يجسد الفنان دريد لحام، في حياته وعطائه الفني المتنوع، مواصفات الفنان المبدع المتفاني في عمله، عبر نشاطاته المتعددة في المسرح والسينما والتلفزيون والغناء ومهرجانات الأغنية والاهتمام بالطفل الذي يعتبر بناءه "استكمالاً لبناء الانسان والوطن في آن". وبالعودة إلى المسيرة الشخصية والفنية لدريد لحام نجد ان اهتمامه بقضايا المجتمع لم يكن نوعاً من الترف أو الفانتازيا، بل يمتد في جذوره إلى الطفولة التي عاشها في أسرة فقيرة ذات عدد كبير من الأطفال، ما اضطره إلى دخول سوق العمل مبكراً "للمساهمة في اعانة والدي على تحمل أعباء الأسرة" فكانت تلك انطلاقة مسيرته على مدى أربعين سنة متواصلة قدم خلالها أعمالاً فنية ومميزة. وارتأت "الحياة" ان تستقبل هذه السيرة كما رواها دريد لحام بنفسه لتتعرف إلى ما يعتمل في صدره مذ كان طفلاً، إلى ان اصبح سفيراً ل"يونيسف" لاتفاق حقوق الطفل في الشرق الأوسط وشمال افريقيا. ولبى دعوتها... وكتب هذه "التداعيات". كانت الغرفة الوحيدة التي ننام فيها تعتبر اكثر بقاع العالم كثافة سكانية. كنا عشرة أطفال: ست إناث وأربعة ذكور، ينام الذكور أمام إحدى أضلاعها والإناث أمام الضلع المقابلة، لأن للغرفة سقفاً، مهمته في الشتاء أن يعمل مصفاة للأمطار تتلقاها أوعية وزعت في أرض الغرفة. كان الفجر بدأ بالظهور عندما أفقت لأرفع رأسي بصعوبة وسط زحام الرؤوس على المخدة لأجد والدتي ما زالت وراء آلة الخياطة تخيط أثواباً لمصلحة أحد تجار الملابس، لتنال سبعة قروش ونصف القرش عن كل ثوب تساعد بها والدي الذي كانت دكانه الصغيرة في زاوية مهملة من زوايا حي الأمين، والتي ليس لها شبيه في هذا العصر، لم تكن تكفي لتطعم اثني عشر فماً وكنت يومها في السابعة. في العاشرة عندما قررت أن أساعد في مصروف العائلة الكبيرة... ذهبت إلى جارنا الحداد أبو كعود دريد: مرحباً عمي أبو كعود. أبو كعود: أهلين أبو الدر. دريد: لازمك شغيل؟ أبو كعود: الدكان صغيرة وأنا بكفي وبوفي. نظرت إليه بكثير من الرجاء والخيبة، وقبل أن أرحل بادرني: بتعرف تنفخ بالكور؟ دريد: بتعلم. وقفت على أطراف أصابعي لأطال الكور أنفخ فيه ساعتين متواصلتين في شكل رتيب يميناً ويساراً، تغمرني سعادة لا توصف، وأبو كعود يقول لي "عشت"، ويخرج الحديد المحمر من النار ويطرقه بهمة ودراية. نقدني خمسة قروش، فلم تسعني الدنيا من الفرح. ركضت إلى البيت أزهو بقروشي الخمسة التي ستساعد في مصروف العائلة، وقد تخفف من سهر والدتي وراء آلة الخياطة حتى مطلع الفجر. فتحت لي الباب، لوحت لها بالفرنك. ابتسمت ابتسامة رضاها الساحرة، حين بدوت لها كصورة سالبة. الفرنك ذهب ثمن صابون لتعيدني إلى لوني الأصلي. إلى مشغرة مع تباشير الشتاء، كان أبي يغلق دكانه ثلاثة أيام ويشد رحاله على بغل يستأجره، ميمماً شطر مشغرة في البقاع الغربي، بلدة والدتي، سارياً عبر السهول الموحشة والجبال الصعبة يوماً وليلة ذهاباً ومن دون توقف، ومثلها للإياب، ليأتي بحمل فحم يضيفه إلى بضائع دكانه المتواضعة. شعر أنني أصبحت في سن تمكنه من الاعتماد علي وعلى أخي جواد الذي يكبرني بعامين، لتبقى الدكان مفتوحة في غيابه. بلغت غلتنا مئة وعشرين قرشاً. نريد أن نلعب. اشترينا بالغلة "كريجة" مثل كثر من أولاد حينا. لم تكتمل فرحتنا بها عندما عاد. غضب، أضعنا رزقة العائلة، حطم "الكريجة"، لحق بنا لننال عقابنا، كنا أسرع منه في الهرب في أزقة حي الأمين. لم يستطع اللحاق بنا، كان والدي متعباً. وبلغت الثامنة عشرة. تخرجت في مدرسة حين الأمين الخيرية "المحسنية" وكنت أول من نال شهادة البروفيه بين إخوتي، مع أنني كنت الأصغر بين الذكور، فالآخرون كانوا يعملون ويحاولون التحصيل مع العمل. من الصعب تأمين ثمن الكتب ومتطلبات دراسة البكالوريا. علي أن انصرف إلى العمل كالآخرين. أخي أختي، اخي اختي... أسماء أشقائي التسعة. لم تكن والدتي تسمح المناداة بغيرها كي تضمن قوة الاستمرار للعائلة من خلال التماسك بعاطفة الأخوة. اجتمعت العائلة، قررت التضحية من أجلي، الكل يعمل ليتابع دريد تعليمه. نلت البكالوريا، فزت بمنحة دراسية في الجامعة لحساب دار المعلمين العليا مع راتب قيمته مئة وسبع وثلاثون ليرة ونصف الليرة. اطمأنت العائلة إلى المورد الجديد. عندها بدأ أخي جواد الذي يكبرني بعامين، بمتابعة دراسة البكالوريا إلى جانب العمل، كان عاملاً في الشركة الخماسية. من أول راتب تقاضيته عام 1953 في الجامعة أهديت أمي طباخاً ذا فتيل يعمل على زيت الكاز بدلاً من "بابور" الكاز أبو نكاشة. أنا فخور بأخي. استطاع بعد طول كفاح ان يقفز من عامل إلى مهندس. إنه الآن أهم مهندس كيميائي في الشرق الأوسط، وكثيراً ما تضمنا ليالي سمر مع أولادنا وأحفادنا نروي لهم قصص طفولتنا بحلوها ومرها. نذكرها بفخر وحنين. نذكر لهم كيف كانت أفواهنا العشرة تتحلق على الأرض حول مائدة القش المستديرة لتوزع أمي علينا فطور الصباح عندما يتوافر، ثلاث زيتونات لكل فم ونصف رغيف خبزته يداها الطاهرتان من دون أن تنسى أن تنبهنا إلى كلمة "نونه" بين الحين والآخر. هذا الإفطار يسمونه اليوم إفطار كونتيننتال، ويقدمونه في فنادق النجوم الخمسة ولكن من دون حنان وبكثير من الدولارات. الطول والعرض أصبحت طالباً في الجامعة، اكتمل نموي بالطول إلى 165 سنتم. أما بالعرض فلم يكن لي ظل يتبعني على الأرض في عز الظهر. وعلى رغم حرارة الصيف لم أكن أتخلى عن ارتداء جاكيت البالة لأخفي رقع البنطلون. وفي المختصر لم يكن عندي من المؤهلات الجمالية أو المادية ما يسمح لي أن أتجرأ وأعشق، فعشقت الفن وكان أول دور لي على مسرح الجامعة دور فتاة استشهد والدها في فلسطين. لم تكن الطالبات، وكان عددهن قليلاً في ذلك الوقت، يرضين بالوقوف على خشبة المسرح. وكنت "الفتاة" الوحيدة التي قبلت اختراق التقاليد، كان ذلك عام 1954. تخرجت عام 1958. أصبحت مدرساً لمادة الكيمياء في الجامعة والمدارس الثانوية. وبتشجيع من الدكتور صباح قباني جذبني التلفزيون الذي افتتح عام 1960 في الإقليم الشمالي من دولة الوحدة. أثناء أحد الدروس كنت أقف أمام الطلاب لأشرح عن حمض الكبريت، وكنت في الليلة السابقة أقدم برنامجاً على شاشة التلفزيون. استأذنني أحد الطلاب يريد أن يستوضح عن الفرق التفاعلي لحمض الكبريت المركز عن الممدد على معدن التوتياء، وبدأ استيضاحه قائلاً: أستاذ غوار. قررت أن أترك وظيفتي كمدرس لأتفرغ للفن. قد يكون من السهل على دريد أن يشرح عن التفاعلات الكيميائية ولكن من الصعب على الطلاب أن يستوعبوا ذلك من "غوار". كان عندما يولد طفل، أي طفل، تهدهد له أمه قائلة "بكره ان شاء اللّه بتكبر وبتتوظف". تحلم وتعد طفلها بحلم الوظيفة الآمنة. لذلك ولأن الفن لم يكن له ذاك الزهو الاجتماعي، لم تكن عائلتي راضية عن هذا القرار، خصوصاً أنني سأترك وظيفة محترمة تطعم خبزاً لأذهب نحو المجهول. لكنها لم تمنعني من تنفيذه. ساعدني على امتطاء المجهول صديقاي: نهاد قلعي وخلدون المالح. 1969 أصبحت أباً لثلاثة أطفال، ذكراً وانثيين: ثائر، عبير، دينا. ذقت الأمرين من ذاك المجهول الذي أحبه. دخلي من الفن الذي اعتنقته لم يكن يطعم خبزاً، صبرت معي زوجة رضية. شكراً هالة. أتى عيد سبقته أعياد، الأولاد في حاجة إلى ملابس جديدة للعيد. كالعادة ذهبنا الى دكان بالة اعتدنا عليه. كان يكرمنا بأن يغلق بابه ونحن في الداخل كي لا نشعر باحراج إذا رآنا أحد. صدف مرة أن رآنا أحدهم فصاح قائلاً: أحدهم: شو غوار بتلبس من البالة؟ غوار: لا... بس لازمني ثياب للتمثيل. نظر إلى ثيابي نظرة ذات مغزى، تشبه نظرة آرسين لوبين عندما يدعوه الشك إلى التفكير. بالتأكيد لم يصدقني، أدركت من نظرته أنه رأى ثيابي التي أرتديها في الدكان نفسها، في وقت سابق ولم تعجبه. شكراً لصاحب الدكان، لم نعد نشعر بإحراج، يغلق باب الدكان في وجه الزبائن، ويسدل الستائر كي نصبح وحيدين أنا وزوجتي لنغوص في صناديق ثياب الغرب العتيقة "البالة"، لا أدري أهو حرص على شعور غوار الذي أحبه أم لأننا زبائن مداومون. المهم وجدنا ما يلائمنا ويلائم أطفالنا. غسلنا الثياب بالبنزين كي نعقمها. أتى العيد، ارتدى أطفال ثيابهم معتقدين أنها جديدة. عادة يطير الأطفال من الفرح لكن أطفالي طاروا من البنزين... بادرني طفلي ثائر مستغرباً. ثائر: بابا الثياب ريحتهن بنزين. أنا: طبعاً حبيبي لأن هذه الثياب أتينا بها من أميركا بالطائرة، والطائرة لا تطير إلا بالبنزين. صدق طفلي وامضى مع أختيه عيداً عالي الأوكتان، لكنه غير خال من الرصاص. واليوم عندما يقرأ هذه "التداعيات" سيعرف للمرة الاولى... سر تلك الرائحة. أصبح أباً لطفل وطفلتين. أرجو يا صديقي ثائر ان تروي هذا لأطفالك يوماً ما. ملاحظة: كُثر من الزميلات والزملاء في ذلك الوقت كانوا يغلقون وراءهم أبواب دكاكين البالة... ليتسنى لهم استيراد ملابسهم بالطائرة. لن أبوح بأسمائهم كي لا يشاركوني فخر الكفاح. أنا لئيم أحب أن أنفرد به لنفسي. 1989 أصبح رصيدي الفني أثنين وعشرين فيلماً سينمائياً، وخمس مسرحيات وسبعة مسلسلات تلفزيونية، ورصيدي من العمر سبعة وستين عاماً، ورصيدي في البنك مستورة والحمد للّه. الأطفال دوماً يطالبونني، أينما صادفتهم. عمو غوار ليش ما بتعمل عمل خاص إلنا؟ إلى الآن لم أتوجه إليهم. مخاطبة الصغار أكثر صعوبة ومسؤولية من التوجه إلى الكبار. أخاف عليهم من أن أزرع فيهم أفكاراً خاطئة تسيء إلى ابنائهم. والآن أحسست انني بت املك الخبرة الكافية والثقافة المعقولة لأتوجه إليهم. قررت أن أبدأ بفكرة راودتني عشرين عاماً وكنت أقمعها من دون انقطاع تهيباً من التجربة. بدأت ب"كفرون". وراء زجاج نوافذ الباص الذي سيقلهم من مشتى الحلو إلى دمشق. بدت الوجوه البريئة للأطفال الستة وقد بللتها دموع فرح وحزن في آن. فرح غامر لمشاركتهم في أول عمل سينمائي للأطفال "كفرون"،، وحزن عميق لأن تصوير دورهم انتهى عائدين إلى بيوتهم. وهذا سيبعدهم عني. أصبحنا أصدقاء نلهو معاً، نفرح معاً، نبكي معاً... لوحوا لي بأيديهم الصغيرة، وفي دموعهم ألف معنى وألف ذكرى... غاب الباص عن ناظري مع الغروب، هابطاً الطريق الجبلي من مغارة الضوايات يحمل قطعاً من قلبي، أطلقت لدموعي العنان... هل في إمكاني متابعة التصوير من دون ضحكاتهم البريئة، وشغبهم اللذيذ ... أطفال "كفرون" اليوم طلاب في الجامعة وما زالوا أصدقائي الصغار. في يوم من أيام التصوير بدأنا بالعمل في السابعة صباحاً في "القصب"، قرية في أعالي جبال اللاذقية. الرابعة بعد الظهر، ولم يأت مدير الإنتاج بوجبات الغداء. تعبتم؟ قالوا لا... جعتم؟ قالوا لا... أنا أدرك تماماً أنهم تعبون وجائعون ولا يريدون إحراجي بنعم. في الخامسة شرفنا مدير الإنتاج بوجبات الغداء. قابلته بغضب مكتوم. أوقفت التصوير نصف ساعة لراحة الغداء عند المغيب. اعتدت عندما أغضب الا أنفس عن غضبي صراخاً وكلمات غير مهذبة كي لا ينعكس الأمر سلباً على المجموعة. أكتم غلياني الداخلي وأخلو لنفسي بعيداً حتى أهدأ. جلست بعيداً على صخرة، وسافرت بنظري مع جبال تداعب قممها غيوم الخريف، ووديان تزهو بخيراتها. أعادني من رحلتي وقع أقدام صغاري الستة. أتوا إلي يحملون وجباتهم ووجبة إضافية قدموها إلي: الصغار: تفضل عمو هي وجبتك. أنا: معصب شوي الأفضل ما آكل. الصغار: إذا انت ما بتاكل ونحنا كمان ما مناكل. وضعوا وجباتهم جانباً وجلسوا حولي على الصخرة واجمين... وفجأة ضحكنا وابتدأنا نأكل. عندما لاحظوا أن مدير الإنتاج مضرب أيضاً عن الطعام اعترافاً بتقصيره، ذهبوا إليه، ولم يتركوه حتى أتوا به بعراضة وشاركنا الطعام. لا مكان للكراهية في قلوب الأطفال. فالمحبة استعمرت قلوبهم. فرح وتشريف فرحي الغامر لا يوصف بمشهد صالة سينما الشام حيث يعرض فيلم "كفرون" وقد ملأت العائلة فضاء المكان، شيوخاً، شباباً، أطفالاً، ورضعاً في عرباتهم. استمر العرض الأول للفيلم اثنين وأربعين أسبوعاً متوالية. كنت اتسلل مع المنتج نادر أتاسي إلى الصالة في عتمة العروض لنتلمس ردود الفعل. نجاح التجربة دفعني إلى صياغة مسرحية للأطفال بعنوان "العصفورة السعيدة". اقتبست فكرتها عن قصة روسية باسم "بنت الراعي"، قرأتها في عدد من مجلة "أهل النفط" صادر في الأربعينات. كانت المسرحية مفيدة وممتعة للصغار، مسلية للكبار تدعو إلى العلم والتعلم. سحرتني مملكة الطفولة، وأدركت أن مستقبل وطني الكبير يمر عبر بوابات أسوارها. أدركت ما المعنى والأهمية لأن يحيا الأطفال طفولتهم. أنا أخاف جداً من ركوب طائرة الهليكوبتر، لكن سعادتي بفرحهم كانت أكبر من الخوف، نزلت إليهم في ملاعب كرة القدم بحثاً عن ابتسامة الرضا وصرخة الدهشة. تحققت لي هذه السعادة بفضل وزارة الإعلام ومنظمة الطلائع شكراً لهم. في 22 كانون الاول ديسمبر 97 شرفني مكتب "يونيسف" دمشق ممثلاً بمديرته الآنسة نهاد قنواتي وبتكليف من المدير الإقليمي السيد ابراهيما فال، سفير "يونيسف" الخاص لاتفاق حقوق الطفل في سورية. شاركت في ورشات عمل خاصة بحقوق الطفل في دمشق وعمان وبيروت والقاهرة والاسكندرية. بدأت أتلمس الطريق الذي أستطيع من خلاله أن أكون مفيداً للطفولة، حققت بالتعاون مع مكتب دمشق مسلسلاً تلفزيونياً بعنوان "حقوق الطفل" كان من جملة أسباب دعت "يونيسف" إلى تكليفي مهمة أوسع. في 10 أيار مايو 1999 شرفني المكتب الإقليمي ل"يونيسف" ممثلاً بالسيد ابراهيما فال وبتكليف من المديرة التنفيذية لمنظمة "يونيسف" السيدة كارول بيلامي بتسميتي سفير "يونيسف" لاتفاق حقوق الطفل في الشرق الأوسط وشمال افريقيا. أنا فخور... أنا خائف... قد لا أكون أهلاً للمهمة... لكن الفزع لن يمنعني من المحاولة بعناد... لا شك في ان المهمة متعبة، لكنه تعب من النوع اللذيذ.