يعرض متحف "جاكومار" مئتي قطعة من روائع فن السيراميك العثماني، تخرج بطريقة استثنائية وللمرة الأولى من اسطنبول. وهي تعتبر من الثروات التراثية الثمينة. يختص المتحف بفنون الشرق الأوسط وخصوصاً الفن العثماني منها، لذلك فهو يستقطب أبرز المجموعات الفرنسية. أسهمت في إقامة المعرض الباحثة لور سوستيل المتخصصة بالفن الاسلامي. وكانت عملت في معهد العالم العربي خلال فترة تأسيسه للمجموعة الاسلامية عام 1987، وعملت كذلك خلال عامي 1995 و1996 في دمشق المعهد الفرنسي للدراسات العربية. يتألف المعرض من مجموعتين. تخصّ الأولى متحب "صديبرك هانم"، وتخص الثانية "عائلة كوج" العريقة مؤسسة كيراج، وهي مجموعات خاصة تخضع للقوانين التي تمنع اخراج المواد الثقافية. يقع الأول في اسطنبول، وهو عبارة عن قصر خشبي بالغ الثراء في عمارته. مشيّد على البوسفور ويعتبر من العمائر التاريخية. تصل تقاليد عائلة كوج الثقافية في نسبها حتى الشاعر بيرم فلي بداية القرن الخامس عشر. فقد ابتدأت عنايتهم بتجويد صناعة النار السيراميك والفايانس وتجميع آثارها القومية في أنقرة، وهناك أسس أحدهم متحفاً أُلحق به مسجداً ومدرسة وخمسين دكاناً. تتعقب نماذج المعرض زهو السيراميك وازدهاره ما بين القرنين السادس عشر والتاسع عشر، ثم اندحاره واندثار صناعته مع استمرار التغريب والأوربة. ورُتّب المعرض على أساس التسلسل التاريخي. مروراً بمراكز الإشعاع الثلاثة: إزنيخ وهي أشهرهم تقع على بعد مئة كيلومتر جنوب شرق العاصمة. قطاهية تقع على بعد مئتي كيلومتر من الجنوب الشرقي. كاناقال تقع بدورها على بعد مئتي كيلومتر من الجنوب الغربي من اسطنبول. اختصت الاولى بتلبية حاجات البلاط السلطاني والقصور المعمارية واختصت الثانية بالعائلات البورجوازية، أما الثالثة فكانت مندمجة بالطبقات الشعبية. ابتدأ ازدهار إزنيخ منذ عصر السلطان محمد الثاني المنتصر والمتوفى عام 1480 م، ثم بلغ ذروته في القرن السادس عشر وبالتحديد خلال اشعاع عصر سليمان القانوني ومهندسه المعماري سنان باشا. فصناعة محترفات أفران التزجيج كانت مرتبطة باكساء العمائر الدينية والمدنية، لأنها تنتج تربيعات السيراميك التي تغطي الجدران. تتغيّر درجة الشي واللون في هذه التربيعات في شكل مقصود كما تتغيّر زاوية تثبيتها على الجدار، حتى تومض أشعة الشمس وتنعكس بصيغة متلألئة تفيض بالنور، وتذكرنا بحرص الصناعة الاسلامية عموماً على استخدام المواد النورانية العاكسة للضوء الطبيعي، مثلها مثل المشكاة والقنديل، الزجاج المعشّق وشمسياته، الفوانيس والمرايا والأبلق والرسم على الزجاج الخ... سمّيت هذه الصناعة بفنون النار بسبب الأفران قبل الاسلام، وفنون النور بعد الاسلام لعلاقتها بآية النور والنور على النور. بعض من التربيعات المعروضة مأخوذ من قصر "طوب قبو"، بزخارف غصنية متشعبة الألوان، وبعضها الآخر من جامع رستم باشا" في اسطنبول وهو كان وزيراً لسليمان القانوني وزوجاً لابنته "محرما"، ويعتبر جامعه آية من آيات عمائر القرن السادس عشر. من المثير أن السيراميك الصفوي في ايران بلغ ذروة ازدهاره في الفترة نفسها. وقد ظن الباحثون لفترة طويلة أن الصناعة الايرانية أثرت على العثمانية في هذا المجال، ثم تبيّن لهم أن الطرفين خضعا لتأثير البورسلين الصيني وخصوصاً الطراز المعروف باسم "مينغ"، ليس من طريق الاتصال التجاري فقط، وإنما وفي شكل خاص من طريق الاحتكاك المباشر بصنّاع الصين المسلمة وتنقلهم بين الأمصار. يتظاهر هذا الحمل منذ بواكير تربيعات سيراميك إزنيخ، ومن خلال استعارة نظام الغيوم والنجوم الذي يدعى بالصيني "تشي" ثم استعارة استخدام رسوم ورق قصب البامبو، وكانت هيئة رسومات مراكب البوسفور في بعض الأحيان قريبة من هيئة "الكجوك" الصينية. وقد اقتصرت منذ البداية على لوني البورسلان وهما الأبيض والأزرق، ثم أخذت تربيعات إزنيخ في تطوير التناغم بين اللونين وذلك بخصوصية استخدام مقامات الأزرق التركواز والكوبالت وترصيعه بعد ذلك بالناري الأرجواني الخاص، ثم ظهرت حياكة زخارف الزهور المحلية المدعاة بالتركية "حطائي" والمعقودة غالباً على أرضية من الجدائل أو الضفائر المتماوجة القريبة من تأثير تقنية "الإبرو" في المخطوطات. ترجع أشكال عناقيد العنب المؤسلبة الى الأقراط الصينية على صحون البورسلين وليس الى الأشكال الرومانية والبيزنطية. وقد ترسخت بالتدريج الخصائص الفنية للسيراميك العثماني وخصوصاً مع استخدام العناصر الطبيعية المحلية وعلى رأسها زهرة التوليب أو الخزامى، وهي نوع من الزنبق المنتشر في الأناضول. بدأت هذه الزهرة تظهر في السيراميك الإزنيخي منذ عام 1520، وكذلك في اللوحات الخطية العربية والمخطوطات. وأصبحت ذات زوايا نارية محززة بالأسود ثم اختلطت بالكتابة العربية لخط الثلث قبل شيوع الديواني وبالحيوانات المرسومة على تقاليد المخطوطات العباسية - المملوكية. تتعدد الألوان في سيراميك قطاهية ويزين بالأزهار والحيوانات والأشخاص، وتصبح تصاميمه أقرب الى روح الاستخدام المنزلي صحون ارستقراطية - تربيعات نخيلية معمارية. بدأ هذا الطراز بالازدهار منذ القرن السادس عشر وبلغ ذروته في القرنين التاليين قبل أن يأخذ في الاندثار. أما سيراميك "كاناقال" فقد انبثق من البيئات الشعبية في القرن الثامن عشر وانتشر في التاسع عشر بألوانه الفولكلورية وحيواناته الأسود والجمال والأحصنة وغيرها يث تراجعت صناعته مع بداية القرن العشرين. لم يشر المعرض الى العلاقة المتينة مع المحترفات العربية، ولا الى قرابتها مع سيراميك الأناضول وخصوصاً دمشق. فمن المعروف أن قاشاني الشام كان ينافس أزنيخ، وكان مطلوباً في الآستانة، وكانت طلبات الباب العالي تُلبى من طريق والي دمشق، تحاول اليوم مؤسسة "أرسيكا" أن تعيد الضوء الى مساحة هذه القرابة الثقافية والصناعية، وهي مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الاسلامية المنبثقة من منظمة المؤتمر الاسلامي ومركزها اسطنبول، أذابت نسبياً بمؤتمراتها التراثية جليد العلاقة الشائكة بين الأتراك والعرب، محاولة اعطاء المساحة الثقافية المشتركة حقها. ولنتذكّر مؤتمر المشربية القاهرة والأرابسك دمشق والسجاد تونس. لكم يكون مفيداً لو نقل المعرض الراهن الى دمشق أو القاهرة أو جدّة أو فاس. ولا يمكننا اليوم أن نتعامل مع الثقافة الأوروبية تبعاً لما أصابنا تاريخياً منها. ذلك أننا نملك مصلحة في التسامح وخصوصاً مع الثقافة العثمانية التي كنا شركاء معها في أكثر من ميدان، ليس السيراميك والخط العربي فقط، وإنما أيضاً وحتى اليوم الموسيقى والرقص والرسم والعمارة. تقودنا هذه الضرورة الى اعادة امتحان ملاحظة تقنية صريحة في المعرض: ترسم بعض تربيعات إزنيخ نجمية سداسية ملونة، نكتشف عند الاطلاع على كراس المعرض بأن ترتيب في صدر القاعة في شكل بارز ليس بريئاً، بل هو مقصود ويضمر بعض النيات. فهناك استثمار للالتباس المفتعل بين نماذجها اسم سليمان القانوني رمز الثقافة العثمانية وسليمان ملك اسرائيل التوراتي، والإحالة في هذا الالتباس الى ما يدعونهم بالصنّاع أحياناً بختم سليمان عن النجمة الزخرفية السداسية. أما العبرانيون فيسمونها نجمة داوود. وتذهب النصوص أبعد من ذلك وذلك باصطناع علاقة خاصة بين السلطان سليمان القانوني مع مدينة القدس ونشره للنجوم السداسية فيها. من البداهات المعروفة ان "النجمة السداسية" مثلها مثل الخماسية والثمانية واحدة من الوحدات المستخدمة إيقاعياً في الرقش العربي والاسلامي، ومستقاة في الأساس من الأبجديات الهندسية الرمزية الهندية، إذ يرى الهنود في المثلثين المتعارضين إشارة الى ثنائية النار الطالعة والنار الهابطة. أما المزخرفون المسلمون فقد استخدموها عبر أجيال من خلال استجابتها بدرجات متباينة الى معاني فناء الشكل في نقيضه، وبحيث يتطابق الالتفاف الفلكي للنجمية حول محورها مع صورة بنية الوجود الذرية، أو بالأحرى صورة "الجوهر الفرد" وسببية صيرورته وفق منظور المعتزلي أبي الحسن الأشعري. وعلينا الاعتراف بأن الرقش العربي الاسلامي لم يخترع أياً من هذه النجميات، لأنها مفردات هندسية وأبجدية زخرفية موجودة في شتى الحضارات، ولكن تمايزه الروحي أو الذوقي يتجلّى من خلال برامج استمرارها الايقاعي وتواصلها مع موسيقى الإنشاد واللحن الأفقي. يزداد هذا الالتباس خطورة بسبب تسربه الى دورة الأطفال التي يعقدها المتحف بمناسبة المعرض، وذلك وفق محور ميداني "خطى سليمان الحكيم" أو الرائع لأنه لا يترجم قانوني بالفرنسية، وذلك من طريق تحليل المفردات الهندسية الموجودة في الزخارف وعلى رأسها "السداسية" فتصبح رمزاً جمالياً لسليمان كما هي رمز سياسي للسليمان الآخر من دون مقدرة الطفل على التفريق بينهما.