في العهد السوفياتي كان قسم الشؤون الدولية في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي مطبخاً فعلياً لصنع القرار السياسي. وكان كارين بروتينتس نائباً لرئيس هذا القسم ومسؤولاً عن ملف الشرق الأوسط والبلدان النامية عموماً، ثم غدا مستشاراً للرئيس ميخائيل غورباتشوف وبتكليف منه قابل العديد من الرؤساء والساسة العرب. وتكشف مذكرات بروتينتس 74 سنة جوانب خفية من سياسة الكرملين حيال الشرق الأوسط وافغانستان وتسلط الاضواء على أوراق ظلت مطوية. "العالم العربي" مفهوم اختفى من مفرداتنا السياسية والصحافية في السنوات الاخيرة. ولعل من اسباب هذه الظاهرة "كره" قسم كبير من المثقفين في روسيا للعرب. فالصحافيون الروس "بزوا" زملاءهم الاميركيين وباتوا يسمون الاراضي العربية المحتلة "موضوع الخلاف" من دون اشارة الى الاحتلال. اما المعهد الذي تأسس اخيراً في موسكو لبحث الشؤون العربية والشرق أوسطية فيسمى رسمياً "معهد اسرائيل والشرق الأوسط". اسرائيل أولاً، ثم الشرق الأوسط. وقد يكون بين الاسباب ان فكرة الوحدة العربية انسحبت من الساحة لطوباويتها وتعذر تحقيقها، في المرحلة الراهنة على الأقل. الا ان المغالطة في المسميات لا تشطب بالطبع واقع العالم العربي الذي تمتد رقعته من المحيط الاطلسي الى المحيط الهندي بسلسلة متواصلة من 22 دولة كبيرة مثل مصر 65 مليوناً وصغيرة مثل قطر 300 الف. والى ذلك يعتز كل شعب في تلك الدول بتاريخه وأشكال حياته السياسية والثقافية وعاداته وطباعه ولهجاته، بل وحتى ملامحه الخارجية. عندما باشرت عملي في "الشؤون العربية" ادركت بعد حين ان العرب مختلفو المشارب والاذواق على رغم شعورهم المشترك بعروبتهم. ووجدت المصريين متفائلين ميالين الى الفكاهة والمرح والعراقيين متشائمين متشددين وعلى شيء من الغلظة، فيما يحسب الكويتيون للأمور الف حساب، ويتميز اللبنانيون والسوريون بالهمة والشطارة، فيما يبدي الليبيون والجزائريون أنفة واستقلالية تبلغ حد التعنت. ويذكر ان الموقع الجغرافي الممتاز والثروات الطبيعية التي كانت من نصيب الاقطار العربية تحولت في العصر الحديث لعنة اججت شهوات وأطماع جبابرة اوروبا والاستراتيجيين العسكريين فيها. وظل الشرق الأوسط عقدة للتناقضات الدولية حتى بعد الحرب العالمية الثانية. وأبدت الولاياتالمتحدة مطامعها في الهيمنة على المنطقة وعملت على ابعاد حلفائها الانكليز والفرنسيين. وفي النصف الثاني من الخمسينات دخل الاتحاد السوفياتي "اللعبة" طرفاً من اطرافها. وفي نهاية العقد المذكور بات الشرق الأوسط ساحة للمواجهة بين الدولتين العظميين والمعسكرين العالميين، ما ادى الى عسكرته وتراكم الاسلحة، حتى احدثها، فيه وغرس وأجج التنافس بين دول المنطقة وأعاق تطورها. وعلى رغم ان هذه المواجهة الثنائية المتميزة تمكنت اساساً من تطويق التوتر وحصره في اطر معينة الا ان الشرق الأوسط هو من مناطق العالم الاكثر تضرراً من المجابهة "الموضعية" بين الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفياتي بصفتها احد اشكال المواجهة العالمية الشاملة. تعود المرتبة البارزة التي شغلها العالم العربي والشرق الأوسط في السياسة الخارجية السوفياتية الى قرب المنطقة من حدود الاتحاد السوفياتي، ما جعل مصالح امنه تحتل جانباً من الاصطفاف الدولي في "الحجاب الحاجز" أمام الساحة السوفياتية بمفهوم العام 1941. وتلك مسألة في غاية الحساسية بالنسبة الى بلد زعماؤه من جيل الحرب العالمية الثانية الذين عاهدوا انفسهم على عدم تكرار انجرار الاتحاد السوفياتي الى حرب كونية كما حدث في العام المذكور. كما تعود تلك المرتبة الى دور الشرق الأوسط في المواجهة بين الاتحاد السوفياتي والولاياتالمتحدة وأهميته المواردية والمواصلاتية والاستراتيجية بالنسبة الى الغرب. والى ذلك فان المنطقة العربية والشرق اوسطية ظلت طوال فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية تستعر مكونة بؤرة للتوتر الخطير والنزاعات المسلحة التي تتأجج من حين لآخر. ثم ان للاتحاد السوفياتي اصدقاء كثيرين هناك. وعلى مدار سنين طويلة كان النزاع في المنطقة يسمى بالشرق اوسطي على رغم ان الباحثين الاميركيين يفضلون تسميته بالعربي الاسرائيلي. والآن اخذ الباحثون في روسيا ايضاً يستخدمون التسمية الاخيرة حتى عندما يتناولون احداث الماضي البعيد. واعتقد ان التسميتين بعيدتان عن الدقة وان الأولى اقرب اليها. بديهي ان العداء بين العرب والاسرائيليين هو نواة التوتر والنزاع. الا ان ثمة عناصر اخرى لعبت دوراً متبايناً في مختلف المراحل وحالت دون اطفاء اللهيب. ومن تلك العناصر الصراع بين الاقطار العربية والدول الاستعمارية السابقة وكذلك الولاياتالمتحدة التي حاولت ان تحل محلها. ومنها ايضاً المجابهة بين الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفياتي التي شوهت مسار الاحداث الطبيعي في المنطقة. والى ذلك هناك المواجهة بين الدول العربية نفسها، وبخاصة النفطية وغير النفطية، وهي مواجهة توافقت، ليس بالصدفة طبعاً، مع تصنيفها الى انظمة معتدلة ومتطرفة. وبالمناسبة كانت نجاحات السياسة السوفياتية واخفاقاتها تتوقف على تلك العناصر. فليس من قبيل المصادفة ان "يقتحم" الاتحاد السوفياتي ابواب العالم العربي اثناء الادعاءات "المزدوجة" التي طالبت بها بريطانيا وفرنسا في اعقاب العدوان الثلاثي على مصر العام 1956. وليس من قبيل المصادفة ان يتضاءل نفوذ الاتحاد السوفياتي تدريجياً بانتقال انور السادات الى جادة التسوية السياسية برعاية واشنطن. ولا يصح الكلام عن استراتيجية سوفياتية واضحة الابعاد تجاه الشرق الأوسط، الا ان بعض الاهداف كانت ماثلة من دون ريب. فالاتحاد السوفياتي الذي دخل المنطقة في عهد نيكيتا خروشوف كان يريد تثبيت اقدامه وتسجيل المزيد من النقاط في المواجهة العالمية مع الاميركيين. وكان التنافس معهم عصب سياستنا في الشرق الأوسط. وفي اواسط السبعينات اضيفت الى الاعتبارات الأمنية التقليدية اعتبارات عسكرية اوسع وذات طابع عالمي شمولي. في البداية نجحنا في مقاومة الاحلاف والقواعد العسكرية الغربية في الحزام الامني الجنوبي. ثم تمكن الاتحاد السوفياتي من توسيع الوجود العسكري في المنطقة. فالقوات البحرية السوفياتية التي واصلت انتشارها في اطار التكافؤ الاستراتيجي مع الولاياتالمتحدة كانت بحاجة الى مراكز اسناد في البحر الأبيض المتوسط لمواجهة الاسطول السادس الاميركي. واستفدنا في الواقع من كافة اطراف العالم العربي: الجزائر وطرابلس واللاذقية وعدن وتونس والاسكندرية حتى العام 1974. وبفضل وجود خبرائنا ومستشارينا العسكريين في الشرق الأوسط وفرت الحرب العربية - الاسرائيلية العام 1967 ثم حرب 1973 حافزاً لتطوير القدرات العسكرية السوفياتية. واتسع التعاون العسكري بشكل ملحوظ في السبعينات، وخصوصاً بعد عزلة مصر وتعزز الروابط الحربية بين اسرائيل والولاياتالمتحدة. واتسعت شحنات السلاح السوفياتي التي اعتبرناها في البداية مجرد مساعدة للعرب، لكننا اكتشفنا، ربما بشيء من المباغتة، ان ذلك تجارة رابحة ايضاً. ولنأخذ ليبيا على سبيل المثال، فبموجب اتفاقية التعاون العسكري والفني للعام 1970 سددت ليبيا لنا، اتعاب تشييد مواقع عسكرية ومشاريع مدنية حتى العام 1992 مبلغ 18 بليون دولار بالعملة الصعبة والنفط. الا ان وراء هذا الرقم الذي اثلج قلوب مسؤولينا الماليين ما وراءه. فهو ينطوي على "شحنة" فظيعة تتجسد في كون الاسلحة والمواقع الحربية التي يمولها تتجاوز بكثير اطار الحاجات الفعلية للجماهيرية. وكما هو حال بعض الزعماء العرب ينطلق العقيد معمر القذافي من القدرات الحربية لاسرائيل. فكان لا يشبع من السلاح، وأحياناً توجه الينا بطلبات مدهشة. فقد افاد رئيس احد الاحزاب الشيوعية العربية ان الزعيم الليبي يرغب في الحصول على شبكة وطائرات التزود بالوقود جواً. ورداً على سؤالي: "ما حاجته اليها؟ هل يريد ضرب الولاياتالمتحدة؟" قيل لي: "القذافي يعتقد ان ليبيا يجب ان تمتلك نفس السلاح المتوافر لدى اسرائيل". بديهي اننا لم نلب هذا الطلب، شأن طلبات مماثلة اخرى. لكن الاتحاد السوفياتي، مع الأسف، ارسل اسلحة كثيرة جداً الى ليبيا، وليس اليها وحدها. وكان من اهداف السياسة السوفياتية - ووسائلها - تأييد استقلال الاقطار العربية، حتى تحول توافق المصالح السوفياتية والعربية في هذه المسألة ورقة رابحة جداً في ايدينا. وظلت الاعتبارات العقائدية، بقدر ما، من الثوابت في سياستنا، فكنا نعطي الأولوية للاقطار المتمسكة بالنهج التقدمي، ولو بالاقوال فقط. وكانت للشرق الأوسط اهمية اقتصادية معينة بالنسبة الينا. ففي السبعينات بالذات غدت الاقطار العربية الزبون الأول للاتحاد السوفياتي في العالم الثالث وأهم سوق لصادراتنا الصناعية، فبلغت حصتها في الفترة 1970 - 1990 ثلث تداولنا التجاري معه. ثم ان موسكو كانت تتجاوب مع احداث العالم العربي بشعور من التعاطف الودي هو انعكاس للرومانسية السياسية. فمن خلال العالم العربي بدأ الاتحاد السوفياتي مسيرته الى العالم الثالث. الا ان عيوب سياستنا تجاه العالم الثالث تجلت اول ما تجلت في الشرق الأوسط. فهنا بالغنا في تقويم القدرات البناءة للقوميين الذين تسلموا زمام الحكم، وأخطأنا في تقدير تأثيرنا السياسي والعقائدي عليهم. وأغشت ابصارنا "ميولهم" الاشتراكية العابرة فلم نفهم طبيعتها. ففي المجمع الصناعي في المحلة الكبرى، ثم حوض بناء السفن في الاسكندرية قال بونوماريوف، مثلاً، اشياء من قبيل: "لينين زعيمنا وزعيمكم، ومؤلفاته موسوعة بناء الحياة الجديدة. وحوض الاسكندرية اول حوض اشتراكي لبناء السفن في البحر الأبيض المتوسط". وترسبت الاخطاء ونقاط الضعف "الاقليمية" على نواقص سياستنا في الاقطار النامية. وفي مقدمة تلك الاخطاء والنقاط العجز عن تحقيق طموحات الدول العربية في النزاع ضد اسرائيل وقلة فاعلية حلفائنا العرب عسكرياً وضعفهم داخلياً. ثانياً - انعزالنا عن اسرائيل التي هي احد الاطراف الفاعلة على مسرح الشرق الأوسط، ما امن للولايات المتحدة احتكار العلاقات مع تل أبيب وحرمنا من بسط النفوذ السوفياتي على مجمل "فضاء النزاع". وكان تغيير هذا الوضع صعباً بسبب تحيزنا ضد اسرائيل واحترامنا لموقف العرب، بل وبحكم منطق الحرب الباردة الذي ربط تل أبيب بتحالف وثيق مع واشنطن. وعلى رغم ذلك كان في الحكومة الاسرائيلية من يفضل الاتصالات مع الاتحاد السوفياتي ليكسب حرية المناورة. ثالثاً - كان في سياستنا ميل، لعلي أقول انه طبيعي، نحو العرب ناجم عن الظروف المذكورة اعلاه وعن كون العرب، الى ذلك، هم الطرف "المتضرر" و"المغبون" باحتلال اسرائيل لأراضيه. رابعاً - كان الاتحاد السوفياتي يتعاون مع جزء من العالم العربي فقط، بينما ظلت دول الخليج النفطية بعيدة عن سياستنا. وما كان بالامكان تغيير شيء من هذا الاصطفاف ابان الحرب الباردة، ذلك ان هذه الدول كانت في الواقع جزءاً من النظام المالي والاقتصادي والطاقي الغربي. خامساً - ضرورة الالتفات الى مواقف اصدقائنا العرب، وهي متطرفة احياناً، لكنني استدرك فأقول ان ذلك لم يترك اثراً في اساليب سياستنا المبدئية. وأخيراً، ربما لم نكن نولي قدراً كاملاً من الاهتمام بميول العرب الى التوازن بين الاتحاد السوفياتي والولاياتالمتحدة. ومن جهة اخرى كانت السياسة الاميركية تعاني من اخطاء ليست اقل خطورة. فهي اخطأت في تقويم تأثير الفكرة القومية الوطنية العربية، وخلطت بين الحركة الوطنية والغزو الشيوعي. وكان ذلك حاضراً في جميع اخطاء الاميركيين الكبرى. وفي الحقيقة كان الاتحاد السوفياتي مديناً للولايات المتحدة بقدر غير ضئيل في نجاحاته في المنطقة. فان موقفها العدائي دفع جمال عبدالناصر والقوميين العرب الآخرين الى احضان السوفيات. الا ان السبعينات غدت بالنسبة الى الولاياتالمتحدة، وبالنسبة الينا في اعتقادي، بداية الموقف الواقعي. فقد اخذ الاميركيون يتعلمون الفرق بين الشيوعية والقومية التي باتت اكثر تسامحاً وأقل شراسة. ولا استبعد احتمالاً، قد يبدو ضعيفاً، وهو ان بعض زعمائنا في الستينات ربما كانوا يتصورون ان الاتحاد السوفياتي قادر على زحزحة الولاياتالمتحدة من الشرق الأوسط. وقد يكون ذلك مرتبطاً بعهد جمال عبدالناصر. فهذا الزعيم العربي البعيد عن الافكار الشيوعية والرافض لها وضع ثقته بالسوفيات ولم يشكك في تأييدهم لنضال العرب. كان عبدالناصر علق آماله على موسكو في مواجهة الدول الغربية والولاياتالمتحدة التي مارست ضغوطاً فظة عليه، فصار بمثابة جسر عبره القوميون العرب صوب التقارب مع الاتحاد السوفياتي. عبدالناصر بالذات "استصحب" الينا ياسر عرفات وقدم الى القادة السوفيات زعيم الجزائر الحرة احمد بن بلة ومعمر القذافي ورفاقه الذين اطاحوا بالنظام الملكي. وكان رحيل عبدالناصر افدح خسارة تصيب السياسة السوفياتية. فليس مجيء السادات واتفاقية كامب ديفيد، بل وفاة عبدالناصر غدت انعطافاً حفز العمليات التي جمدت نفوذنا في العالم العربي وأدت الى الخسارة في ما بعد. آنذاك لم تفهم موسكو هذه الحقيقة. ولعل فهمها كان صعباً. فالسادات الماكر تمكن ان "يلعب" بنيكولاي بودغورني رئيس مجلس السوفياتي الاعلى الذي توجه الى مصر بعد وفاة عبدالناصر وعاد الينا باستنتاجات مسكنة ومهدئة وكان وقع في القاهرة معاهدة الصداقة والتعاون بين الاتحاد السوفياتي ومصر. ثم ان دوائرنا الامنية توصلت الى استنتاج خاطئ مفاده ان السادات الذي كان في الظل في عهد عبدالناصر شخصية وقتية، ويمكن التحكم فيه على أية حال. وبالمناسبة كنا تلقينا "دوشا بارداً" للمرة الأولى قبيل رحيل عبدالناصر. وأعني الهجوم الاسرائيلي في العام 1967 وتألم موسكو لهزيمة اصدقائنا المصريين. ولكن الهزيمة جرى "التعويض" عنها بالاحداث التي جرت في ليبيا والعراق والسودان حيث تولى السلطة قوميون عرب، وتصاعدت مشاعر العداء للغرب. وفي ما بعد تلقينا ضربة جديدة بقرار السادات طرد المستشارين العسكريين السوفيات والغاء معاهدة الصداقة والتعاون. وكان هذا في الواقع تمجيداً لاتفاقية كامب ديفيد التي استهدفت قلب الجبهة العربية وغدت انجازاً كبيراً للولايات المتحدة وهزيمة لمشروع التسوية العربي - السوفياتي وخطوة لازاحة الاتحاد السوفياتي من المنطقة. وبفعل تلك الاحداث افقنا الى صوابنا مرتين الأولى بعد حرب حزيران التي دفعتنا الى تصحيح تقويمنا لقدرة العرب على المجابهة مع اسرائيل، والثانية بقرار السادات الذي دفعنا الى ان نحكم في شكل اكثر عقلانية على موقف العرب. وأعتقد ان النفوذ السوفياتي بلغ ذروته في السبعينات. وبعد تلك الفترة اخذ بالانحسار خصوصاً حين اضطر الاتحاد السوفياتي ان يقلل نشاطه الاقتصادي بسبب محدودية الموارد التي جعلته يحجم عن تقديم "هدايا" ضخمة الى العرب مثل السد العالي وسد الفرات. ثم ان المنافع السياسية كانت متواضعة للغاية نتيجة للتناقض الذي ظهر في السبعينات بين مستوى العلاقات السياسية وأبعاد الروابط الاقتصادية. والى ذلك لاحت نهاية امكانات الاتحاد السوفياتي في حل مشكلة العالم العربي الأولى - النزاع مع اسرائيل، الأمر الذي قلل من مردود العلاقات السياسية والعسكرية العربية مع السوفيات. ومما لا جدال فيه ان السياسة السوفياتية ازاء النزاع العربي - الاسرائيلي كانت حتى قبل ميخائيل غورباتشوف تنطلق من قراري مجلس الأمن الدولي 242 و338. وحضرت العديد من لقاءات زعمائنا، ومنهم ليونيد بريجنيف، مع السياسيين العرب. وفي كل الاحوال لم نكن نشجع العرب على الحل العسكري، وانما كنا نستحثهم على الحل السياسي، بل وندفعهم باصرار الى الرضوخ لواقع الوجود الاسرائيلي. الا ان العرب اعتبروا موقفنا خنوعاً يستهدف تهدئة الاعصاب. وفي النصف الثاني من السبعينات افلحنا في اقناعهم بقبول حتمية وجود اسرائيل، ما لعب، في اعتقادي، دوراً في انتقال العرب تدريجياً الى مواقف اكثر واقعية على رغم صعوبة هذه المهمة. فقد كنت اصرف الساعات الطوال في الجدال مع المسؤولين العرب، وخصوصاً من جبهة التحرير الوطني الجزائرية، لجعل هذا البيان المشترك او ذاك يعكس الموقف الذي ننادي به تجاه اسرائيل. لكنني لا اريد هنا ان اخلق انطباعاً وكأن الاتحاد السوفياتي كان يتبنى نهجاً سلمياً لا ريب فيه. فان سياستنا كانت تعاني من تناقض داخلي واضح. كنا نفهم جميعاً مخاطر المواجهة في المنطقة، لكننا كنا متخوفين من ان يؤدي الركض وراء التسوية السلمية، في ظل الدور القيادي الاميركي، الى تعزز الدول العربية "الموالية للغرب" على حساب الانظمة الصديقة لنا، فيما تضعف مواقع الاتحاد السوفياتي اذا لم يعد العرب بحاجة الينا كسند في مواجهة اسرائيل. وبالنتيجة باتت سياستنا هي تأييد التسوية السلمية على صعيد التصريحات وتعزيز القدرات العسكرية لبعض الاقطار العربية على صعيد الفعل. ولم تكن موسكو راغبة في تصعيد النزاع بأي حال، الا ان للاتحاد السوفياتي مصلحة في بقاء التوتر الموجه والقابل للتحكم الى ان تحصل تسوية ترضينا وترضي اصدقاءنا العرب. والى ذلك فان كل جولة جديدة من التوتر ترافقها طلبات جديدة لشراء السلاح، مما تحول مع مر الأيام الى مغامرة اغلى وأخطر. ولكنني اجزم اننا قدمنا السلاح الى العرب لا لابادة اسرائيل، بل لتعزيز مواقعهم السياسية. ومن ناحية اخرى كانت الاستراتيجية الاميركية تهدف الى "تعليق" النزاع من دون تأجيجه، وكان ابقاء الاوضاع على حالها يروق للاميركيين اكثر منا. الا ان تلك مهمة صعبة في ظل الضغوط الصهيونية والاسرائيلية على السياسيين الاميركيين. الى ذلك كان الكثيرون في الخارجية الاميركية، وليس فيها وحدها، يعارضون التمادي في تعقيد العلاقات مع العرب. وكان لهذا الاتجاه دوره في ظهور البيان الاميركي - السوفياتي المشترك في تشرين الأول اكتوبر 1977 في شأن التحرك السلمي. وعلى رغم مراكز الضغط واللوبي الصهيوني فأنا واثق ان القيادة الاميركية لو رأت ان مصالحها تتطلب تسوية النزاع لاستطاعت ان "ترغم" اسرائيل قبل ذلك.