توشك عمّان ان تكون العاصمة العربية الاكثر احتضاناً للنشاطات الثقافية الادبية والفكرية والفنية، ومن يرصد اخبار الانشطة هذه في الصحافة عندنا، يعتقد اننا نعيش في بحر ثقافي لا تهدأ امواجه، فلا يمر يوم من دون افتتاح معرض للفن التشكيلي، او محاضرة لمفكر عربي، او مؤتمر عربي لشؤون الرواية العربية وشجونها، او مهرجان للمسرح العربي والعالمي، او حفل للموسيقى او الغناء، هذا باستثناء ما تضخه دور النشر من كتب، وما يصدر عن جهات عدة من مجلات! و... حين يُجدب الموسم تماماً، فإنه لن يخلو من امسية لقراءات شعرية هنا او قصصية هناك، ما يعني ان برنامج العاصمة متخم حد تضارب مواعيد النشاطات في احيان كثيرة. في عمان هي تكاد تلخص الحال الثقافية الاردنية مؤسسات كثيرة تتعاطى العمل الثقافي، بدءاً من الوزارة ذات الحضور الرسمي وغير الفاعل ثقافياً تقوم بدعم نشر عدد من الكتب من دون احتساب المستوى، ويصدر عنها عدد من المجلات التي لا يقرأها سوى من يكتبون فيها، مروراً بدائرة الثقافة في امانة عمان التي تضم فروعاً تفتقر الى روح الابداع في تنظيم شؤونها ونشاطاتها، وبيت الشعر الاردني منذ ولادته الباهتة والمشكلات التي رافقت افتتاحه، ووصولاً الى مجلة وحيدة مجلة عمان اخذت تصنع لنفسها حضوراً عربياً بجهود فردية من رئىس تحريرها... وهناك رابطة للكتاب كانت اهم مؤسسة في الاردن قبل ان تدخل في "كوما" ثقافية جعلتها عاجزة عن اداء اي دور ثقافي او نقابي او سياسي حتى، ولم يبق منها سوى مجلة جيدة المستوى لكنها لا تكاد توزع خارج بوابة الرابطة... وثمة - ايضاً - اتحاد للكتاب يحاول ان ينطلق بدعم من الوزارة لكنه ظل مرفوضاً من غالبية المثقفين منذ ولادته، بدفع من الحكومة، كبديل للرابطة حين جرى اغلاقها بأمر الحاكم العسكري عام 1987، وقد عادت مطلع التسعينات و... تبقى مؤسسة شومان التي لعبت خلال السنوات الماضية وتلعب حتى الآن الدور الابرز في تحريك مياه العمل الثقافي، عبر المنتدى حيناً، ولجنة السينما حيناً، وعبر دارة الفنون وما يجري فيها من معارض ومن ندوات ذات طابع رصين غالباً، لكن مشكلتها تبقى في عدم توثيق "فعلها" الثقافي، الامر الذي يجعل تأثيره آنياً. والتعدد في اسماء "مؤسسات" الثقافة ليس دليل تنوع وثراء كما يمكن ان يوحي، بل دليل تفتت في بنية العمل الثقافي، في غياب مضمون حقيقي للمؤسسة، وفي ظل سيادة قيم ومفاهيم "الشلة" و"العصبة"، وتصاعد نبرة قطرية بغيضة يقودها مستفيدون من الاستقطاب والاستقطاب المضاد، ووقودها مثقفون وكتاب يعيشون من العمل في الشأن الثقافي الصحافي والاعلامي عموماً طامحون الى امتياز هنا او منصب هناك، ومن ليس هنا وليس هناك، ليس مع هؤلاء ولا اولئك، فهو ضائع لا محالة، فعلى كل مثقف ان يختار موقعه وموقفه وهويته! والمسألة مطروحة في جلسات مغلقة وخلف الابواب، واذا ما كتب احدهم فبكلام غامض او باهت لا يعالج الموضوع، بل يدور من حوله ويوارب. هي مسألة خطرة ولا يمكن تناولها في تسرع، لكن لا بد من الاشارة اليها كونها عاملاً اساسياً في التمزق، وتنذر بمخاطر كبرى! ويظهر الصراع في مؤسسات ودوائر، كما يتمثل في التنافس على "الفتات" الذي تدفعه الصحف للكتاب لقاء كتابتهم. وعلى رغم ذلك، يجد المهتمون نشاطات جديرة بالحضور في دارة الفنون يتمثل اولها في الشهادة الروائىة المهمة التي قدمها الروائي العربي المصري ابراهيم عبدالمجيد عن الاسكندرية، والثاني في معرض فنون بلاد الرافدين الذي يضم مجموعة كبيرة من فناني العراق، كما يجد المهتمون نشاطاً تشكيلياً مهماً في صالة "بلدنا" يجسده معرض الفنان العربي السوري نذير اسماعيل. وعلى صعيد تفاعلات قضية رواية حيدر حيدر "وليمة لأعشاب البحر" وما تبعها من محاكمة كتب واغانٍ طاولت شعراء مثل محمد الماغوط ووديع سعادة وعبدالحليم حافظ وسواهم، اصدرت مجموعة من الكتاب والمثقفين في الاردن بياناً تضمن مساندة "الموقف المواجه الذي اتخذته مجموعة المثقفين المستقلين في مصر والمثقفين العرب الذي يحملون الهواجس ذاتها تجاه سؤال الحرية والحق في القلق المعرفي وتجاه شرف الكتابة وعبئها"، كما تضمن ادانة تكفير الروائي المعروف، ورفض الموقعين "استخدام المنابر لدغدغة مشاعر الناس والطلبة في التحريض "ورفض" محاكمة المثقفين الذي اسهموا في اعادة نشر الرواية في مصر". وقد جاء البيان هذا في غياب اي بيان من اية جهة ثقافية، ولكن الموقعين عليه ينتمون الى مؤسسات ثقافية وفنية مختلفة. ومن ابرز تفاعلات الازمة في الاردن، ما كتبه او قاله عن الموضوع بعض المهتمين بالشأن الثقافي. فمن كاتب اسلامي متزمت يهاجم حيدر وروايته، الى كاتب اسلامي متنور يعتبر المسألة ابتعاداً عن الجهاد الحقيقي، وصولاً الى التأييد الكامل لمؤلف ال"وليمة... الخ". وما بين هذا وذاك، نقرأ رأي الشاعر زهير ابو شايب الذي يرى ان "الرقابة العربية تحاول دائماً ان تلصق تهمة الارهاب بالجماعات الاسلامية التي تتصرف بسذاجة مؤسفة، متبنية موقف الرقابة..." ويضيف ان "تراثنا مليء بالأدب الايروسي مثلما هو مليء بالكتابة التجديفية، ولذا فإن علينا ان نخاف فعلاً على ذلك التراث من ان تنقض عليه الرقابات العربية وتعدمه بالحجة نفسها...". من ابرز ما قيل في القضية، رأي الناقد الكبير احسان عباس الذي لم يقرأ الرواية، وقال "ربما اقدم رأيي فيها بعد قراءتها"، واضاف هناك بعض الروايات - ولا اقصد "وليمة..." - تتعمد الفضائح والبذاءة. ولقد قرأت في الآونة الاخيرة روايتين او ثلاثاً من هذا القبيل، واستغربت كيف يسمح كاتب لنفسه بهذا القدر من الخروج عن القيم. "واضاف" من جهة اخرى، اذا كان الخروج عن القيم مبرراً لجهة انه يمثل اتجاهاً فنياً لا تستغني عنه الرواية، فهو خروج محمود، اما ان يتفنن الكاتب في الامور البذيئة طمعاً في الاشارة، فإن عمله يكون ساقطاً. واضاف "لقد قرأت مؤخراً رواية كاتب سوري كلها تمجيد بحب ذكر لآخر، واظن ان هذا غير مبرر وغير مقبول على الاطلاق". عمّان - عمر شبانة