التطورات الجديدة على جبهة جنوبلبنان وما جرته من تهديدات وجهت وتوجه إلى سورية ولبنان، وتقديم موعد القمة العربية وما تفرضه من تنسيق وتفاهم بين البلدين، قد تدفع دمشق إلى استعجال بيروت بت موضوع الحكومة الجديدة. استعجال "لا تدخل"، كما أبلغني مرجع سوري كبير، "حفاظاً على قاعدة بقائها على مسافة متساوية من جميع الأطراف والفئات، ولئلا يظن أحد أنها غلّبت طرفاً على آخر. هكذا تصرفت قبل الانتخابات النيابية وأثناءها... وهكذا تتصرف الآن ويكفيها ما يحملها اللبنانيون من مسؤوليات عن كل ما يحصل في بلدهم"! كانت دمشق حتى منتصف الأسبوع الماضي تنظر من بعيد إلى التداعيات التي خلفتها نتائج هذه الانتخابات وما أفرزته من معطيات جديدة ومؤشرة. وكانت ولا تزال تتابع الاستعدادات الدائرة لبدء الاستشارات النيابية لاختيار رئيس للوزراء، من بعيد أيضاً. هذه السياسة البعيدة عن التعامل مع التفاصيل اللبنانية ليست جديدة، كما قال مسؤول سوري، "وليست بالتأكيد دليل ضعف"، إنها نتيجة نهج وطريقة تعامل جديدين خطهما الرئيس بشار الأسد منذ انخراطه قبل سنتين وأكثر في الشؤون السورية العامة، الداخلية والخارجية، وترسخا بعد وصول الرئيس اميل لحود إلى سدة الرئاسة. ويلاحظ اللبنانيون منذ زمن أن طريق المصنع بين البلدين ضاقت كثيراً أمام المسؤولين والقادة اللبنانيين ذهاباً وإياباً. لم تعد دمشق مهتمة بالتفاصيل. يعنيها "العنوان العريض" والحفاظ على الواقع الحاضر علاقات وتنسيقاً في كل المجالات التي تخدم البلدين ومصالحهما. لذلك لم تتدخل في الانتخابات. بل كانت تفضل اجراء الانتخابات الأخيرة على أساس "المحافظات دوائر"، لكن اللبنانيين أرادوا ما كان من تقسيم للدوائر كبيرة وصغيرة... ومع ذلك، قال لي المرجع السوري، "لم تسلم سورية من سهام الانتقاد والهجوم يرميها بها ليس خصومها بل حلفاء أفادوا من الدوائر المصغرة. لم يكن وليد جنبلاط وحده بين المنتقدين، مع ما له من علاقات تعاون قديمة ووثيقة مع دمشق، بل حتى نجاح واكيم حمل سورية مسؤولية انسحابه من المعركة، مع أنها سعت لدى تمام سلام، بالتفاهم والتمني، لترشيحه على لائحته أو ترك مقعد شاغر له في اللائحة!" لا ينكر المرجع السوري أن بلاده "تدخلت" لترتيب تفاهم بين حركة "أمل" و"حزب الله" حفاظاً على انجازات التحرير، وعلى الجنوب وأهله ومساعدتهم على تجنب الوقوع في ما لا تحمد عقباه. "فهل تلام على مثل هذا التدخل الايجابي"؟ كانت دمشق تأمل في فوز كثيرين ممن تعتقد أن وجودهم في البرلمان يقيم نوعاً من التوازن، ومنهم الرئيس سليم الحص وتمام سلام ونجاح واكيم وزاهر الخطيب وغيرهم لكن هؤلاء فشلوا. "وعندما تنتقد كل الأطراف سورية في موضوع الانتخابات فمعنى ذلك أنها لم تتدخل فعلاً". في أي حال لا تتوقف دمشق عند التصريحات الإعلامية ولا تخشاها. المهم، كما قال المرجع، أن هذه التصريحات لا تغير في الواقع أو المضمون. ودمشق تراقب الآن جو النقاش المحموم في بيروت في شأن المرشح الأوفر حظاً لرئاسة الحكومة. وتعرف جيداً أن أحداً لم يتقدم لمنافسة رفيق الحريري بعد الانتصار الذي حققه في الانتخابات الأخيرة، وتعي جيداً حراجة العلاقة بينه وبين الرئيس لحود النابعة من شخصية كلا الرجلين وعقليته. لكنها عازمة على عدم التدخل، "لئلا يشعر أحد الطرفين ومن يمثل بأنها ضغطت أو تدخلت لمصلحة هذا أو ذاك". وأبلغني ديبلوماسي سوري أن الرئيس الأسد تربطه علاقة شخصية متينة بالرئيس اللبناني، وهو يكن له كل الاحترام، ويؤمن بأنه رجل مؤسساتي سعى ويسعى إلى تركيز الحكم وبناء البلاد على هذا الأساس، وإن لم يساعده الطاقم الذي أحاط به في السنتين الماضيتين، بل أضره وأفقده الكثير من زخمه الشعبي ورصيده. وتابع أن القيادة السورية تدرك أيضاً ما يمثله الحريري ومعنى الانتصار الذي حققه ورغبة اللبنانيين في التغيير. لكنه شدد على أن الرئيس السوري لن يتدخل بل هو حاضر للمساعدة على دفع الحوار بين جميع اللبنانيين. بالطبع لن تظل سورية صامتة إذا وصلت الأوضاع إلى سقوط لبنان في أزمة حكم أو أزمة دستورية. وكشف مصدر سوري أن جهات لبنانية كثيرة بدأت تلح طالبة مساهمة دمشق في المساعدة على تجاوز الاستحقاق الحكومي. وأبلغني المرجع الكبير أن المطلوب تغيير في عقلية كل من الرئيسين لحود والحريري "لإقامة نوع من التوازن. ليس المطلوب توازن قوى بل توازن تنازلات، أي أن يسعى الرجلان أحدهما نحو الآخر خطوة خطوة ليلتقيا في منتصف الطريق". وأوضح أن المشكلة ليست في النصوص والصلاحيات، أي ليست في ما نص عليه اتفاق الطائف بل في الممارسة وشخصية القائمين على الأمور. وذكر بتجربة حكومات الحريري يوم بدا "طغيان" السرايا على قصر بعبدا، وعلى تجربة السنتين الماضيتين يوم بدا طغيان بعبدا على المقيم في السرايا. ورأى وجوب تجاوز هاتين التجربتين وعدم تكرارهما وإقرار صيغة من التوازن تجنب لبنان أزمة دستورية أو أزمة حكم، وتسمح للطرفين برسم شكل الحكومة المقبلة وبرنامج عملها. وذكر المرجع أن الرئيس اللبناني، حتى أيام دستور ما قبل الطائف، "لم يكن مطلق اليد في الحكومات وسياساتها وبرامجها. بل كانت القيادات اللبنانية بما تمثل من طوائف وقوى لها كلمتها وقدرتها على التعطيل. لذلك يجب أن يكون هناك تفاهم، وسورية مستعدة للمساهمة في التوصل إلى هذا التفاهم".