1 في الخريف الماضي. فتحتْ دانييلْ مرْتينيزْ. مديرةُ معرض بوردو للكتاب. فضاءً خاصاً بالشعر. لأول مرة، والشعارُ الذي اختارته لهذا الفضاء هو "عودةُ الشّعْر". في هذا الفضاء كان اللقاء يومياً بين الشعراء والجمهور الذي ظلَّ. طيلة أيام المعرض يتوافر بانتظام. شعراءُ من عدة مناطق فرنسية. والشعرُ المغربيُّ ضيفُ المهرجان. قراءاتٌ ونقاشاتٌ مع جمهور. في قاعة صغيرة نسبياً. لوحاتٌ شعرية على الجدار. معرضٌُ للديوان الشعري. ما يقرب من خمسين كرسياً. أحياناً يحدث أن تمتلئ القاعةُ ويكون الحضور بحاجة الى الوقوف. أحياناً تكون القاعة غير ممتلئةٍ تماماً. لكن الجمهور البوردولي. كان يتوافد على فضاء الشعر. واقعةٌ تبدو عاديةً. ربما باعثةً على السخرية. قاعةٌ شبهَ صغيرة. عددٌ ضئيل من المتتبعين. كلُّ ما يمكن أن نخمّن فيه غير قابل للتصديق. لكن النظرة العارفة بالشأن الشعري. في فرنسا أو في أوروبا. ستقرأ الخبرَ بطريقةٍ مختلفة. معرضٌ يُحدّثُ فضاءً للشعر. لأول مرة في تاريخه. تلكَ هي دلالة شعار "عودة الشعر". إنه الشعرُ الذي كان مُبعداً لسنوات من خُطاطة تنظيم المعرض. يبرزُ في قاعة صغيرةٍ مثلِ قاعاتٍ أخرى كانتْ مُخصّصةً لمحاَور ثقافية. باستثناءِ مَحاور سياسية. أو ثقافية ذاتِ صدىً إعلامي. الشعرُ ذُو قاعَة. في معرضٍ فرنسي. برنامجُ الأنشطة مكثّفٌ. وذلك الحضورُ المستمرّ لجمهُور من أجيال متعددة. يأتي. يجلسُ هادئاً. لينْصتَ. ثم ليناقشَ. صخبٌ هو الآخر كان يُداهِمَ القاعةَ بين فينة وفينة. كلّما كان النقاش يمسُّ قضايا شعرية وإنسانية. شديدةَ الارتباط بزمننا. وبنماذج شعرية. تحديداً. عودةُ الشعر. شعارٌ لفضاء الشعر. في بوردو. وهُو لم يكنْ عبثاً. يمكن أن نلاحظَ هذه العودة في مناطق متباينة من العالَم. ثمةَ ما يدعو للتأمل. عددُ المهرجانات الشعرية يتزايدُ. طيلة السنتينِ الأخيرتيْنِ. بيوتاتُ الشعر بدورها تتأسّسُ. في أكثر من مكان. عددُها يرتفعُ لقاءاتٌ وهيئاتٌ. تبحث عن اللقاء. يومٌ عالميٌّ للشعر أقرّتْه اليونسكو. في نهاية السنة الماضية. كلُّ ما نراه يعني أن الشعرَ ينطلق من مكَان محجُوب. مفاجِئ. من حيثُ لا يدري الذين يتداولُون شعاراتٍ تفضّل الوخْزَ بالحدِّ المُحَمَّى. زمنُ الرواية. أو موتُ الشعر. كلامٌ لا يصدر إلا عن ملاحظين مُنفعِلين بالإعلام الثقافي. أكثرَ ممّا هُمْ عارفُون بالشأن الشعريّ. خصوصاً. 2 عودةٌ تصاحبها الترجمة. حركةٌ واسعةٌ لترجمة الشعر تتحقّق بوتيرةٍ متصاعِدة. متحديةً عوائقَ المعرفة المُباشرة باللُّغات الأصْلِيّة. إنها اللغاتُ الوسَائِطَ التي تحتلّ مواقعَ تتزايد فاعليتُها. قبل سنوات. عندما زرتُ بيتَ الشاعِر هُلدرلين. في توَنْغَنْ بألمانيا. البيتَ - المتحفَ. كان لي نقاشٌ مع المُديرة. يهمُّ ترجمةَ شعر هُلدرلين. لم أكن أتوقّع أن تُخبرني المديرةُ. بثقةٍ. وتلقائيةٍ. بأن شعْرَ هلدرلين لا يُترجم دائماً من الألمانية. هناك ترجماتٌ لشعْره في لغات من الشرق والغرب. تمرُّ عبْر وسَاطة الإنجليزية. أو الفرنسية. ذلك النقاشُ حول ترجمةِ شعْر هُلْدرلين. في توبنْغَن. تحوّل بالنسبة لي إلى واقعَة لا بُدّ من أخذها بالاعتبار. لا أريدُ القولَ إنّها الطريقُ الأصوبُ. أو الصحيحُ. بقدْر ما أريد التنبيهَ علَى أنّ عدَم المعرفة باللغات الأصلية لبعض الشعراء. أو شعْرِ بعضِ اللغات. مثل العربيةِ. لم يعُد عائقاً. ولنا أن نقترب ممّا يحدث في العالَم. المهرجاناتْ المتكاثرة عادة ما تعتمدُ مترجِمين. شعراءَ. يتولَّوْنَ أمرَ نقْل القصائد عبر اللغات الوسَائط. أكثرُ من ذلك هناك ترجماتٌ عبْر الوسائط لها مصداقيةٌ أكثرَ ممّا لتلْكَ التي تمّتْ على نحوٍ مباشر. من اللّغة الأصْل الى اللغة المترجَم إليها. في الشهر الماضي، كان لي حوارٌ مع شِيمْوسْ هِينِي. بخصوص ترجمة شعره الى الفرنسية. لمدينةِ مسْترِيخْتْ. الهولندية. مهرجانُها الشعري. ليْلاَتُ مستريخت للشعْر العالميّ. هناك إلى تلك المدينة التي تلتقي فيها الطبيعةُ بالعمَارة. تتناغم الهندسة القديمة والحديثة. في آن. مع الحدائقِ والنّهر بضفّتيه. والمراكِب جاءَ الشعراءُ من بلاد مُتباعدة. على رغم أن العددَ لم يكن يتجاوز الخمسةَ عشر شاعراً. الهند. بولونيا، ألمانيا. أميركا. ايرلندة. إسبانيا. الأرجنتين. كولومبيا. المغرب. شعراء وفدُوا بلُغاتهم. وبترجماتٍ مباشرة أو عَبْر وسَائِط. كنت صريحاً مع سيمُوش هِينِي. عندما أخبرتُه أن الترجمة الفرنسيةَ لشعره تُعطي الانطباعَ بأن ما يكتبه مجرّد سرْدً عاديٍّ. لا صدمةَ فيه. بعكس ما استمعتُ إليه من شعر ألقاه في الأمسية. هزّ رأسه مُوافقاً. وعلى شفتيه ابتسامةٌ لا تفارقه. "صحيحٌ" أجابني. "هذا ما قاله أيضاً ميشيل دُوغي. عندما تسلّم من المترجمة قَصَائدي". ترجمةٌ لا تَفِي للشعر الذي يقدّم صاحبه كحائزٍ على جائزة نوبل للآداب. سببُ ذلك أن المترجِمةُ. التي هي زوجةُ صديق لشيموس هِينِي. لا تتوفّر على ما يكفِي من المعرفة بالشعْر حتى تقوم بالترجمة المطلوبة. 3 حادثة عارضةٌ. مع ذلك فهي تعني أشياءَ. يتوجب الوقوفَ عندَها. هذا الحضورُ للشعر يفترض أن ترجمَته ممكنةٌ. بل وأكثر من ذلك ناجحةٌ. بدون وسَائط. والأمر ليس على هذا النحو. بتاتاً. فانتشار الشّعر. الذي أصبح علامةٌ على مُستقبل. يجعلنا نحْترِسُ في قَبول الآراء الإعلامية الكسُولة. التي هي عاجزةٌ عن الذهاب الى الأبعد في الملاحظة والتأمل. فالشعْر. يعود من جهة الى أخرى في العالم. مهرجاناتٌ وبيوتاتٌ. وفي الآونة الأخيرة مواقعُ شعرية لا حصْرَ لها على الإنترنت. والمقارنة بين الإقبال على شِرَاء الدواوين والإقبال على القِرَاءات يتجنّب الدقّة. ربما كان الجمهور. في العالم يرغَبُ في الإنصات للشعر بالدرجة الأولى. وبعْدَ ذلك. تبقَى عيّنة محدودةٌ من الحضور هي التي تقبل على شرائِه للقراءة. العودةُ الى اللقاء الحسّي بالشعراء. وهم يُلقون قصائدهم. نزوعُ الشعراءِ الى أدْماج الموسيقى والغناء في إنشاد قصائدهم. سِمَةٌ ملاحظةٌ. بل هناك توجّه جارف نحو ربط الشعر بالمشْهَدِيّة. وفي أمَالْفِي. مثلاً. بجنُوب إيطاليا. كان الأميركيّون. وأغلبهم من جيل الخمسينات. أصدقاء آلنْ غنْسْبِرْغ. وكيرْوَاكْ وبورُوزْ. ينْتقلون من الإنشاد الى الغِنَاء. لحظة ترُوبادُورية. قلتُ لصديقي أمجَد ناصِر. وهو مفتونٌ بهذا الفَرح الشّعْري. الممزُوجِ بالغضَب. 4 كان إزْرَا باونْد الشاعرُ الأميركي الذي أعطى القصيدةُ الأميركية مكانَتها في العالَم. أولَ مُعيد لاكتشاف التّروبادور. إنه الباحثُ عن الأصولِ اللاتينية. المشّاء. بقوَة الأنفَاس. نحو رُوما. في عهْد مُوسوليني. من أجل استكشاف الأرضِ الشعرية التي تمثّل لديْه سحْر الشّعْر. في طوافِه بين بَاريس ولنْدن. وإقامته في رُوما. في علاقته مع الشعراء المجتمعين في باريس. في بحثه عن مَنبع للشعراء الأميركيين كي يلتَقُوا بالشعْر الأوروبي. وبالشعر العالميّ. ذلك المجنونُ بالشعر الصّيني.ا لى جانبِ الشّعر اللاتيني. هو المنّبه على أهمية التروبّادور. ولنا أن نُنصت الى هذه العودة الى الإنشاد الغنائي إلى الغِنَاء الشعري كما لو كُنّا في عُهودٍ سبق وقرّرنا نسيانَها. تماماً. إنها النّقطة الثالثة. في أحيان تُصبح ترجمةُ الشعر ثانويةً. ما يهمُّ بالنسبة لمُحبّي الشعر هو الاسْتماع الى الشعراء وهمْ يلقون قصائدَهُم. في لُغاتهم الأصلية. وضعيةُ العربية. في هذا الاختيار متفرّدةٌ. عندما يُنصت الأجانبُ الى الشّعراء العرب وهم يُلْقُون قصائدهُم تحسُّ أن ما يقومُ به هؤلاءِ الشّعراء يستحيلُ مُقارنته بما يُمكن أن يقوم به جنْسٌ أدبيٌ آخر. ثانويةُ الترجمة تُشير الى أن التعرّف على نغميةِ العربيّة. شعرياً. يتحوّل الى قيمة بحد ذاتها. لكن هذه الوضعيةَ الثانويةَ للترجمة هيَ ما يشجّع على الترجمة. والانكبابُ على ترْجمة الشعْر العربيّ الحَدِيث. من جميع أقطاره. لشعراءَ ينتمون لأجيال ولحساسيات وتيارات شعرية. يهيئنا لنثِقَ في ما أنجزته القصيدةُ العربية. لا بالمعْيار المتداوَل عربيّاً. في المشرق والمغرب. و لكن بمعْيار التلقّي الأجنبي. إنه بعيدٌ عن تعاملنا مع شعْرنا. وهو لا يقيّم الشعرَ إلاّ من خلال القصيدة ذاتها. ونحنُ لم نستطع بلوغَ هذه المرتبة من الوعْي بالمسألة الشعرية. ما دُمنا خاضِعِين لما هُوَ خارجَ القصيدة. في الحَكْمِ والتدَاوُل. 5 درسٌ كبير. كّما التقيتُ بالعالَم. في التقائي أحسُّ بالحرية الشعرية وهي تكتسح فضاءاتٍ لم تكُن مهيأةً لاستقْبَالِ الشعْر. ولربما كان النقدُ العربيُّ. ومنه النقدُ الصحفيُّ. بعيداً جداً. عن إدراك ما يجْري في العالم. أو عنْ قيمة ما يكتبه الشعراءُ العرب. أو عنِ الخريطة التي تُرسم في غَيبتِهمْ للشعْر العربيّ. كلُّ ذلك يدلّ على أن القرنَ الحادي والعشرين هو قرنٌ شعريٌ. نعم. بهذا التأكيد يُمكنني النظرْ الى الشعرَ. ويمكنني في الوقت نفسه النظرُ الى القصيدة العربيةِ. متخلياً عن منطقٍ مريض. مريضٍ بالنُّكْران والعُدْوانية. و هو يفْصِلُ القصيدةَ العربيةَ عن فاعِليتها في التحديث الثقافي. أو يفصلُ بين القصيدة العربية في المغرب والمشرق. أو يُعْلِي من احتقارٍ لا شأْنَ لهُ بالشعْر.