على رغم مكانة الحقبة الناصرية وتاريخها من هموم الكاتبين بالعربية على اختلاف أجيالهم ومشاربهم وأوطانهم وبلدانهم، فالباعث على هذه العجالة في كتاب أروى صالح "المُبْتَسَرون/ دفاتر واحدة من جيل الحركة الطالبية" دار النهر للنشر والتوزيع، القاهرة، الطبعة الأولى 1996 ليس رواية تاريخ الحركة الطلابية المتحدرة من أعوام عبدالناصر، على قدر ما يصح أن ينسب الى أروى صالح تأريخ لهذه الحركة أو تناول لحوادثها "النفسانية" أو "الثقافية". وليس الباعث على العجالة، من وجه آخر قريب من الأول، "تعبير الكتاب عن التناقضات الثقافية والاجتماعية التي مر بها المجتمع المصري ..."، أو "عن ضعف التيارات الثورية في داخل دائرة هذه التناقضات"، على ما ذهب إليه يوسي أميتاي "الحياة"، في 15 و16 آب /اغسطس، "أفكار" في تنبيهه على "دفاتر" الكاتبة المصرية الراحلة. فما تنبه عليه قراءة "المبتسرون"، وهي قراءة كانت مقالة أميتاي الداعي إليها والمحضِّض عليها، هو "ميزة الكتاب حقاً، من ناحية الشكل"، على ما يكتب الكاتب الإسرائيلي كذلك. فالكتاب "من ناحية الشكل" وعلى وجهه "يتميز... بعدم وجود نظام أو أسلوب محدد. فالعبارات طويلة ومعقدة جداً وتحتوي على كميات كبيرة من المقولات المبهمة والجمل الاعتراضية. وفجأة تقفز من موضوع الى آخر، كما أن هناك أحياناً عدم اتصال نصي ومنطقي". ويروي الكاتب أن منتدي فندق "شبرد" بالقاهرة، حول نجيب محفوظ، أدلوا بهذا الرأي في "شكل" الكتاب وكتابته وعبارته حين طرح على المناقشة والرأي. وكان رد أميتاي، على ما يروي: "ان هذه العيوب تمنح الكتاب جودته وروعته حيث أنها تعبر عن اختلاط المشاعر والانفعال التي كانت تمر الكاتبة بهما أثناء كتابته". والحق أن ما يبدو من شرط "الجودة والروعة" والأمران يتباينان تبايناً قوياً أي اختلاط العبارة عن اختلاط المشاعر، أو اتفاق "الشكل" و"المضمون" في الاختلاط و"عدم وجود نظام"، ما يبدو من شرط أو معيار غير مقنع. ولكن الأغلب على الظن أن الجمل التي أوكل إليها كاتب المقالة إخراج المعنى الْتوت على العبارة وعصتها. وربما كانت العلة في النقل إلى العربية. فما لا يفوت قارئ أروى صالح، وهذا ما يزعمه يوسي أميتاي وما يُحدس من قوله، هو كتابتها العربية على غير المثال السائر. فهذا، المثال السائر، يقضي في العربية المتداولة و"السليمة" أو "الصحيحة" بالبيان عن المعاني الناجزة والمحكمة، والقائمة في نفسها، والخلو من التقديم والتأخير على قول صاحب "الكامل في الأدب"، بياناً يحاكي المعاني إنجازاً وإحكاماً وقياماً في نفسها وخلواً من التقديم والتأخير... وإذا لم يستوف الكلام أو القول هذه الشرائط لم تصح نسبته الى "الاجتماع في صدر رجل واحد" على قول المبرَّد نفسه، مجتمِع النفس، ولا وَقَع في فهم رجل واحد. ويتصل التقديم والتأخير، وهما صورتان من صور النبوّ والكثرة والتفاوت أي هما من صور الزمن، يتصلان باستقامة القائل والسامع واحداً في نفسه ومطابقاً لها، مكيناً فيها، وباستقامة ما يوضع عليه القول، أو مقام المقال، واحداً. فهما، من هذا الوجه، جرحان يجرحان النفس "العادلة"، ويخرجانها من العدالة والثقة والقوة في الحق الى الضعف والكذب والوضع أو الصناعة والانتحال. وتتفرع البلاغة على هذا الأصل ولا تبطله: فهي تُعنى بالاستعارات والكنايات والتشابيه وتضبطها على مثالات معروفة تلزمها بها، فلا يخرج زائدُ الدلالة، إذا جازت الزيادة، على المثال المشهور والملزم. والحق أن هذا لا يبعدنا من أروى صالح، ولا من يوسي أميتاي، مدخلنا وبابنا الى الكاتبة المصرية، الراحلة طوعاً واختياراً. فحمل الكتابة "المختلطة"، المعقدة العبارة والكثيرة الجمل الاعتراضية والمبهمة المقولات والمتقطعة السياقات، على "مضمون" مناسب هو مزيج من "وقائع" تناقضات مجتمعة ومن دلالات "الكيتش"، هذا الحمل للمقال على المقام لا يعدو تعريف البلاغة العربية التي تُزعم تقليدية، على رغم ثباتها مثالاً أخيراً وجامعاً ولو في كتابة من كتبوا: "أقيم في التيه" على مذهب أحد "الأعلام". ولعل ما يفرد أروى صالح من بين كتاب العربية المعاصرين؟ إفرادَ الضعيف المريض المعتل الحروف كلها - ونحن على هذا لا نخرج من اللغة - هو اتخاذها ضعفها واعتلالها موضوعاً، أو وضعها المقال على علاقة معتلة ب"الواقع"، ورجاؤها "التداوي" .../ وما أنشد الأشعار إلا تداويا / على قول "مجنون" ليلى العامري من طريق الكتابة والقول. ولكن وضع القول على الاعتلال قد لا يعدو الوصف العيادي أو السريري. أو ترتيب الأعراض في سجل يلحظ التعاقب الزمني والتوارد العلي والسببي على نحو نوزوغرافي لا يجهله مذهب من مذاهب الطبابة، مهما كان أولياً أو "بدائياً". ولا تتنكب أروى صالح هذا المذهب في مواضع كثيرة من كتابها أو روايتها على ما أزعم. و"المضمون" الذي يعنيه أميتاي، واستوقف ربما زملاء الكاتبة ورفاقها وصحبها من جيلها وبعثهم على نقدٍ بعضُه قريب من الرجم، هذا المضمون إنما هو نتاج هذا المذهب في الكتابة. فهي تتكلم على "بورجوازية"، صغيرة أو كبيرة. وتفيض في الكلام عليها وعلى "إنتاجها" و"تشييئها" البشر وعلاقاتهم ومشاعرهم. وتتناول أوقات "البورجوازية" هذه على شاكلة أطوار ومراحل ومراتب، صعوداً وانحداراً، غنى وفقراً، إقداماً وجبناً. وتنتخب "ممثلين" للبورجوازية تخصهم بالتأمل الطويل، وباللائمة الأطول والأشد. ويتصدر "الممثلين" جمال عبدالناصر ووارثه وخليفته على الوجه "الرأسمالي" والأميركي الذي أضمره عبدالناصر وكتمه، فلم يكشف الستر عنه إلا بعد موته، وذلك أي كشف الستر على طريقة التنصل والإستتار. وتدخل تحت هذا الباب أجزاء طويلة من الكتاب "تعالج" مطالب وموضوعات مثل العائلة والزواج والجنس والحب والتربية والشعب والقضية الوطنية والعمل والتملك والسلعة والقيادات الطبقية والبيروقراطية والمثقفين والطلاب، وغيرها مثلها. وتستعيد "الدفاتر" في بعض هذه الأجزاء مواضع بحرفها من إنغلز أو انجلز، على ما يكتب المصريون صاحب كارل ماركس الأول وشارحه، في "أصل الأسرة..."، ومن "بيان" انغلز وماركس "الشيوعي" في المسألة نفسها، وفي الانقلاب من الشيء الممتلئ الى طيف السلعة. وتتردد في بعض هذه الأجزاء أصداء شروح الشارحين، من جورج لوكاتش، المجري والألماني اللغة والهيغلي الجدل، الى فيلهلم رايش، الفرويدي والماركسي السبّاق الى محاولة الجمع بين المنهجين. ولكن أروى صالح لا ترطن رطانة التلامذة، ومرددي المحفوظات عن ظهر قلب، بما تستعيده من هؤلاء وغيرهم، حتى حين تحاذي الاستعادةُ عمل الناسخين والوراقين. فهي لا تكتب إلا منتشية بما تكتب، على ما تلمح. فتجيء جملها محمومة يضج في جنباتها الوصف والرأي واللوم والمقارنة والخيبة والرجاء، ولا تستقر على قرار، أو تكاد، حتى يدعوها داعٍ آخر الى الإنزعاج، على قول المتصوفة، وترك مستقر الكلام إلى وجه طارئ ومختلف. وليس هذا أسلوباً ولا "شكلاً". فهو مبنى الكتابة، وما تصدر عنه وتعود إليه لتجلوه صوراً ومعاني في طينها ومادتها. وكأن الكتابة لم تنقطع عما صدرت عنه، ولم تخلفه وراءها وهي ميممة صوب العبارة، في مسرى ضوئها. وكأن عودتها ليست عودة بعد خروج وهجرة. وهذه الكتابة، إذا صح وصفها، إنما تسعى في طوبى أو في محجة لا تبلغ. ولعل محجتها هي "الواقع"، على ما تكتب أروى صالح عشرات المرات، وعلى أنحاء من المعنى كثيرة، لا يتفق نحو منها مع نحو آخر ولا يجانسه. فالواقع هو الناصرية وما بعد الناصرية" وهو "الوطنية" الناصرية من قبل ومن بعد، والحركة الطلابية وجيلها" وهو ما أورثه جيل الستينات الى جيل السبعينات، وما ورثه هذا من ذاك وفهمه وتخيله" وهو "البورجوازية" ورغباتها وأوهامها وضعفها وأثمان "التمرد" التي تسددها مع فوائد باهظة" وهو شيخوخة الثورة الشيوعية الستالينية، وانبعاث الصراع الطبقي في المجتمعات السوفياتية السابقة، ودوام ماركس ونقده و"حلمه". والواقع، من وجوه أخرى ملازمة للوجوه التي مرت هو الصدق والطيبة، واليد القوية، والعلاقة الغنية، والعمل والجمال والفهم والمعرفة، والاستقلال بالنفس وقيامها بنفسها بإزاء "الآخرين" واندماجها فيهم معاً. وهو الأدوار والمسرح والأقنعة الكاذبة، والشهوة المستعجلة والشهوة الملولة" وهو الفراغ والسلع والتسلية والخنوع والإنكار والحنين والخيانة والثرثرة. وهذه كلها هي "الواقع". ولكنها ليست الواقع على جهة الإحصاء والعد، ولا هي الواقع على جهة التناقض والتدافع المعلّلين - على رغم انتهاج أروى صالح في مواضع وأجزاء كثيرة من روايتها نهج التعليل والضبط، على ما مر. ولا يتستر نعت "البرجوازية" الرتيب، ومعارضة البورجوازية تارة بالحلم وتارة ثانية بالنقد الماركسي وتارة ثالثة بالحقيقة والصدق، لا يتستر النعت ولا المعارضة على عسر بلوغ "الواقع" وتعريفه، أو وصفه على نحو تقريبي. فينتهي الأمر بالكاتبة الى التخلي عن النعت في "الوثيقتين"، والعامية لغتهما، وفي "تذييل" الكتاب. والأجزاء الثلاثة هذه كتبت قبل كتابة جسم الكتاب، ورتبت على خلاف أوقات صوغه على ما يرجح يوسي أميتاي مستعيناً بتأريخ الكاتبة رسالتيها وإغفالها تاريخ كتابتها أي تدبيجها الأجزاء الأخرى. فإذا كف "الواقع" عن كونه "برجوازياً"، وعن استحقاقه هذا النعت الجارح - قرينة على جواز تصرمه وتقضيه "تاريخيته" ثم على ضرورة التصرم والتقضي - بقي واقع يبعث دوامه وعمومه وقسوته على القلق والحصر. ونشأ واقع من ضرب آخر استفرغت الكاتبة جهداً كبيراً في إنكاره، هو واقع الأفراد و"الإجابات... بقدر ما هنالك من ناس ضمهم هذا الجيل"، على ما كتبت هي نفسها في آخر صفحة من "دفاترها". ولكنها، حقيقة، أحجمت عن تعقب الإجابات الكثيرة والمفردة هذه، إذا استثنيت إجابتها هي. والترجح بين المعنيين، أو بين الجهتين والوجهين، يلف كتابة الرواية بشباكه. فإذا كان جيل السبعينات، و"واقعه"، على ما هو عليه جراء الحوادث والوقائع السياسية والاجتماعية والثقافية التي سبقت حركته الطلابية والوطنية، ثم جاءت بعدها و"سرقت" من الطلاب حلمهم ودورهم المفترض وألقت بهم "جيفة" متحللة من الأنانية و"الرثاء للذات" والانتهاز، فالعلة ليست فيهم، على ما ينبغي الاستنتاج ويجب. وينزع الاستبداد دوماً الى حماية المحكومين من الواقع، ومن اختباره المر، على ما لاحظ بوريس باسترناك، صاحب "الدكتور جيفاغو"، وشكا. وكانت روايته إحياء لبعض ما مات من احتمالات الواقع المنقضي. ولكن "الواقع"، على ما تتناوله الرواية، لا يقتصر على الوقائع والحوادث، فهو يشتمل على أداء الأدوار و"لغتها"، على ما تكتب. فالتصدي الظرفي وبحكم المصادفة المحض، لقيادة حركة وطنية مادتها الرغبة الشعبية في الحرب، وتوقع الحرب من غير الحدس في تبعاتها أو في شرائطها، هذا التصدي أصاب بالدوار والعظام جيلاً من أشباه القادة. فهم يُسألون عن دوارهم وعظامهم سؤال صاحب تبعة ومسؤولية. وتروي "المبتسرون" أخبار جيل الحركة الطلابية على الوجهين المختلفين هذين. فيعذر الوجه الأول من الرواية، التاريخي والبورجوازي، هلهلة الجيل وأفراده، وتسوغ أحكام الضرورة تهافتهم وركاكتهم. أما الوجه الثاني فيرميهم بالعار على الهلهلة والتهافت والركاكة عامة، ولا يقع لهم على أضعف العذر وأقله. فتترجح الرواية، وهي وصف ورأي وتنديد وخيبة محمومة، بين الوجهين، ولا تقتصر عليهما ولا على ترجحها بينهما. فهي تكتب ونصبَ كتابتها مقاصد وغايات كثيرة يدور بعضها على الفهم والتعليل، ويدور بعض ثان على التسويغ، وثالث على الاستعادة والتداوي، ورابع على الحساب المضني، وخامس على المسرحة، وسادس على تخليص احتمالٍ مؤود تحت ركام الأنقاض الخامدة وبث حياة فيه ربما... وتسوق الكتابة "المختلطة" دواعي القص هذه كلها، وموادَها المختلفة، سياقة كتابية واحدة، على خلاف مقتضى البلاغة أو الكتابة الواضحة. فتنتقل بين الدواعي والمواد، وتقدم وتؤخر، أوقاتاً وتعليلاً، وتروي الوقائع والمسرحيات أو "المسخرات" على ما كان يقال، وتخبر عن الشخوص والأقنعة، وعن الأحلام والأوهام، وكأنها على سوية واحدة من "الواقع"، على حين تجهد في تمييز سويات الواقع، أو مستوياتهم، بعضها من بعض. ولكنها لا تميز سوية إلا وتلقي عليها التبعة الكاملة، ثم تعود وترمي بها، كلها كذلك، سوية أخرى. فما تسعى أروى صالح في تخليصه إنما هو ما يلابس الوقائع والحوادث والأشخاص من "لغة"، أي من صور وكلمات وتشابيه وآراء ورغبات تقضي في الوقائع والحوادث والأشخاص بأقضية وأحكام صارمة، وتنزلها على منازل ومراتب ومبانٍ هي شأن "اللغة" وأصحابها، وهي تصدر عنهم على نحو مبهم لا يُنتهى منه إلى أصل أول وصريح. وعلى هذا يبدو الفوت، أو الفرق بين الدور المفترض وبين أصحابه الظاهرين، أولاً. ولكن من يوكل الأدوار الحقيقية الى أصحابه الحقيقيين؟ ويشي السؤال بمرجع سوي، أو بسابقة سوية أوكلت الأدوار الحقيقية الى أصحابها الجديرين بها. وهذه السابقة، المفترضة، هي السابقة الأوروبية الأميركية. وهي سابقة فريدة، وتنحت عن استوائها الأول، وولغت في "المسخرات" والتكرار، على زعم أصحاب الرواية أنفسهم. فما الذي قسَم المسخرة والتكرار للمجتمعات غير الأوروبية الأميركية، من بعد زمن بطولي، فتكرر المجتمعات هذه التكرارَ، وليس الأصل؟ لم يكن مصير حسن مفتاح، بطل رواية لويس عوض، من قبل خيراً من مصير أروى صالح، وهو تبدد الواقع في إرادة بلوغه، ولو كتبت أروى روايتها بلغة "أغنى" من لغة عوض. وقد يكون هذا مصير كل انتلجنتسيا "روسية": فهي كانت ماركسية في عالم روسي غير ماركسي، أو هي كانت حديثة في عالم غير حديث، ولم ينشىء سند نقده والتحكيم في منازعاته. فقُسرت الوقائع على لغة مقحمة. ولكن الوقائع لم تكن تحتاج الى لغة تنقضها، وتنكر عليها دوامها، وحالت بين مثل هذه اللغة وبين التبلور المتدرج. وكان مسرح تشيخوف وأروى صالح "بطلة" تشيخوفية إلى رواية ليرمنتوف وروايات دوستويفسكي - وهي من "علامات" أروى صالح - مرآة حيوات أحلامها هي جدران سجنها. وعندما هدم من حسبوا انفسهم أصحاب "التراث" الروسي الكبير جدران السجن أنشأوا معسكرات "الغولاغ". ولكن التجربة لم تنفع. وها هي أروى صالح تستعيد بعض النبرة التشيخوفية إلى نبرة وارثيها المزعومين. فاستعارت "أجيال الطلاب" لغة لا تتميز معها الأخبار من الأكاذيب، ولا يتميز الناس من الأدوار. فاعتل "الواقع" اعتلالاً لا يبدو الشفاء منه احتمالاً معقولاً. ودبيب هذه العلة هو ما روته أروى صالح إلى خاتمته المستمرة. * كاتب لبناني