ثمة عوامل كثيرة تتحكم بالانتخابات النيابية المقبلة في لبنان، بطبيعة التطورات التي حصلت قبلها وتلك المرتقبة بعدها، ترخي بثقلها على التحضيرات الجارية لهذه الانتخابات وتأليف اللوائح وعقد التحالفات، وممارسة المناورات الانتخابية. ويسود الاعتقاد لدى الكثير من المراقبين ان احداثاً مثل الانسحاب الاسرائيلي من جنوبلبنان والدور الكبير الذي أداه "حزب الله" في ذلك وجمود عملية السلام على المسار السوري وبالتالي اللبناني ووفاة الرئيس السوري حافظ الأسد وتولي الرئيس الدكتور بشار الأسد سدة الرئاسة من بعده، لها اثر عميق على المرحلة السياسية المقبلة، لا بد من ان تطبع المجلس الجديد والعملية الانتخابية. اما الاحداث والعوامل المرتقبة التي تفترض اخذها في الاعتبار، في عملية احتساب التحالفات وبالتالي التوازنات في المجلس النيابي الجديد، فهي تعد ولا تحصى: امكان ان تطول عملية الجمود في مفاوضات السلام وتمتد مرحلة "الستاتيكو"، الدور السياسي المستقبلي ل"حزب الله"، الحوار المسيحي السوري في شأن نفوذ سورية في لبنان في ضوء الانسحاب الاسرائيلي من الجنوب، الحكومة المقبلة ومن يترأسها، التمهيد لانتخابات رئاسة الجمهورية من جانب المجلس الجديد خريف العام 2004. ولعلّ العاملين الاخيرين المتعلقين بالحكومة المقبلة، وبالتمهيد لانتخابات الرئاسة، يختزلان الكثير من العوامل المذكورة سابقاً، ومن تداعيات الاحداث الكبرى على الوضع السياسي اللبناني. واذ تكثر التفاصيل الانتخابية، في وسائل الاعلام، لمواكبة نشاط المرشحين، وتركيب اللوائح، فان لبعض المواقف ابعاداً متصلة بالحسابات المستقبلية المتوسطة او البعيدة المدى. فالمجلس الجديد مُددت ولايته 4 سنوات ثمانية اشهر،، فلا تنتهي في خريف العام 2004، قبيل انتهاء ولاية رئيس الجمهورية بخمسة اسابيع، بل في ربيع العام 2005، لمرة واحدة واستثنائية. ومع ان حجج هذا التمديد كانت تلافي تشابك مواعيد استحقاقين دستوريين، فانه في كل الاحوال يحقق غرضاً مهماً، هو ان يتعاطى المجلس الجديد، الذي يمكن التحكم بالتوازنات فيه في موضوع الرئاسة الأولى. واذا كان اي رئيس للجمهورية يطمح في الحد الادنى، الى ان تكون له كتلة نيابية قوية، تجعل موقعه في الحكم قوياً في العلاقة مع شركائه، ومؤثراً في اختيار الرئيس المقبل، فان المحيطين به يذهبون الى حسابات الحد الأقصى: امكان التمديد، وتهيئة الظروف لهذا الاحتمال. وهو امر لا يستبعده البعض، على رغم ان الأمر ما زال مبكراً، بالنسبة الى الرئيس اميل لحود. وفي كل الاحوال فان في المعركة الانتخابية المقبلة، ما يؤشّر الى ان فريق الحكم يسعى الى توفير مصادر القوة داخل البرلمان المقبل. ودائرة المتن الشمالي نموذج عن هذه الرغبة، عبر مؤشرات عدة: ترشح نجل الرئيس اميل اميل لحود على لائحة رجل العهد نائب رئيس الحكومة وزير الداخلية ميشال المر، توفير الأخير تحالفات بهدف اسقاط النائب نسيب لحود المرشح الى الرئاسة الأولى الذي كان عارض تعديل الدستور لانتخاب قريبه، مثلما سبق ان عارضه للتمديد للرئيس السابق الياس الهراوي. ويتحرك رموز الحكم في كل اللوائح لتأمين حضور لمؤيدي العهد. ففي اللوائح الموالية له، يطمئنون الى تحالف "امل" و"حزب الله" في الجنوب، والى طبيعة المعركة الانتخابية في البقاع، وقد لا يكونون متحمسين لنجاح بعض من تفرض علاقاتهم وأوزانهم، ان تشملهم اللوائح "الناجحة"، ويسعون الى محاربتهم. ويسعى رموز الحكم الى مساومات مع لوائح المعارضين حيث هم اقوياء، لادخال بعض من يحسبونهم على الموالاة للعهد، مثل غسان مطر ونجاح واكيم على لوائح رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري وزاهر الخطيب على لائحة رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط. كذلك يسعى، حيث الموالون اقوياء: الى استبعاد المعارضين الأقوياء من لوائحهم حتى لو كانت الظروف المناطقية تفرض ذلك مثلما حصل في بعض مناطق الشمال. ولا تقل حسابات المرشحين الى الرئاسة أهمية في عقد التحالفات، عن تلك التي لدى بعض المحيطين بالحكم. وهذا يشمل نسيب لحود وسليمان فرنجية وجان عبيد وغيرهم... من النواب الموارنة الذين يعتبرون ان دخول الندوة البرلمانية شرط اساسي للتأهل الى طموح الرئاسة البعيد الاستحقاق. لكن الاستحقاق الثاني المتعلق بتغيير الحكومة فور بدء المجلس الجديد ولايته في 15 تشرين الأول اكتوبر على ما ينص الدستور، قريب المدى. وربما كانت مؤشرات الحسابات ومظاهره في شأنه، في المعركة الانتخابية أشد وضوحاً ووطأة من الاستحقاق الرئاسي، على رغم ارتباطهما وفق ما يعتقد بعض المتابعين عن كثب لمجريات الأمور. وتجمع المعطيات التي باتت في متناول غالبية الصالونات السياسية، على ان هذا الاستحقاق سيطرح عودة الحريري الى الرئاسة الثالثة لأسباب عدة منها: ان العلاقة بين الحريري والقيادة السورية الجديدة حققت قفزات الى الأمام قبل وفاة الرئيس الأسد، وبعدها، أزالت كل ما شابها من سلبيات رافقت ولحقت خلافه مع الرئيس لحود واعتذاره عن عدم تأليف الحكومة الأولى للعهد. ويتحدث بعض الأندية السياسية منذ اشهر عن معطيات من نوع ان الحريري فوتح بالعودة الى المنصب وان الأمر لم يعد سراً، بل ان وسطاء من المحيطين بالرئيس لحود أدوا دوراً في مباشرة التحضير لامكان التعاون بين الرجلين، ليعتاد كل منهما "مزاج" الآخر، خصوصاً ان يعتاد الحريري ويتأقلم مع ذهنية الرئيس لحود. ان الحريري، بخروجه من الحكم، وبفشل سياسات الحكومة الحالية وبتحوله "ضحية" نتيجة ملاحقة معاونيه وحلفائه عبر حرب الملفات وبالحرب الاعلامية التي شنّت عليه، عاد فاكتسب شعبية عوض فيها ما فقده وهو في الحكم نتيجة الاخطاء التي ارتكبها وحكوماته، في شكل لم تنفع عملية تقسيم بيروت في تبديد قوته الانتخابية. وهذان السببان، مضافين الى حلفه مع جنبلاط وعدد من المرشحين في مناطق غير بيروت، كافيان من اجل اخضاع حسابات التحالفات لاستحقاق الرئاسة الثالثة فاذا كان الحريري يرغب في كتلة نيابية ممن يدعمهم، اضافة الى كتل حليفة قوية، كما كان يأمل من انتخابات 96 لدعم موقفه في رئاسة الحكومة، فان لدى المحيطين بالحكم وبعض المرشحين للرئاسة الثالثة هواجس اخرى: ان البعض يتمنى استبعاد عودة الحريري نظراً الى صعوبة الانسجام بينه وبين لحود. ومن هنا تتجه الأنظار الى اعتبار ان نجاح رئيس الحكومة الحالي الدكتور سليم الحص والرئيس السابق عمر كرامي والنائب تمام سلام والوزير نجيب ميقاتي في النيابة من الثوابت، كي يبقى هناك من بدائل، بل ان ترشح بعض الجدد على الحياة النيابية، في بيروت وطرابلس، لا يخلو من آمال بأن تكون اسماؤهم بين من تسمح الظروف بتداولها. ان بعض المحيطين بالحكم يرون، اذا كان لا بد من التعاون مع الحريري، ان المطلوب ألا يأتي قوياً. وبالتالي من الأفضل ألا يمد نفوذه في مناطق غير بيروت الشمال والبقاع وان يتم اختبار تعاونه هذا، في بيروت عبر افساحه في المجال امام بعض الموالين للحكم والمعارضين له، او الحياديين حياله، ليدخلوا الندوة النيابية، كي لا تضعف ساحة المعارضة ضده، اذا عاد الى الحكم. ومن هنا الجهود التي تبذل للسيطرة على المعركة بطريقة تتيح فوز زاهر الخطيب في الجبل، ونجاح واكيم وغسان مطر وميشال اده في بيروت.