وحّدت نشاطات الموت المثقفين في الفترة الأخيرة، أكثر مما وحدتهم نشاطات الحياة الثقافية. ولعلّ تقليداً جديداً بدأ يدق أوتاده في تُربة الشارع الحيادي، وهو تقليد تأبين المثقفين لبعضهم بعضاً، الأحياء منهم للأموات. وقد يكون تواتر ثلاث مناسبات وداع، لثلاثة مثقفين هو الذي طبع الفترة الأخيرة بزخم احتفالي ذي مضمون عميق ودالّ. الحدث الأول، كان رحيل الدكتور جمال الأتاسي، وتأبينه في "صالة سينما الشام" بحضور مثقفين من مختلف الأنواع والمشارب، من اليمين واليسار والمستقلين، ظهروا على المقاعد ذلك المساء وتلفّتوا ليروا: من تبقّى! وجمال الأتاسي كما هو معلوم، هو الأمين العام للتجمع الوطني الديموقراطي، والأمين العام لحزب الاتحاد الاشتراكي العربي الديموقراطي. وقد أضيفت كلمة "الديموقراطي" الأخيرة للتسمية قبل اسبوع من رحيله. كان للأتاسي في أوائل الستينات دور بارز في محاولة تطوير الفكر القومي في الوطن العربي، بالاشتراك مع المفكرين الراحلين ياسين الحافظ والياس مرقص. العلاقة التي ولّدت تقارباً حميماً بين الفكرين الماركسي والقومي. وهو ممّن عملوا في السبعينات على ادخال مفهوم الديموقراطية ضمن الفكر القومي واليساري عموماً، بالتعاون مع صديقيه الراحلين الحافظ ومرقص والراحل عبدالكريم زهور. ثم عمل في الترجمة الثقافية والفكرية عن الفرنسية، وفي الصحافة حيث أصدر جريدة "الجماهير" أيام الوحدة. وكان رجل مبادئ وقيم وأخلاق، الأمر الذي يُحسب له في سلوكه. اجتمعت لتأبينه شخصيات ثقافية وحزبية من مصر ولبنان وفلسطين والأردن وسورية وأُلقيت كلمات تؤكد مكانة المشروع الذي جمع هؤلاء البشر. وفي حين التقى في تأبين الأتاسي سينمائيون وأدباء وفنانون وكتّاب ومفكّرون، إلا أن الملاحظ كان الغياب الشبابي، مما يؤشّر على بعد النظرية عن الواقع المُعاصر، وعن دينامية الشارع الغائبة عن مثل هذه المناسبات. الحدث الثاني، كان رحيل الباحث والمفكر السوري بوعلي ياسين، الذي جمع في تأبينه الذي أقيم في مكتبة الأسد بدمشق، المثقفين أنفسهم الذين كانوا في تأبين الأتاسي، إضافة الى وجوه جديدة ذات صلة أكثر بعالم الأدب. وبوعلي ياسين، فضّل العزلة، ونستطيع القول: الفقر أيضاً في حياته. واستمرّ في عمله ضمن الامكانات المتاحة له كمفكّر وباحث ومترجم عن الألمانية حيث نال ماجستير علوم اقتصادية في ألمانيا الغربية سابقاً. وتميّز بنظافته الانسانية وبعده عن البحث وراء الأضواء السائدة والمواقع. وانتحى لنفسه مشروعاً ثقافياً فكرياً في البحث الاقتصادي والسوسيو - تاريخي. وأصدر 27 مؤلّفاً بين ترجمة وتأليف، أشهرها "الثالوث المحرّم" الذي أُعيد طبعه تسع مرات. و"خير الزاد من حكايا شهرزاد" و"أزمة المرأة في المجتمع الذكوري" و"العرب في مرآة التاريخ". وكان داعية ديموقراطياً في سيرته الفكرية والانسانية. الحدث الثالث: هو الذكرى السنوية الثالثة لرحيل الكاتب المسرحي سعدالله ونّوس، التي أُقيمت في قرية حصين البحر الساحلية، مسقط رأسه، وربما كان هذا النشاط من النشاطات الفريدة في سورية التي تنتقل فيها الثقافة من المدينة الى الريف. وكرّس المغنّي المصري محمد منير هذا العام، تواصلاً إنسانياً حارّاً، عبر أغانيه التُراثية والشعبية التي أحيا بها ذكرى صديقه الراحل. ولعل التوجه الى تحويل اليوم الى احتفالية وليس الى ذكرى أحزان، هو أحد أهم ركائزه. فالحضور الشبابي لسنوية ونّوس بات لافتاً، فهل يكون في هذا صدى لإهدائه أعماله الكاملة لابنته وأبناء جيلها ومن بعدهم! كما أن الحضور الثقافي الدائم لشخصيات لبنانية وسورية، ولأهل القرية أنفسهم الذين كجمهور متدرّب تطوّروا في نوع إصغائهم ودخولهم طقس الفُرجة، أمرٌ لافتٌ آخر. تأتي أهمية ونّوس من أمرين. الأول، هو مشروع الثقافة الديموقراطية الذي عمل عليه في نهاية الثمانينات مع فيصل درّاج وعبدالرحمن منيف في سورية، بإصدار ستة كتب تحت عنوان "قضايا وشهادات". وهدف الثلاثة من هذا المشروع كان الدفاع عن العقل وحلم المجتمع المدني والفكر التاريخي والاستقلال والتقدّم، وإحياء محاولات التنوير العربي، وربطها في سياق مُتلاحم وفاعل كما جاء في تقديم "ونّوس" للعدد الأول. إلا أن هذا المشروع بقي نخبوياً وتوقّف مع مرض ونّوس ووفاته. أما الأهمية الثانية التي يحتلها ونّوس، فتتعلق بالكاتب المسرحي الذي كانه طوال حياته والتي أنتج خلالها أكثر من 12 عملاً مسرحياً لافتاً، كان أهم هذه الأعمال ما كتب في فترة المرض: "طقوس الاشارات والتحولات"، "منمنمات تاريخية"، "الأيام المخمورة"، "ملحمة السراب" وغيرها. وامتازت هذه الأعمال الأخيرة بنضج انساني وفكري، وبجرأة على المقاربة الذاتية للذات الجماعية. الحكواتي - الراوي، المرأة - الرجل، التاريخ، الدين، كلها اتخذت علامات أكثر جرأة وعمقاً في الطرح، عمقاً يصل الذاكرة البعيدة بالذاكرة القريبة، ولا يُهادن السلطة كيفما تجلّت. وقد أوصل هذا الدأب والتطوّر ونّوس، ليتمّ اختياره لكتابة والقاء كلمة المسرح في يوم المسرح العالمي عام 1996. وتجلى تعبيره الديموقراطي يومها بقوله: "الجوع الى الحوار". والأحداث الثلاثة الثقافية، هي من المرات النادرة التي يُقام فيها تأبين رسمي أو علني لشخصيات قضت معارضة أو مستقلة كما عاشت، مما يعطي الإحساس، بل قد يكون مؤشراً الى نوافذ ما تنفتح على ذلك الشارع الحيادي، لكي يستعيد ألوانه واحتمالاته ربما!! وربما ديناميته!