الحاكم على الوضع التاريخي الذي تولدت عنه الحركة الطلابية ونقل المجتمع المصري الى "مشهد جديد تماماً بهموم وأحلام مختلفة. لا مكان فيه ولا فيها للحركة الطلابية ولا حاجة لأيهما الى جيل المناضلين والمثقفين الذي ولدته التجربة التي ما كاد يبدؤها وهو في أول مشواره في السياسة والابداع والحياة العملية، تبتر مع اندثار العالم الذي حملها اليه وأصبح فجأة قديماً، ليصبح أبناؤه مشاريع لم تكتمل أبداً. جيلاً من المبتسرين".
النقد الذي وجهته أروى صالح "للنظام الناصري" والذي يمتد في رأيها أيضاً الى نظام السادات، مثل نقدها للحركة الطلابية التي كانت هي نفسها جزء منها، يقع في إطار "الحكمة بعد العمل". فأروى تكشف عوامل فشل الحركة في ضوء تطور الأمور بعد الفشل من ناحية "النهاية التي تشهد على البداية". هناك حقاً علاقة وطيدة بين العلامات المميزة للنظام الحاكم وبين العلامات المميزة للحركة على رغم أن الحركة الطلابية كانت حركة احتجاجية معارضة للنظام الحاكم. كان الطلاب الثوريون أبناء نظام "الضباط الأحرار" ونتاجه، حيث ولدت أروى صالح عام 1951 وكان عمرها 21 عاماً عندما بدأ تمرد الطلاب وكانت هي من قادته. غير أنه وفقاً لشهادتها الشخصية ووفقاً لشهادة أحد أصدقائها المقربين عدلي رزق الله بدأ وعيها السياسي والاجتماعي ينضج عندما كانت في سن ال15 أو 16 أي قبل فترة قصيرة من حرب 1967 أو بعدها بفترة وجيزة. وكان الإصغاء الى الانجازات العامة للنظام الناصري خصوصاً في التعليم والخدمات الصحية المجانية وسلسلة الانتصارات على الامبريالية العالمية هو المرجعية السياسية والاجتماعية الوحيدة التي عرفتها هي وأصدقاؤها.
كما ذكرنا، دفع نظام الحكم الناصري بنضوج بورجوازية جديدة، من أبناء الطبقات البورجوازية الصغيرة - والتي قامت بثورة تموز يوليو 1952، وهي الطبقات التي كانت تكن كل كراهية ورغبة في الانتقام من البورجوازية الريفية "والمدنية القديمة من أيام النظام الملكي. قضى عبدالناصر على "البورجوازية الطفيلية" وظهرت مكانها بورجوازية جديدة من أبناء الطبقة التي ينتسب هو اليها. وتم استيلاء هؤلاء البورجوازيين الجدد على الثروات الصناعية والعقارية والمالية التي قام بتأميمها النظام الحاكم. وكان من المفترض أن يصبحوا "سادة مصر الاشتراكية" وعماد جيشه الاقتصادي والسياسي، والذين يدينون له ولنظامه بالولاء" غير أن هؤلاء الأسياد أنفسهم تحولوا بعد وفاة عبدالناصر الى أسياد نظام الانفتاح الذي اتبعه السادات. وتكتب أروى "لقد رحم الموت عبدالناصر فلم يعش حتى يرى بعينيه ويسمع بأذنيه جنوده المخلصين يتذمرون في مجالسهم الخاصة من تدخل الدولة في أعمال القطاع الخاص الذين يستثمرون فيه أموالاً اشتراكية طبعاً لا موروثة بل ينشبون الأظافر على أعمدة الصحف في عهد الديكتاتورية".
ان المناضلين الذين أقاموا وتزعموا "الحركة الطلابية" عبروا طريقاً طويلاً من دون صراع، بل حياة من الازدواجية بين الأفكار الماركسية التي ظهرت في عصر الغليان الثوري العالمي والتي ملأت لغتها قوة وتفاؤل المستقبل وبين واقع الهزيمة التي لم يتح لأصحابها حتى شرف النزال، "فالنظام المصري الذي أسر الشعب المصري في مقابل منجزاته التي اتضح في ما بعد أنها موقتة، وضع المثقفين اليساريين أمام "تناقض ساخر" عندما حولهم الى أقلية مضطهدة من الشعب ذاته "فقد أجبرهم على التعاون معه أو الضمور في زوايا النسيان" حيث لا تساوي أفكارهم أكثر من قدرتهم على الفعل". تقول أروى "لقد ظننا أننا أبناء عهد جديد يبدأ فيه الشعب رحلته المستقلة عن نظام عبدالناصر بعد طول تبعية. ولكننا كنا مخطئين فالحركة الطلابية بنت زمن عبدالناصر وأحلامه أكثر كثيراً مما يظن بعض قادتها حتى اليوم".
لقد ظهر تكامل معين بين نظام الحكم وبين المعارضة الماركسية الوهمية: فقد أبدى نظام الحكم "تسامحاً" تجاه الماركسية والماركسيين وهو تسامح الأقوياء ازاء أحلام غير مضرة أعتقد أن أروى كانت تقصد عصر ما بعد اطلاق سراح الشيوعيين من المعتقلات التي مكثوا فيها فترة طويلة في ظروف قمعية شديدة. وقد أطلق سراحهم فقط بعد أن أجبروا على الموافقة على حل منظماتهم المستقلة والاندماج كأفراد في الاتحاد الاشتراكي العربي. وسلب منهم في الوقت نفسه لغتهم العبارات الماركسية لضيق عالمه الروحي البورجوازي. غير أنه ليست عيوب النظام الحاكم فقط هي التي حددت مصير الحركة الطلابية، بل أيضاً مميزات قادتها وأفرادها. فتصف الكاتبة الطلاب الثائرين بأنهم مجموعة من اليساريين البورجوازيين الضعفاء والذين كانوا الجمهور المناسب للقادة المناسبين. أما القادة فقد وصفتهم بأنهم "مجموعة من الأطفال الذين لم يتعلموا الكلام بعد وصدقوا انهم زعماء الشعب المصري. ولقد ملأهم هذا الاحساس الكامل بالزعامة بالعجرفة الساذجة التي سرعان ما دفعوا ثمنها". وفي موضع آخر من كتابها تصفهم بأنهم زعماء قبل أوانهم، حائرون بين كبريائهم وبين ضعفهم الذي يخشون الاعتراف به، أناس كل تجربتهم الثورية تتقلص الى درجة أنهم سجنوا ذات يوم. "لم يسمع عنهم أنهم أفلحوا في قيادة نعجة. ولكنهم كانت لديهم بجاحة الادعاء بامتلاك حل لمعضلات النضال".
حقاً كان للتجربة الثورية للحركة الطلابية نوع من اظهار التضحية والمعاناة الطوعية. غير أن كل ذلك قد أدى الى تشويهات مريضة لأنها حدثت داخل طبقة مغلقة ومنعزلة. "بأيدينا تحولت الحركة الى حلم عديم البهجة. فقد كان هؤلاء مجموعة من الشباب الذين وضعوا أنفسهم عن علم تحت أعين الشرطة ومخالبها وعاشوا حياة الملاحقين وضحوا بصنع مستقبل شخصي وأحياناً بمواهب واعدة "وعاشوا في ظروف مضنية تبلغ حدوداً دون المستوى الانساني. فعل أعضاؤها الأعاجيب كي يتملصوا من المجتمع بأسره فصنعوا من هذه اللقاءات سجناً خاصاً بهم. لقد عاشوا حياة الاغتراب بمعزل عن المجتمع المحيط بهم وكبديل له. عاشوا حياة الأوهام، التي كانت أرضاً خصبة لكل أنواع العجائب وولدت مآسي من مهازل رخيصة وتستغل التضحيات النبيلة في إراضاء نزوات مريضة. ونشأت صداقات حميمة، بل علاقات محبة بين أناس لا يجدون طريقاً حقيقياً واحداً للتعرف على بعضهم البعض، واكتسبت خزعبلات الخيال المهووس، قوة اليقين، وحصلت لديهم أحداث لا تتصور، بعضها طريف والبعض الآخر بذيء. وأصبح كل ذلك ممكناً ما دام يحدث في واقع مصطنع خارج كل واقع ومن ثم فهو أكثر تشوهاً من أي واقع.
* كاتب اسرائيلي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.