أصدقاء الكاتب السوري الراحل سعدالله ونوس التقوا قبل أيام في قريته حصين البحر ليشاركوا في سنويته الثالثة، وهي صارت تقليداً ثقافياً تتعهده زوجته الفنانة فايزة شاويش. القرية ومدرستها وملعب المدرسة المتقشف، حيث الأهل والضيوف يشهدون عناصر الاحتفال غناءً ومقاطع مسرحية وكلمات قليلة: إطلالة نضال الأشقر في مقدم الحضور، ومراد منير يستعيد مقدمة عرض أخرجه في القاهرة لإحدى مسرحيات ونوس ذاكراً أسماء أعلام المسرح العربي ابتداء من المؤسسين الثلاثة مارون النقاش وأبو خليل القباني ويعقوب صنوع. نتذكر أن الجمهور المشرقي لم يشهد الى اليوم أياً من عروض ونوس "الممصّرة" التي أخرجها مراد منير، في تجربة نادرة لتبادل ثقافي عربي - عربي نتحدث عنه كثيراً وننجز منه القليل أو لا ننجز. مناسبة لمعانقة الفن والفرح، بعدما التصقت الفنون الجادة عندنا طويلاً بالأحزان حتى انفضّ الناس عنها الى خفة المنوعات التلفزيونية وغناء المطاعم كيفما اتفق. وهي أيضاً مناسبة لتكريس نشاط ثقافي في الأرياف يوسع من المساحة الطبيعية والبشرية للمهرجان الثقافي في أنواعه المختلفة، خصوصاً أن الحركة الثقافية في العاصمة، أي عاصمة، اتصلت بقصد أو من دون قصد بالحركة السياسية ذات السمة المركزية في معظم البلاد العربية. الحركة الثقافية يمكن أن تتوزع في أمكنة متباعدة من دون أن تفقد عنصر الاحتكاك والحوار، يساعدها في ذلك تقدم تكنولوجيا الاتصال. ويبدو أن المركزية الصارمة التي طبعت الحركات السياسية والثقافية طوال القرن العشرين بدأت تضعف وتتفكك نحو لامركزية سبق لتلك الحركات أن شهدتها في الماضي. فسورية الحالية مثلاً، كان نشاطها الثقافي موزعاً على دمشق وحلب واللاذقية وغيرها من المدن، ولا يمكن لأي متابع للثقافة الكلاسيكية أن ينسى معرة النعمان، المدينة الصغيرة التي كبرت في لوحة الفكر العربي والإنساني من خلال أبي العلاء المعري رهين المحبسين فيها. وفي أي حال تبادر الدول العربية اليوم الى مشاريع لتوزيع النشاط الثقافي على رقعة البلاد كلها، ضمن مخطط الحد من احتشاد السكان في العواصم عبر اللامركزية في مختلف الشؤون، لكن صورة الثقافة لا تزال براقة في العواصم فيما هي بعيدة المتناول وباهتة الصورة في أطراف البلاد. سيوصلنا تقدم تكنولوجيا الاتصال حتماً الى توزيع النشاط الثقافي على المناطق، وهذا التوزيع سيعود بالفائدة كماً ونوعاً على النتاج الثقافي ويعطيه بعداً إنسانياً لم يحققه الى الآن، هذا البعد يتحقق، مثلاً، في بريطانيا، حيث تتوزع المهرجانات الثقافية أكثر فأكثر على القرى، وتقام في مناطق ريفية جمعيات لصنوف الإبداع شعراً وقصة وموسيقى. وتعتبر بلدة شكسبير ستراتفورد اون ايفون نموذجاً مبكراً في هذا المجال، كما اشتهرت أخيراً بلدة ويل في سمرست بمهرجاناتها الموسمية. وتوزع النشاط الثقافي يؤدي الى أشكال جديدة لاجتماع المثقفين، فتقوم في بلدات بريطانية عدة مدارس لتعليم كتابة الرواية وكتابة التاريخ الشخصي والاجتماعي. ولعل سنوية سعدالله ونوس تفتح مجال الابتكار في توزيع النشاط الثقافي. فبلادنا واسعة تستحق أن يسكنها أهلها ويستمتعوا في سكناهم بالعطاء والحضور، لا أن تكون أرياف البلاد منافي وأماكن للبطالة الحقيقية أو المقنّعة.