عُرفت الدولة العثمانية منذ أواخر القرن التاسع عشر برجل أوروبا المريض، ومع ذلك استمرت لعقود من الزمن، لا بسبب عوامل البقاء الذاتية فحسب، بل حرصاً من الدول الكبرى خصوصاً بريطانيا العظمى على وحدتها وذلك خوفاً من مخاطر البديل والتقسيم. وعراق اليوم هو أشبه بمريض الأمس، فإذا كان ضعفه مطلوباً فإن تلاشيه أو تقسيمه مرفوض. وكان وزير الدفاع الإماراتي محمد بن راشد آل مكتوم أكد ذلك "القبس" الكويتية بتاريخ 18/1/2000 حين قال: "الولاياتالمتحدة غير جادة في الاطاحة بصدام حسين" مشيراً الى أن الأمر كان تحت يدهم في 1991 عندما توغلت القوات البرية في العمق العراقي. وحذر من مخاطر تقسيم العراق قائلاً: "ان الاخوة في الكويت يجب أن يعرفوا أنهم سيواجهون أخطر القضايا لو تم تقسيم العراق، إذ سيؤدي ذلك الى عدم استقرار المنطقة وبالذات الكويت" مضيفاً: "علينا جميعاً في منطقة الخليج ان نرفض هذا التوجه" وتابع "لا تستطيع أميركا المخاطرة بتقسيم العراق. ومن مصلحة الكويت ومصلحتنا أن يبقى العراق موحداً"، وحذر من ان "تقسيم العراق يعني فتح نفق مظلم في المنطقة، ولا أحد يستطيع التنبؤ بنهاية هذا النفق، وأول من يعارض تقسيم العراق هي الدول المجاورة له، اذ لا أحد يستطيع تحمل مخاطر التقسيم". وعلى رغم امتلاك الولاياتالمتحدة القدرة على دخول بغداد واحتلال العراق، الا أنها غير مستعدة لدفع ثمن إسقاط صدام حسين، بخاصة في غياب البديل المناسب. وتجربة بريطانيا في احتلال العراق تؤكد ذلك، فالأرقام هي التي دفعت بريطانيا العظمى للتخلي عن حكم العراق المباشر عام 1924 لصالح حكم أهلي يرتبط بلندن وذلك بعدما وجدت البديل المناسب بشخص الأمير فيصل الأول. لم يكن، أصلاً، هدف الادارة الأميركية حكم العراق أو اقامة نظام ديموقراطي، بل مجرد التخلص من تهديد النظام العراقي لمصالحها، وضرره على جيرانه. وهذا ما حققته "عاصفة الصحراء". واعتمدت واشنطن في ما بعد "الاحتواء" عبر العقوبات والضربات الجوية. أما مصير الشعب العراقي فهذا أمر ثانوي بالنسبة لها، تماماً كما فعلت في افغانستان عندما حشدت الطاقات باسم الاسلام لمحاربة الاتحاد السوفياتي، وما ان هزم الأخير حتى تخلت عن البلاد وهي في لجة من الفوضى والحروب الأهلية لا يزال الشعب الأفغاني يدفع ثمنهما. أما تصريحات المسؤولين الأميركيين بقرب الفرج فهي أقرب الى التمنيات على أحسن تقدير، والخداع اذا أردنا التشكيك. لم تمارس الادارات الأميركية بدءاً بجورج بوش، ومروراً بكلينتون، سوى سياسة الاحتواء والعقوبات، على رغم قناعتها بأن تلك السياسة لا تسقط النظام. وذهبت أوساط أميركية، ومنها مؤسسة "كاتو" الى القول في دراسة أعدها ديفيد ايزنبيرغ في تشرين الثاني نوفمبر الماضي "هناك تهويل من خطر صدام حسين، علماً ان قدراته مزقت بالحرب والعقوبات... قد يكون صدام كريهاً، ولكن نظامه لم يعد يشكل تهديداً لأمن أميركا. وقد يؤدي سقوطه الى تقسيم العراق نتيجة حرب أهلية، او الى مجيء نظام أكثر راديكالية. وفي كلا الحالين سيعم عدم الاستقرار في المنطقة... ونظام ما بعد صدام قد يكون أكثر عداء لأميركا من صدام نفسه". إذا كانت الولاياتالمتحدة غير مستعدة لفرض التغيير فمن المنطقي، اذن، اللجوء الى الحوار. وهذا ما أكده العاهل الأردني الراحل الملك حسين للأميركيين بشأن صدام حسين بقوله: "حاوروه أو اسقطوه". فقد عرضت واشنطن على ميلوشيفيتش حاكم صربيا اجراء انتخابات حرة كسبيل لرفع العقوبات وتأهيل يوغوسلافيا. اما بالنسبة الى العراق فالحوار مع نظام بغداد مرفوض لاعتبارات كثيرة، منها طبيعة الحاكم العراقي. ولكن السبب الأهم هو لاعتبارات داخلية خاصة في سنة انتخابات رئاسية. وفي غياب ارادة اميركية للتغيير يصعب على دول الجوار المبادرة أو الاتفاق على نهج مشترك تجاه بغداد. وانطلاقاً من مخاوفها الخاصة تعاملت مع نظام بغداد كثاني أحسن خيار، لا حباً به ولكن خوفاً من البديل. وهذا ما يؤكده تصريح وزير الدفاع الاماراتي. فايرانوتركيا وكل دول الجوار العربية ترغب بمجيء حكم جديد في بغداد صديق لها، ولكن في غياب تلك الامكانية تفضل بقاء صدام وهو ضعيف على مجيء حكم قوي معاد لها، أو انحدار العراق الى حال من الفوضى تهدد استقرار الجميع. ان الفارق بين دور الولاياتالمتحدة في يوغوسلافيا ودورها في العراق هو في اعتبارها التقسيم خياراً مقبولاً بالنسبة الى الأولى وغير مقبول بالنسبة الى العراق. وانطلاقاً من هذه الحقيقة رفضت واشنطن التعامل مع الأكراد كقوة للتغيير السياسي في بغداد، كما لم تسمح لهم بتكريس كردستان ككيان مستقل. بل عملت واشنطن على تكريس الوضع الراهن في شمال العراق عبر اتفاق واشنطن أيلول/ سبتمبر 1998 بين الحزبين الكرديين الرئيسيين الاتحاد الوطني الكردستاني والحزب الديموقراطي الكردستاني. فبموجب هذا الاتفاق يحافظ السلام القائم على عدم التحالف أو التحرش ببغداد، مقابل استمرار دعم الحزبين في مناطق نفوذهما. وفي المقابل أصبح استمرار الوضع الراهن بالنسبة الى القيادات الكردية الخيار المفضل في غياب امكانية الاستقلال أو الفيديرالية من جهة، والخوف من بديل لصدام يفرض نفوذه مجدداً على كردستان من جهة اخرى، بخاصة وأن استمرار الوضع الراهن في كردستان سيخلق حقائق يصعب على أي حاكم جديد في بغداد تجاهلها. كما يؤدي توازن النفوذ بين تركياوايران في كردستان العراق الى استمرار الوضع الراهن من دون حسم لصالح أي من الطرفين الاقليميين أو الكرديين. ان ادراك الحزبين الكرديين الرئيسيين لهذه الحقيقة يفسر استمرار تعاملهما المحسوب مع بغداد، والتخلي نهائياً عن دور الحاضنة للمعارضة العراقية. وما مساهمتهما في مؤتمرات المعارضة العراقية إلا إرضاء شكلياً لهذا الطرف الاقليمي أو الدولي وليس قناعة بجدوى تلك الاجتماعات، كما تأكد الأمر في اجتماع نيويورك الأخير. كما ان الأطراف الاقليمية والدولية ذات الاهتمام بالشأن الاقليمي، وبالذات مسألة المفاوضات العربية - الاسرائيلية، تعاملت مع استمرار الوضع الراهن في العراق كأحد الثوابت السياسية. فما كان لسورية ان تدخل مفاوضات السلام مع اسرائيل لو كان يساورها أمل في تغيير الوضع في العراق لصالح نظام يعيد تأهيله ويستعيد دوره القومي أو الاقليمي. وتعكس قناعة ايران باستمرار الوضع الراهن في العراق حالة التطبيع المدروس مع العراق وتخليها عملياً عن دعم قوى التغيير العراقية، بخاصة تلك المقيمة على أرضها، التي ضاقت بها سبل العيش وأخذت بالهجرة خارج ايران وبعضهم عاد الى العراق. ويبدو ان استمرار الوضع الراهن هو خيار الحكم العراقي كذلك. ففي غياب امكانية رفع العقوبات وتأهيل النظام بشروطه الخاصة يبقى استمرار الحال القائم مع التآكل أو التحسن الجزئي هو الخيار المفضل وذلك لأسباب عدة، منها ان النظام استطاع أن يحول بجدارة استمرار العقوبات الاقتصادية والضربات الجوية الى شماعة لتعليق كل استحقاقات الحروب التي ورط العراق بها. كما ان أولوية تأمين لقمة العيش والدواء على أي مطلب آخر جعلت المواطن العادي أسير رضى الحاكم في توفير بطاقة التموين الغذائية التي تحولت الى سلاح سياسي بيده. وما يتردد عن تلكؤ النظام في توفير الأدوية المكدسة في المخازن يصب في سياسة رفع وتيرة الحاجة والقلق بما يشغل المواطن عن التفكير بما هو اكثر من مجرد العيش. وبات استمرار العقوبات مبرراً لغياب المؤسسات الاقتصادية، مما أدى الى نشوء مافيات اقتصادية في خدمة النظام تعتمد التهريب والرشوة. وفي حال رفع العقوبات سيواجه النظام استحقاقات اقتصادية ومالية أولها الديون المترتبة عليه التي تقدر بين 100 بليون دولار الى 180 بليوناً، تتطلب خدمتها - إذا ما اعتمدنا سعر الفائدة عشرة في المئة فقط - ما بين عشرة بلايين الى 18 بليون دولار سنوياً. والسؤال الذي يطرح نفسه: من أين سيأتي النظام بهذا المبلغ، خصوصاً إذا ما عرفنا ان اجمالي عائدات النفط على أحسن تقدير لن يزيد عن 12 بليون دولار في أحسن الأحوال؟ هل يقوم برهن آبار النفط؟ وإذا كان سمح له ببيع نفطه في ظل استمرار العقوبات من دون ملاحقة من دائنيه، فالأمر سيتغير بمجرد رفع العقوبات. وإذا كان النظام يعول على دعم مالي دولي فإن شروط الصناديق الدولية ستقيد حريته في الصرف الأمر الذي لن يقبله النظام بسهولة. لقد أصبح التلويح الدائم بالخطر الخارجي اسلوباً تقليدياً في تبرير إحكام النظام قبضته على الأجهزة الأمنية. كما كرس استمرار العقوبات والضربات الجوية والاصرار اللفظي تحدي زعامة الرئيس صدام حسين في أوساط الشارع العربي والاسلامي المسكون بالعداء التقليدي لأميركا. كما تعتبر بغداد خروج المحافظات الكردية عن سلطتها أمراً موقتاً، بخاصة بعدما حيدت دورها في مشاريع التغيير السياسي. ولم يعد النظام يعتبر الحالة الكردية تهديداً له، بل ببقائها موقتاً خارج سلطته ازاحت عبئاً اقتصادياً وأمنياً ترك للزعامات الكردية توليهما "موقتاً" مقابل تسهيلات مادية ونفطية. لقد انعكس استمرار الوضع الراهن سلباً على المعارضة العراقية بمختلف فصائلها، بخاصة تلك التي اعتمدت على الدعم الأميركي، والتي تعيش اليوم حالة من الاحباط وفقدان الأمل. كما لعب استمرار المعاناة الانسانية للشعب العراقي دوراً في انقسام مجلس الأمن. فبعدما كانت واشنطن تصر على عودة لجان التفتيش عن الأسلحة قبل النظر في رفع العقوبات، اضطرت الى القبول بالقرار 1284. وأمام الرفض العراقي المدعوم من بعض اعضاء مجلس الأمن تخلت واشنطن عن ترشيح رالف ايكيوس رئيساً للجنة التحقيق والتفتيش والمراقبة لصالح هانس بليكس الحائز على رضى تلك الدول. واعطى القرار الأخير لمجلس الأمن بغداد فرصة للمناورة في كل خطوة من خطوات تنفيذه، وستستخدمه في خلق التناقضات في أوساط مجلس الأمن المرة تلو الأخرى. في ظل هذه الحسابات الدولية والاقليمية انتهى مصير الشعب العراقي بعد عشر سنوات عجاف الى سجين أو مجرد لاجئ في مخيم للاغاثة اسمه العراق. * كاتب وسياسي عراقي، مقيم في لند