يتجه السرد الاعلامي للسيرة الشخصية للرئيس حافظ الأسد، الصادر أخيراً عن مؤسسات اعلامية صحف، اذاعة، تلفزيون، أو عن سياسيين اصحاب مواقع رسمية، واحياناً مقربين، يتجه هذا السرد نحو تنميط معين للصفات الشخصية، بما يحيلها الى صفات معيارية، كما يحيل النص المسرود برمته الى نص معياري، وتالياً، الى "نص حكم". و"نص حكم"، هذا، هو امتداد لمجال السلطة بعد غياب صاحبها، فإذا كان الرئيس حافظ الأسد كصاحب سلطة، يمارسها وهو قائم عليها وفق استراتيجية لها قوانينها، فإن غيابه يفترض تغيّراً في كيفيات السلطة، ولكنه، بمعنى آخر، يوفر مجالاً جديداً تمتد اليه هذه الاستراتيجية التي تكتسب معاني اخرى اضافية، وعلى ذلك، لا تكون السلطة هنا من المفروض بالجبر والقوة "القانونية أو غيرها"، بل تستمد السلطة معناها، وتالياً قوتها، من ملاحظة وجود "النادر" من الصفات وسط "شائع" منها ومخالف لها، أي من "الفرادة" في رتابة "التشابه والتماثل والترادف". على أن "الفرادة"، بهذا المعنى، لا تُبعد الأسد عن المجموع وتقصيه وتعزله، بل انها تقربه من "الجماهير" لترادفه بالانسان العادي، ولكنها في الوقت نفسه تُبعده وتفرقه عن الفئة السياسية السلطوية، التي هي منهجاً وصفات على مسافة كبيرة عن هذه "الجماهير"، وعلى تناقض عظيم مع معنى الانسان العادي. من هنا، تندرج آلية السرد ضمن اطار مستويين رئيسيين لها، يختص الأول بتعداد الصفات الموجودة عند الرئيس حافظ الأسد وحده، ويختص الثاني بتعداد الصفات الموجودة في غيره، ونفيها عنده. ووفق هذه الآلية يوسّع السرد مجاله وعوالمه، فلا يبدو عليه الاكتفاء بالسيرة الشخصية للرئيس، بل انه يطاول السير الشخصية للفئة السياسية ب"الجملة"، وذلك عبر نفيه لجملة من الصفات عن السيرة الشخصية للرئيس، في الوقت الذي يكون فيه هذا النفي الحصري اشارة صريحة الى عدمه في السير الشخصية لغير اسم. وعل ذلك، نقع في المستوى الأول للسرد على الصفات التي تميز الرئيس وحده: التواضع، العفوية، الحساسية المفرطة، الخجل، الابتعاد عن المديح الشخصي، الاستماع الممتاز، احترام الآخر الخ... أما المستوي الثاني للسرد، فإنه قائم على جملة نفي طويلة: لا ملكيات تجارية، لا مزارع، لا فيلات، لا أموال، لا تبذير، لا وقت خاص، لا استراحة... الخ. يُفصح تلازم السرد في المستويين عن سيرة شخصية للرئيس الأسد غاية في التمييز والخصوصية، غير أنه يشي ايضاً بسيرة شخصية مُوحّدة لسياسيين متعددين ومعروفين، غاية في العمومية والسوء والابتذال. فإذا كان المستوى الأول للسرد مختصاً بإيضاح الصفات المميزة للرئيس دون غيره، فإنه يبين، وبالدرجة نفسها من الوضوح، مقدار ابتعاد الفئة السياسية، عموماً، عن هذه الصفات. فإذا ما أدخلنا أداة النفي الى صفات المستوى الأول، فإننا نقع على سير رجال نعرفهم ونستطيع بسهولة التأشير عليهم والتدليل على مواقعهم، حيث نسترشد عليهم بعد انقلاب الصفات الى ضدها: لا تواضع "تكبّر وعجرفة"، لا عفوية "تصنّع وافتعال"، لا حساسية "بلادة"، لا خجل "وقاحة"، لا ابتعاد عن المديح الشخصي "توسل المديح"، لا استماع ممتاز "تطنيش"، لا احترام للآخر "احتقاره"، لا قدرة على الاقناع "استخدام السلطة في ذلك"، لا ثقافة "أمية وجهل" ... الخ. تعتبر جملة النفي، هنا الأداة الكاشفة للمستور والفاضحة للمسكوت عنه، فمع استخدامها تتوالى اسماء الرجال محتشدة في الذاكرة لتصل الى "رأس اللسان"، ولكن، عندما تكون الأسماء ب"الجملة" فإنه لا حاجة لتلاوتها، بينما الحاجة تظل قائمة لتكرار الاسم عندما يتفرد صاحبه بالصفات، كما هي حال الرئيس الأسد. ولا يتوقف نفوذ جملة النفي عند المستوى الذي يتم استخدامها فيه، بل وفي المستوى الذي يتم حجبها عنه، فمع حذف "لا" النافية من المستوى الثاني فإن السرد ينقلب الى نقيضه، من السيرة الشخصية للرئيس الأسد الى السيرة الشخصية للفئة السياسية ب"الجملة" التي تبدو صفاتها ومنسوباتها: ملكيات تجارية، مزارع، فيلات، أموال، تبذير، وقت خاص، استراحة ... الخ. وفي الحالين، يصطفي السرد صفات الرئيس الأسد، فينمطها في فضاء نص معياري، يُقاس اليه، وتُنسب، السير الأخرى التي تناقضه أو تقاربه بدرجة ما. وعلى ذلك، وعلى رغم المعرفة المسبقة بالسيرة الشخصية للرئيس، الا انها لا تتمتع بنفوذ سلطوي إلاّ مع غيابه، وها هنا يبدو وكأن الشعب يكتشف هذه السيرة وصفاتها وتاريخها، وقابليتها لاكتساب معنى السلطة وقوتها. فالاكتشاف هنا، لا يوفر مادة للدراسة والتأمل، بمقدار ما يملّك الجماعة مادة اذاعية قابلة للانتشار والتعميم، غير ان الضمير الجمعي لا يحتاج هذه المادة للوصول الى اطمئنان داخلي تجاه سيرة الرئيس وماضيه، بل يحتاج هذه المادة لاشهارها والتهديد بفحواها والتلويح بعناوينها في وجه الفئة السياسية ب"الجملة". وهنا يبدو وكأن الشعب، وبترداده الدائم لصفات الرئيس وسيرة حياته، يدفع الرئيس نفسه الى مخاصمة هذه الفئة وتطليقها على نحو نهائي، وحتى بعد غيابه!؟ إلاّ ان الخبرة الكبيرة "المرعبة حقاً!" التي تتمتع بها هذه الفئة، لا تدع الرئيس وشأنه، حتى بعد غيابه، فاتجاه الحرب المضمرة - المعلنة عليها، بإذاعة وتعميم سيرة الرئيس وصفاته، تخوض هذه الحرب وتشترك بها باعتماد الآلية ذاتها التي تستخدمها الجماعة، فيباشر افراد هذه الفئة بترداد واذاعة السيرة الشخصية للرئيس والتفاخر بصفاته المميزة، مع الايحاء بأنهم يعرفون هذه السيرة اكثر من معرفة الشعب لها، نظراً لقربهم التاريخي من الرئيس ومرافقتهم له في نضاله. وهكذا تنجح الفئة السياسية في حرف سيرة "سيرة الرئيس" كنص معياري، من مواجهتها الى مواجهة المجهول، فلا يبدو بعد ان اشترك "الجميع" في هذا السرد، ان في الوطن كله من هو على تناقض أو خصومة مع معياريّة صفات الرئيس وسيرته. ولا تكتفي الفئة السياسية باعتماد النص الموحد للمسرود الجمعي في التصريحات الصحافية والاجتماعات العامة، بل أيضاً في الاجتماعات الخاصة بالمؤسسات المدنية أو الحزبية، فإذا كان الاجتماع يضم خمسين عضواً، مثلاً، فانهم يتناوبون على الكلام مكررين ضرورة مواصلة الحرب على الفساد، مستندين الى توجيهات الرئيس الدائمة ورغبته وسيرته، متوسلين من ذلك اخراج انفسهم من الجهة المقصود مواجهتها، فتتجه الحملة ضد الفساد لمواجهة المجهول؟! بعد ان انتفى وجود أي "فاسد بيننا"!؟ وهكذا، تستخدم الفئة السياسية خبرتها المرعبة، دائماً، عندما تستهدف تحويل اي اتجاه غير مرغوب بنجاحه الى مجرد شعار "ناجح جداً"، ولكن، بتكرار ذاته واشاعة مفرداته الى الحدود التي تحوله من "حاجة سياسية" الى "عادة سياسية" تنشأ الدعوة لتجاوزها بالتقادم الزمني. وبالوصول الى هذه الحال، تبدو الجماعة - الشعب وكأنها سُلبت من اكتشافها الذي هو سلاحها الجديد والمأمول به، الذي أصبح مشتركاً لها وخصمها الذي يستخدمه على نحو فاعل، فتستسلم له بمجرد قبولها منحه حق هذا الاستخدام من دون ان تحاول حجبه عنه ولو لمرة واحدة. في هذه الدرجة من التلاقي بين الفئة السياسية الفاسدة والشعب، لا تعود السيرة الشخصية للرئيس ذات بعد معياري ووظيفة حكمية، بل واضافة الى استحالتها الى "عادة سياسية" باردة، يحولها "الخبث السياسي" الى "حكاية" غير قابلة للتكرار، أي الى قصة نادرة مقاربة لسير القديسين، فيحيلها من فضاء السياسة الى فضاء التنسك والزهد، فتبدو والحالة هذه غير قابلة للمعايرة أو المقايسة، وان كانت مصدر احترام واجلال، ولكنها لا تنتمي الى الأفعال الانسانية الممكنة والعادية. وعلى ذلك ينتفي معناها في الضمير الجمعي كسلطة مباشرة جاهزة للاشهار، وقابلة للامتداد والتأثير في مواقع مخالفة ومناقضة لروحها، وينحصر معناها، في المقابل، في ذلك النوع من الاعجاب والاجلال الذي تكنه الجماعة لرئيسها الغائب. ورويداً رويداً وتجاه شراهة وشراسة "الشائع" من الصفات الملازم للفئة السياسية ب"الجملة"، يصبح "النادر" من الصفات مثال تندر على خياليته ولا واقعيته، وصولاً الى الاشفاق على صاحب هذه الصفات واستمطار اسمه بالرحمات!!. * كاتب سوري.