طوال عقود كان هناك تماس وثيق بين روسيا والعالم العربي. وكان الحجاج الروس يتوجهون إلى فلسطين عبر آسيا الصغرى وسورية، واقيمت علاقات تجارية مع دولة الخلافة في بغداد التي قصدها تجار فلاديمير وسوزرال وروستوف وغيرها من الحواضر الروسية مارين عبر نهر الفولغا وبحر قزوين. وبعدما صارت روسيا دولة عظمى في القرن الثامن عشر بدأت تطور علاقاتها السياسية والاقتصادية مع بلدان المشرق والمغرب. وفي أواسط ذلك القرن اقيمت علاقات قنصلية مع الجزائر، ثم أقام قائد الاسطول الروسي في البحر المتوسط ارلوف ستشيسمينسكي صلات ديبلوماسية مع شيخ البلاد القاهرية علي بيه الأكبر. وحينذاك بدأ التعاون العسكري بين روسيا ومصر التي حصلت على مدافع ثقيلة قام على خدمتها ضباط روس باللعب دوراً حاسماً اثناء محاصرة المصريين ليافا. ومنذئذ بدأت تعقد الروابط التجارية الاقتصادية، وفي أواسط القرن 18 أخذت السفن الروسية تقوم برحلات بين الجزائر والاسكندرية. وبعد الحرب العالمية الثانية تطورت علاقاتنا مع العالم العربي على نطاق واسع، وساعد على ذلك ان الاتحاد السوفياتي أيد بنشاط كفاح العرب من أجل التحرر السياسي والاقتصادي. إلا ان الاتحاد السوفياتي اعتمد مقتربات متمايزة حيال دول المنطقة، وركز على التعاون مع الدول التي اعتبرها قريبة إليه ايديولوجياً. وإثر انتهاء الحرب الباردة، تخلت بلادنا عن الأدلجة السابقة للسياسة الخارجية وأخذت تتبع نهج تطوير العلاقات "على جميع المحاور" مع بلدان الشرقين الأوسط والأدنى انطلاقاً من الأهمية الجيوسياسية لهذه المنطقة، ومن الحرص على تدعيم روابط تجارية واقتصادية متبادلة المنفعة معها. وابان ذلك فنحن نسعى لصون ومضاعفة كل الجوانب الطيبة والنافعة التي تراكمت في الأعوام الماضية. والأولوية بين محاور السياسة الخارجية الروسية لبناء عالم متعدد الأقطاب ينبغي ان تلعب الدور المركزي فيه هيئة الأممالمتحدة ومجلس الأمن المنبثق عنها. ونحن نرى ان أحد الأقطاب يتمثل في البلدان العربية التي توجد في أراضيها الاحتياطات العالمية الأساسية من النفط والغاز والتي تملك قدرات اقتصادية مهمة وتشغل موقعاً جغرافياً مهماً عند ملتقى أوروبا بآسيا وافريقيا. ومما له دلالته أن من بين أولى الخطوات السياسية الخارجية لفلاديمير بوتين بعد توليه رئاسة الاتحاد الروسي أنه ارسل مبعوثيه الخاصين إلى سورية والأردنولبنان وبلدان شبه الجزيرة العربية. وفي الوقت ذاته قام وزير الخارجية ايغور ايفانوف بزيارة مصر، فيما زار ممثلون عنه سائر دول الشرق الأوسط وشمال افريقيا. وان هذا لدليل على تزايد اهتمام موسكو بالمنطقة وسعيها إلى مواصلة تطوير التعاون مع البلدان العربية. ومن أهم عناصر سياسة روسيا تسوية النزاعات القائمة وتفادي نشوب نزاعات جديدة في الشرق الأوسط المجاور للحدود الجنوبية لروسيا ورابطة الدول المستقلة. ومن دون مساهمة الاتحاد الروسي، وهو أحد راعيي عملية السلام والذي يلعب دوراً استقرارياً في المنطقة، من دون ذلك، يستبعد أن يعدو ممكناً إقامة سلام وطيد بين العرب وإسرائيل. وكما يتضح من تصريحات القادة العرب والإسرائيليين، فإن الجانبين يولان أهمية كبيرة لمساعي روسيا في حال صنع السلام ويرحبون بتزايد نشاطها في الأشهر الأخيرة. وقد أحدث إصدار دولية واسعة الاجتماع الذي عقدته في موسكو في شباط فبراير من العام الحالي لجنة التوجيه للمباحثات المتعددة الأطراف للشرق الأوسط. بديهي ان حل أزمة مزمنة كأزمة الشرق الأوسط ليس بالأمر اليسير. وعلى رغم ذلك، فإن السنوات التسع التي مضت على انطلاقة عملية السلام برهنت صحة التوجه نحو التسوية السياسية في إطار المبادئ المتفق عليها في مدريد وأساسها القراران 242 و338. وقد وقعت في تشرين الأول اكتوبر عام 1994 معاهدة السلام بين الأردن وإسرائيل. والحكم الذاتي الفلسطيني يشمل حالياً غزة وجزءاً كبيراً من الضفة الغربية، وتجرى مفاوضات في شأن الوضع النهائي. وحصل تقدم ملموس في مجال تنفيذ القرار 425 المتعلق بانسحاب إسرائيل من جنوب لبنان. وعلى رغم كل تعقيدات الوضع من حول الجولان، فإن الأمل لم يُفقد في استئناف المفاوضات السورية الإسرائيلية. ولكن عملية السلام لا تتطور في صورة سلسلة، وهي تجابه مصاعب مختلفة. وروسيا إذ تعمل مع الراعي الأميركي وسائر الأطراف المعنية، ستواصل سعيها لتحقيق تسوية شاملة على أساس حل وسط يراعي مصالح ومخاوف جميع الفرقاء. وتبذل روسيا جهوداً غير قليلة لتطبيع الوضع من حول العراق، والطريق إلى ذلك يمر عبر استئناف التعاون بين بغدادوالأممالمتحدة في مجال نزع السلاح وانجاز تصفية البرامج العسكرية العراقية الممنوعة واستناداً إلى هذا الأساس إلغاء العقوبات الاقتصادية. وثمة شرط لا بد منه وهو وقف الأميركيين والبريطانيين غاراتهم غير الشرعية التي تتم بالالتفاف على قرارات مجلس الأمن. وهذا هو السبيل الوحيد لإنهاء العذابات والويلات الإنسانية للشعب العراقي وعودة العراق إلى منظومة العلاقات الاقليمية والدولية بوصفه عضواً كامل الحقوق فيها. لقد لعبت الديبلوماسية الروسية دوراً ملحوظاً في اخراج "قضية لوكربي" من الطريق المسدود. وكانت لنا اتصالات مستمرة مع طرابلس وواشنطن ولندن وعدد من البلدان العربية والافريقية الساعية إلى المساعدة في المشكلة. وفي خاتمة المطاف تسنى الوصول إلى حل وسط ثبته مجلس الأمن في قرار بتعليق العقوبات ضد ليبيا. تواجه روسيا والبلدان العربية مشكلة التطرف المتستر بشعارات دينية، وان للطرفين مصلحة في تنسيق الجهود لمواجهة هذا الخطر. وتقدر موسكو ايجابياً موقف حكومات دول الشرق الأوسط والمغرب العربي حيال أحداث شمال القوقاز، إذ أن تلك الحكومات أعلنت مراراً أنها تعتبر ما يجري في الشيشان شأناً داخلياً للاتحاد الروسي، وأيدت وحدة أراضيه. ونحن نتفهم نداءات القادة العرب الداعية إلى تسوية سياسية للمشكلة ونبذل قصارى الجهود لبلوغ مثل هذا الحل. ونحن في روسيا نشعر بالامتنان للمساعدات الإنسانية المقدمة إلى النازحين في شمال القوقاز من قبل المملكة العربية السعودية ومصر والأردن ودولة الإمارات العربية المتحدة. ومن جديد، بدأت تتصاعد وتائر العلاقات التجارية والاقتصادية المستندة إلى تقاليد عريقة. فبمساعدة بلادنا شيد في المنطقة سدان عاليان على النيل والفرات ومجمعان للحديد والصلب في حلوان والحجار وآخر للألومنيوم في نجع حمادي وما إلى ذلك. ويستمر تنفيذ مشاريع اقتصادية في سورية وليبيا والجزائر ودول عربية أخرى. ويتزايد حجم التبادل التجاري مع الدول العربية بعد أن كان هبط بشكل ملحوظ بعد تفكيك الاتحاد السوفياتي. ففي سنة 1999 بلغ زهاء خمسة بلايين دولار مقارنة ب2.1 بليون عام 1996. ولكن لا تزال هناك احتياطات غير مستثمرة. فالدول العربية تنتج مواد استهلاكية وغذائية ومختلف أنواع الثروات الطبيعية التي تحتاجها روسيا. وفي المقابل، يمكن هذه الدول أن تصبح سوقاً ذات طاقة استيعابية عالية لمنتجات الصناعة الروسية. ويثير اهتماماً خاصاً التعاون في المجال الاستثماري، حيث تحققت خطوات واعدة. فشركة "سيروكو ايروسبيس انترناشونال" المصرية تمول انتاج طائرة "تو 204" ويعمل في روسيا عدد من المؤسسات بمساهمة شركات من لبنان ودول عربية أخرى. والجانب الروسي مهتم بجذب الرأسمال العربي على نطاق أوسع، وهو أمر تتهيأ له ظروف مؤاتية بخروج بلادنا من الأزمة الاقتصادية. ولنا صلات عسكرية - تكتيكية مع شركاء تقليديين وجدد، والسلاح الروسي المضاهي للمستويات العالمية أو حتى المتفوق عليها يتسم بالمتانة والبساطة في الاستعمال، وهو يحظى بسمعة رفيعة في العالم العربي. ولكن هناك جانباً آخر مهماً في علاقاتنا، إذ تربطنا آلاف الوشائج الروحية والثقافية. وقد كتب عن الشرق الأوسط ادباء مثل نيكولاي غوغول ونيكولاي غوميليوف وفسيفولود ايفانوف. واسهم بقسط مهم في الاستعراب العالمي اغناطيوس كراتشكوفسكي وخارلمبي بارانوف وغيرهما. وفي المقابل، فإن المصري الشيخ محمد الطنطاوي كان استاذاً في جامعة سانت بطرسبورغ وفي سنة 1840 صار عميداً لمعهد اللغات الشرقية التابع لوزارة الخارجية الروسية. وأشار ميخائيل نعيمة إلى أنه تأثر كثيراً بأعمال بوشكين وليزنتوف وتورغينف وغوغول وتولستوي. وأكد الناقد المصري المشهور محمود تيمور ان الأدب الروسي يحتل الصدارة بين ما قرأه. وطوال الخمسين عاماً الأخيرة عمل آلاف من الخبراء الروس على ضفاف النيل ودجلة والفرات وبردى وفي جبال أطلس ولبنان وبين رمال الصحراء في شبه الجزيرة العربية، فيما درس آلاف من الطلاب العرب في جامعات روسيا ومعاهدها. ويتقن آلاف من مواطني روسيا اللغة العربية ويدرسون تاريخ العالم العربي واقتصاده وحضارته، وفي العام الماضي أدى ستة آلاف مواطن روسي فريضة الحج في مكةالمكرمة. كل ذلك يخلق نسيجاً قد لا يكون مرئياً دائماً، لكنه قوي للعلاقات الروسية - العربية. وهذا النسيج، إلى جانب العوامل السياسية والاقتصادية والجغرافية، يجعل كل المبررات للتطلع إلى المستقبل ممكنة بتفاؤل. * نائب وزير الخارجية الروسي