هيّأَت الظروف السياسية التي شهدها لبنان منذ مطلع العام، للنتائج التي انتهت اليها الانتخابات النيابية، في التمثيل، وفي الخطاب السياسي. بداية العام شهدت استمراراً لحرب الملفات القضائية عبر ملاحقة عدد من رجال الإدارة اللبنانية في العهد الرئاسي السابق، اضافة الى وزراء لقربهم من سياسة الحريري أو تنفيذهم هذه السياسة ابان رئاسته ثلاث حكومات في عهد الرئيس السابق الياس الهراوي. وكانت بداية العام 2000 استمراراً لهذه الحرب، لكنها ما لبثت أن بدأت بالتراجع، نظراً الى عدم وصول القضاء الى ما يمكنه من اتخاذ أحكام ضد الذين طاولتهم الملاحقات، فصدرت قرارات عدة بمنع المحاكمة، وبقيت ملفات مفتوحة مع اطلاق المعنيين بها. في 12 شباط فبراير أطلق وزير النفط السابق شاهي برصوميان بكفالة مالية هي الأعلى 3 بلايين ليرة بعدما لوحق في ملف اهدار أموال الدولة في صفقة بيع رواسب نفطية، وأمضى في السجن أقل من سنة، وأحيل بعدها للمحاكمة. وأطلق آخرون من فريق رئيس الحكومة السابق. منهم المدير العام السابق لمرفأ بيروت مهيب عيتاني بكفالة قيمتها 50 مليون ليرة، بعدما أمضى في السجن نحو 6 أشهر. وقبله محافظ بيروت نقولا سابا، ثم أفرج عن المدير العام للاستثمار في وزارة الاتصالات عبدالمنعم يوسف. وقبله صدر قرار ظني منع المحاكمة عن رئيس مجلس ادارة تلفزيون لبنان فؤاد نعيم وأعضاء المجلس، لعدم وجود عناصر قانونية عن تهمة الاهدار وأخلي النائب حبيب حكيم بعد أشهر من توقيفه، قبيل الانتخابات. وبقي المدير العام للآثار كميل أسمر قيد التوقيف. وولّدت حرب الملفات مناخاً اثر في الانتخابات: الحكم ورجاله كانوا يأملون أن تضرب صدقية المعارضين، أمام الناخبين، لكن مفعولها كان عكسياً، إذ ضاعفت التعاطف مع الحريري وجنبلاط وسائر المعارضين لسياسة لحود - الحص. وسبق كل ذلك ورافقه تفصيل المحيطين بالحكم والمستشارين، قانوناً جديداً للانتخاب، كان هدفه الأساسي تقسيم دائرة بيروت الانتخابية ثلاث دوائر لتشتيت قوة الحريري. ومع ان الحص أعلن معارضته الفكرة فعاد وقبل "برأي الغالبية في مجلس الوزراء". ثم ان القانون قسّم الكثير من الدوائر وفقاً لرغبات التحكم بالتمثيل المسيحي في وسط جبل لبنان، وفي الشمال فجاء هجيناً، وراعى جنبلاط في الشوف وبري في الجنوب... وشهد العام 2000، في العاشر من أيار مايو وفاة أحد أهم رموز الزعامة المسيحية وآخر الأقطاب التاريخيين، عميد حزب الكتلة الوطنية ريمون اده، قبل أيام من الانسحاب الإسرائيلي. وهو كان أمضى 24 عاماً في منفاه الاختياري في فرنسا. وعاد الى لبنان قبيل الانتخابات، الرئيس أمين الجميل بعد ترتيبات واتصالات شارك فيها نائب رئيس الحكومة وزير الداخلية ميشال المر، ونجح نجل الجميل، بيار الذي ترشح منفرداً في دخول الندوة البرلمانية. وفي وقت خاضت ثلاث قوى مسيحية فاعلة هي "التيار الوطني الحر" العوني و"القوات اللبنانية" و"حزب الوطنيين الأحرار" حملة عنيفة على قانون الانتخاب، ودعت لجنة التنسيق التي تجمع بينها، الى مقاطعة هذه الانتخابات وشنت هجوماً على التدخل السوري فيها وافقها "حزب الكتلة الوطنية" الرأي حيال القانون والمداخلات السورية، والامتناع عن الترشح، لكنه شارك في عمليات الاقتراع، داعماً أصدقاء، اثنان منهم نجحا على اللائحة المدعومة من جنبلاط الذي رفع من وتيرة انفتاحه على الوسط السياسي المسيحي، الى درجة الدعوة الى فتح البحث في اعادة انتشار الجيش السوري في لبنان، وتابعها بعد الانتخابات. كذلك شارك حزب الكتائب في الانتخابات ونجح نائبان منه، واحد على لائحة جنبلاط وآخر على لائحة "حزب الله" مدعومة من سورية. وشهدت الأسابيع القليلة السابقة على عمليات الاقتراع في 27 آب أغسطس و3 أيلول سبتمبر أعنف الحملات السياسية المتبادلة في ظل بعض التغييرات في التحالفات التقليدية، ومنها انفكاك التعاون بين الرئيس عمر كرامي والنائبة نايلة رينيه معوض من جهة، والوزير سليمان فرنجية من جهة أخرى، اضافة الى تعاون من خارج اللائحة بين المر والنائب الشديد المعارضة للخط الرسمي وسورية ألبير مخيبر الذي عاد الى البرلمان. وشملت الحملات أيضاً تحريكاً لملف قضائي ضد الوزير السابق فؤاد السنيورة، ما لبث أن توقف بعد الانتخابات فعاد وزيراً كرد اعتبار اليه. وإذ تصدر جنبلاط الحملة بقوة على مداخلات الأجهزة، في الانتخابات، فإن الرئيس الحص ومعه أجهزة الإعلام الرسمية كافة التي كان يديرها معاونو الرئيس لحود شن حملة عنيفة على الحريري. وضمّن الحص خطبه كلها كلاماً على "المال السياسي" الذي يوظف في الانتخابات. وشملت الحملات، جنبلاط والنائب نسيب لحود، قريب رئيس الجمهورية، الذي نافسه في الانتخابات نجله اميل اميل لحود، وجاء مفعولها لمصلحة المعارضة، وضد مرشحي الدولة، فحصدت لائحتا جنبلاط غالبية المقاعد، وأكثر من 80 في المئة من أصوات الدروز، ثم لوائح الحريري مقاعد بيروت ال19 ومعها 80 في المئة من اصوات السنّة. ونجح لحود المعارض... وسقط نواب اشتهروا بمعارضتهم للحريري من مثل زاهر الخطيب، بعدما كان نجاح واكيم اكتشف صعوبة اختراق شعبية الحريري فعزف عن الترشح. ولم يعد الى الندوة النيابية مؤيدون للعهد، أو بعض الذين كانوا من الثوابت لدى سورية مثل ايلي حبيقة وغسان مطر. وكان أركان الحكم والحكومة غير متنبهين الى ان الأزمة الاقتصادية - الاجتماعية أسست لنقمة المواطنين على السياسة الرسمية، كذلك مسألة التفاوت في ممارسة الصلاحيات بين رئاسة الجمهورية التي عاونها ضباط في ادارة الشؤون العامة، ورئاسة الحكومة. فضلاً عن ان دمشق كانت وجدت في تفاقم الأزمة الاقتصادية، اضافة الى معطيات أخرى منها تحسن علاقتها بالحريري بعد مرحلة جفاء، ان لا بد من عودة الأخير الى الحكم، سعياً الى الحد من هذه الأزمة. وهو توجه لم يلتقطه الحكم إلا بعد الانتخابات، وكان الأوان فات، على رغم ان الرئيس السوري الدكتور بشار الأسد كان أطلق اشارات في هذا الصدد. وبذلك خرج الحص، رئيس الحكومة الأولى في العهد، "راضخاً لحكم الناس"، وعاد الحريري بعدما كرّس نفسه مرجعية أولى في بيروت بسقوط رئيس جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية التي عاد فاستقال منها مع الحص كقطبين للعاصمة. وسعت سورية الى استيعاب التناقضات بين حلفائها وبذلت جهداً مع لحود لازالة مقاومته لهذه العودة، وأسهم في ذلك الأسد نفسه ناصحاً بتوافق بين الرئيسين على أساس "التوازن في التنازلات"، ما أثمر تعاوناً بينهما على تشكيل حكومة من 30 وزيراً، وأُبعد ضباط عن التدخل في الوزارات. وشهد مخاضها سجالاً على التمثيل المسيحي في جبل لبنان. لكن الامتحان الأساسي الذي تمر به، الى اختبار العلاقة بين الرئيسين القويين مقارنة مع علاقة لحود - الحص، تكمن في تصديها للملفات الاقتصادية والتزام رئيسها صون الحريات من تدخل الأجهزة، وهي تنعم بمهلة سماح من القوى السياسية، ليست بقصيرة.