نشرت الصحف قبل اسبوع خبراً يفيد ان "ريمبو يستولي على مقر شاعر فرنسي في اليمن". وهناك اسمان متقاربان: رامبو Rimbaud، الشاعر الفرنسي الكبير الذي كان له في عدن مقر تجاري ومنزل، وريمبو Rimbo، لقب الممثل الاميركي سيلفستر ستالون الذي استعير اسمه لفندق في عدن اقيم في منزل الشاعر Arthur Rimbaud آرثر رامبو، الذي يعد واحداً من اعظم شعراء البشرية، وقد عاش في عدن بعد هجره لفرنسا والحياة الشعرية والادبية هناك ليعمل تاجراً بين عدن والحبشة في الفترة الواقعة بين 1880 - 1891 م. لكن الخبر بحدِّ ذاته لا يمكن ان يمرّ على القارئ العربي والفرنسي وحتى العالمي من دون ان يثير الكثير من التساؤلات، وانا إذ ابادر بتناول هذا الامر في الصحافة العربية احسب ان صدى وردوداً اخرى ستظهر في فرنسا وسواها. ذلك ان "بيت رامبو" هذا له قصة طويلة بدأت قبل عشرين عاماً منذ زيارتي الاولى لعدن عام 1980 واستمرت حتى اليوم. وقد كنت، ازور عدن لا كشاعر عربي وحسب إنما كمستشار ثقافي لسفارة اليمن الجنوبي في باريس، ولاني كنت ولا أزال مسكوناً بطيف هذا الشاعر الكبير ولأن ذكراه في عدن، عاصمة البلد الذي كنت امثله ثقافياً في باريس، هي من صلب عملي، فقد صار البحث عن بيت هذا الشاعر وذكراه في عدن من الاولويات التي استحوذت على اهتمامي وعدد من المسؤولين في وزارتي الخارجية اليمنية والفرنسية إضافة الى الشعراء والادباء الفرنسيين المحبين والقريبين من روح هذا الشاعر. وقد نشرت حينها "رسالة الى رامبو" قرأتها في ما بعد في الافتتاح الرسمي لمنزل رامبو بحضور وزيري الخارجية والثقافية الفرنسية رولان ديما R.Dumas وجاك لانغ J.Lang في الذكرى المئوية لرحيل رامبو في 9 تشرين الثاني نوفمبر 1991. وبما جاء في الرسالة: "منذ ان وطأت قدماي ارض عدن وانا ابحث في شواطئها الساخنة وتحت فوهة بركانها البارد عن بقايا "نعال" ريح مرّ بها منذ قرن ... أحياناً اسأل عظام الصواري في مقبرة السفن او الشرفات الخشبية المتجعدة كالوجوه في ازقة عدن القديمة. امضي والليل الى الشيخ عثمان فلا اجد "جبال الملح" التي كنت محتاراً في امر تصريفها بل ارى كثبان السمك الميت والعلب الفارغة ... ولكنني لم اجد اثراً لك. بعد سنوات عدة ومعي غيّوفك وسعدي يوسف وادونيس نبحث عنك بين تماثيل الاصداء التي يمتلئ بها الليل في حي "التواهي". كان غيّوفك يريد ان يضع اصابعه على جدار او خشب التقى بك يوماً في هذا المكان. وكان سعدي يوسف يصرخ "كيف لا يحمل جدار بيتك اليوم الا مخالب الشمس؟" في حين يهمس ادونيس: عاش رامبو في عدن، اجل اخبرني النفري. كانت جبال عدن وحدها تعرف كل شيء ولا تقول شيئاً. لا عدن - المعسكر ولا فندق العالم ولا "بيت باردي" تقترح شيئاً لحيرتنا ولا تفصح حتى اقدم نافذة هنا عن سر موعدنا معك. وعدن: "الصخرة البشعة"، صهاريج من النسيان في جبال الليل، صباحات شاحبة تمسح الغبار عن ازهار الدفلى، شجيرات الزمن القرمزي التي تنتشر فوق بشرتها كالبثور القديمة. عدن، ربما كانت الجحيم لك يوماً ولكنها لم تكن المقبرة... عدن التي اردت ان تعود اليها وانت على سرير الموت في مرسيليا: "متى سأنقل على متن السفينة؟ إلا انك ابحرت قبل السفينة: على مركبة الطوفان، فكنت "حمامة جلجامش" التي لم تعد قط، لانها ادركت اليابسة. اعرف ان هذا يزعجك، فقد هجرت البيوت الى الموانئ وعبرت من الخطى الى الرياح ومن النار الى النور. لكننا اليوم نقف جنب جدارك القديم لنبني بيتاً لنا فيك... يا رامبو... ولكن كم كنت اعرف انك تكوه البيوت!!!". ومرّت السنوات ونحن في بحث دائب وزيارات ووفود ولقاءات شعرية بين باريسوعدن شارك فيها الشاعر الفرنسي الكبير الراحل يوجين غيّوفك، E.Guillevic عميد أكاديمية مالارمية والشعراء برنار نويل Bernard Noel وآلان جوفروا Alain Jouffroy وميشيل بلتو Michel Bulteau ومن الشعراء العرب أدونيس وسعدي يوسف من دون أن نصل الى نتيجة تذكر. وعندما اقترب موعد الذكرى المئوية الأولى لرحيل آرثر رامبو Arthur Rimbaud في عام 1991 قمتُ بتنظيم ندوة شعرية - تاريخية كبيرة في عدن بالتعاون مع "معهد العالم العربي" وقد شارك فيها الشاعر الرامبالدي المختص برامبو المعروف ألان بورير Alain Borer بالإضافة الى كوكبة من شعراء فرنسا وعدد من المؤرخين والأدباء اليمنيين ومن بينهم الراحل عبدالله محيرز الذي كان بحوزته الكثير من الوثائق عن عدن أيام الاحتلال الإنكليزي وقد أفادتنا كثيراً في التأكد من أن المنزل الذي عثرنا عليه هو المنزل الذي كانت فيه وكالة باردي Barday التجارية التي كان يعمل ويسكن فيها الشاعر رامبو ككاتب يومي ومدقق تجاري. وبعد التحقق من كل ما توفر لدينا من معلومات خاصة وأن الشاعر الرامبالدي ألان بورير Alain Borer كان حافظاً عن ظهر غيب مذكرات التاجر باردي إضافة الى الصور والوثائق التي حملها عبدالله محيرز تم تثبيت الموقع وإعلان ذلك وكان بورير يقود فريقنا الشعري والتأريخي مثل المطوفين الذين يقودون الزوار في العتبات المقدّسة... وقد نشر مقالاً بهذه المناسبة في مجلة الNRF الفرنسية الشهيرة ننشره هنا في صحيفة عربية للمرة الأولى: "أين كان يسكن رامبو Rimbaud وعن أي بيت سنبحث إذا كان رامبو ينام على شرفات المنازل تحت السماء العارية "كل ليالي السنة ننام في الهواء الطلق"... سكن رامبو في أربعة أماكن متفرقة خلال الأشهر الأربعة أو الخمسة الأولى من إقامته في عدن والتي دامت طيلة عشر سنوات. لدى وصوله عام 1880 بعد أن استقبله الكولونيل ديبار، انتقل بعد ذلك بشهور لينام في منزل باردي Barday، وهي وكالة تجارية فتحت أبوابها منذ فترة وجيزة. لكنه لم يقم إلا بضعة أشهر، على العكس مما تذكر كل السير الحياتية عنه، فقد كتب باردي في رسالة غير منشورة الى السيد بارتن بيروشون عام 1883 بأن "رامبو كان له منزل آخر خارج الوكالة" وهو مكان وظيفي لا يبعد كثيراً عن الوكالة ويمكن تصوره في السوق. هذا وقد تعرفنا أخيراً، في تشرين الثاني على "المستشفى الأوروبي" الذي دخله رامبو في وضع يرثى له وعولج فيه من قبل الدكتور نوكس أثناء زيارته الأخيرة لعدن، ويقع على مقربة من وكالة باردي. لقد كان البحث عن أثر حقيقي عن مكان تلتقي فيه اهتماماتنا ثمرة سعي مشتركة لشعراء. وقد ولد هذا البحث من إصرار ومثابرة الشاعر شوقي عبدالأمير الذي التفّ حوله شعراء وباحثون بالإصرار نفسه وبمشاركة المرحوم الأستاذ عبدالله محيرز والأستاذ مسعود عمشوش في مسيرة بحث تذكارية في طرقات عدن على هامش الندوة. إن اختيار كريتر تؤيده ثلاثة براهين: 1 عندما كان رامبو مع ألفريد باردي كان يغادر الوكالة، ويذهب الى ملجأ تجار الأسلحة في فندق العالم، كما يذكر جيل سيول الذي كان باردي غاضباً عليه عام 1887. وبما أننا نعرف أن فندق العالم موجود في التواهي فهذا يعني أن الوكالة ليست قريبة من الفندق. 2 كان في عدن مركزان مدنيّان يفصل بينهما حاجز صخري وكانا يمثلان فاصلاً اجتماعياً بين "الأحياء الجميلة" من جهة و"السوق" من جهة أخرى. فالتواهي هو الحي الأوروبي بفندقه الكبير وسكناه المتميز والسوق في كريتر حيث العرب والهنود والصوماليون والسود. وهنا يكفي تطبيق مبدأ رامبوي معروف" بما أن هناك حي أوروبي في عدن فإنه لا يتواجد فيه. 3 وأخيراً فإذا كانت كلمة كريتر تطلق على المنطقة نفسها التي يسميها الإنكليز "المعسكر" وقد جاءت هذه التسمية منذ تواجد قوات الجيوش الخاصة بالهند فيها فإذا هذا المكان ما زال يعرف بمدينة عدن وكذلك السوق فإنه يتطابق مع تسمية باردي له البازار ولهذا اختار في هذا المكان وليس بين الأوروبيين مقر وكالته التجارية كما فعل في هرر في الحبشة. نحن هنا تحت أقدام المنارة قليلاً قبل الآذان، عندما كان ألفريد باردي وإيلي ديبار ينزلان عن عربتهما "الأميركية البرانجنبلات" وهما ينظران الى بيت كبير يشير اليه جيل سيول "يقع في مواجهة الباحة والمحكمة الإنكليزية المتاخمة للجامع. هذه المحكمة التي تهدمت واختفت ولم يبق منها، إلا الباحة التي تسمح بالتعرف على المنارة ومنها على "البيت الكبير" المواجه لها. كان يكفيني أن أعود الى قراءة "بر العجم" مذكّرات الفريد باردي لأرى وبسحر نص طالما قرأته عندما يلتصق فجأة بالواقع المباشر، في حين كانت الصور تطابق بين الماضي والحاضر. "إن منزلاً كبيراً يقع في الواجهة، بالأقواس لقد توسع المنزل لقوس سادس الى اليمين التي تحمل الشرفة في الطابق الأول وقد أضيف فوقها طابق ثان تعلوها المقرنصات تغطي حالياً خمسة أبواب. كل اثنين منها في قوس معروض للإيجار. وبعد أن فحصنا غرفه ومخازنه الواسعة قررنا إقامة وكالتنا فيه". إن وكالة باردي حيث عاش رامبو حقاً وسط بركان في مواجهة البحر، أمام مرأى الجميع منذ قرن. لقد عبرنا أمامها مراراً من دون أن نتعرف عليها. كان علينا أن نتعامل مع الكتب والكلمات كما الخرائط. يجب أيضاً أن نحتفظ بشيء لأنفسنا، أن نصون هذه اللحظات الوجيزة ولكن القادرة على أن تهب الحياة وهي التي شاركني فيها أولاً شوقي عبدالأمير. كان صوت المؤذن ينفلت رويداً رويداً من بين مكبرات الصوت في المنارة". هكذا تم التعرف والتأكيد على الموقع واتفق المؤتمرون على توصية توجه الى الحكومتين المعنيتين اليمنية والفرنسية بتحويل هذا المنزل الى: المركز العالمي للشعر - آرثر رامبو Centre International de la Poesie - Arthur Rambaud C.I.P.A.R وهكذا حملتُ هذه الوصية مرّتين شاعراً ومسؤولاً، خصوصاً أن شيوع الخبر في فرنسا وفي مدينة الشاعر بالذات وكذلك في الكثير من الدول الأوروبية وأميركا كان له صدى كبير إذا ما علمنا مكانة رامبو وموقعه في شعر العالم وعالم الشعر. ردد هذه الأصداء الشاعر الأميركي الكبير الراحل ألان غينسبرغ المعروف بحبه لرامبو حيث كان قضى - في هوسه بهذا الشاعر - "ليلة سوريالية" في منزل رامبو في مدينة شارلفيل حيث تعيش عجوز فرنسية، كنت التقيتها في أحد الأعوام وكانت تتحدث عن "الشقي آرثر" الذي أتعب أمه كثيراً، ولم أزل أتذكر دهشتها التي علت وجهها وهي تشير من نافذة الطابق الأول الى السياج الذي يعلو مترين كيف استطاع هذا "الشقي" أن يقفز عليه ويهرب الى باريس. وكان رامبو يسافر مشياً على الأقدام متأبطاً "المركب السكران" لاحقاً ب"فرلين" ليعطيه "درساً في الشعر الحديث". لن أستطرد أكثر وكانت هذه إحدى مفارقات رحلتي الطويلة مع رامبو لكي أعود لمواصلة التطورات التي تلاحقت بعد ندوة عدن والتي تحدد فيها الموقع للمرة الأولى في تاريخ الأدب الفرنسي حيث اقتضى الأمر ان يقيم آلان بورير تصويباً لكتابه حول حياة رامبو وكذلك أن يصدر كتاباً جديداً "رامبو في الجزيرة العربية" عن دار سوي Seuil. وقام السفير الفرنسي السابق في صنعاء مارسل لوجل Marcel Laugel بكل ما استطاع من أجل ترميم المنزل وتهيئته لدوره الجديد كمركز عالمي للشعر، وقد كلّف السيد جوزيه ماري بل J.M.Bel كمهندس مقاول بهذه المهمة. وبالفعل قام هذا الأخير بعملية الترميم وكان هذا هو دوره ولا علاقة له بأي نشاط ثقافي فكري حول رامبو. وقد أثار استغرابي أن وكالة الأنباء الفرنسية AFP التي نشرت الخبر لم تسأل أحداً في فرنسا حول هذا الأمر مثل آلان بورير Alain Borer أو تسألني على الأقل في بيروت. أما أنا فقد قمت بتأسيس جمعية ال"أمرا Amra" عام 1997 جمعية منزل رامبو في عدن" التي تكلفت العمل والبحث من أجل تنفيذ التوصية بتحويل المنزل الى مركز عالمي للشعر. وانتعشت الأحداث الثقافية بين باريسوعدن وصار منزل رامبو موقعاً يؤمه الزوار والسياسيون والتجار وكل من له علاقة ما بفرنسا في اليمن أو في العالم العربي، لدرجة أن الصحافة الفرنسية أثناء حرب الوحدة والانشقاق في عدن عام 1994 كانت تتحدث عن "مصفاة عدن" و"منزل رامبو" كموقعين حساسين في عدن بالنسبة لفرنسا، عندما أصابت شظية إحدى القنابل واجهة المنزل. كانت مهمة "بيت رامبو" كما عبر عنها الشاعر الفرنسي فيليب دولاربر ناشر أورفيان Aurfyan ما يلي: بيت رامبو الشكل والمضمون "رأى بيت رامبو النور في اليمن، البلد الذي تتقاطع فيه مختلف التأثيرات والتبادلات. فبعد موافقة ودعم كل من وزارة الثقافة اليمنية والسفارة الفرنسية في صنعاء بمبادرة من مؤسسه ومنشطه الشاعر العراقي شوقي عبدالأمير أصبح هذا البيت اليوم حقيقة في عدن بعد أن كان في الأصل مقراً للوكالة التجارية لألفريد باردي حيث عاش وعمل آرثر رامبو. وبعيداً من الرغبة في إحياء ذكرى مرور رامبو في عدن فإن البيت الذي يحمل اسمه اليوم سيكون أرضية لتجربة فريدة من نوعها تتمثل في الرغبة لجعله ملتقى للشعراء والكتاب من الفرنسيين والعرب وبشكل أوسع، مكاناً يلعب فيه الشعر دوره في تأكيد وتعميق التبادل والحساسية الثقافية لكل لغة. لأن بيت رامبو، وكما يريد لنفسه أن يكون، هو بيت للشعر، هذا الشعر الذي نعرف تأثيره في العالم العربي والذي يضم تحت لوائه وللمرة الأولى اللغتين العربية والفرنسية، فإنه سيعطي كل دلالته ومحتواه العميق لهذه المؤسسة ولنشاطاتها. تتوزع هذه النشاطات خلال العام على ثلاثة محاور هي: حلقة الترجمة، إصدار مجلة، إقامة ندوة سنوية. إذ تتضمن حلقة الترجمة الشعرية إقامة مختبر لترجمة الشعر يقدم شاعراً عربياً أو فرنسياً كل عام الى اللغتين العربية والفرنسية. وتتم الحلقة بحضور عدد من المختصين بالترجمة الشعرية والشعراء الى بيت رامبو وإصدار الترجمات باللغتين في ما بعد. أما الندوة السنوية فتضم شعراء ومفكرين من العرب والفرنسيين وهدفها إكمال وتأطير الأعمال والنشاطات التي جرت خلال العام إضافة الى تقديم المقترحات الجديدة والمواضيع المقرة وما يترتب عليها. من أجل حوار من نوع آخر أكثر ديمومة وأكثر انفتاحاً بين ثقافتين بعيدتين عن بعضهما مفتونتين ببعضهما اختلطتا تارة واصطدمتا أخرى لتبقيا غريبتين عن بعضهما متآخيتين مع بعضهما، يفتح بيت رامبو أبوابه آملاً بمدى جديد يكون فاتحة لثقافة مشتركة، ربما... في أواخر عام 1994 تركت مهمتي في العمل كمدير للمركز الثقافي اليمني بباريس لألتحق بعملي في اليونسكو كمستشار ثقافي، مشرف عام على "كتاب في جريدة"... ومنذ ذلك الحين، ولا نسمع عن "بيت رامبو" إلا أنباء الإهمال والانقطاع ثم إغلاق المنزل وسحب الموظفين منه... حتى صباح هذا اليوم حيث قرأت النبأ بتحويل منزل رامبو Rimbaud الى فندق ريمبو Rimbo... وهنا، بعد المقدمة التي لا بد منها لي وللقارئ، أسمح لنفسي بهذه التساؤلات: ماذا تعني هذه الأحداث؟ كيف يمكن لفرنسا الحريصة على تراثها واسمها ولغتها ومشروعها الفرنكوفوني بأن تهزّأ بهذا الشكل؟ إن طرح هذا السؤال اليوم يكتسب أهمية خاصة للبنان والعالم العربي حيث موعد المؤتمر الفرنكوفوني المقبل في بيروت... ماذا تريد فرنسا أن تقدم لشعوب الفرنكوفونية إذا فقدت رموزها الفكرية والإبداعية؟ خصوصاً أنه في هذه المرة يحصل الانهزام لفرنسا بشكل يثير السخرية عبر شخصية ريمبو Rimbo.... ثم ان المعروف عن فرنسا أنها "تبيع" العالم حضارتها أكثر مما تبيعه صناعتها... ومعروف أن حضور فرنسا عالمياً يستند الى وجودها الثقافي والحضاري أكثر منه الى إنتاجها واقتصادها... وتلك حقيقة يعرفها الفرنسيون أكثر من سواهم في العالم... لأن فرنسا - كما نعلم - لا تملك اقتصاد وصناعة ألمانيا ولا التقنية العالية والرخيصة لليابان ولا الثقل السياسي والعسكري والمالي للولايات المتحدة فإنها كانت ستذوب تحت ثقل هذا التنافس العالمي الذي لا يرحم لولا حضورها الثقافي وأسماؤها اللامعة التي تتحصن وراءها لتبقى في الخطوط الأولى من المواجهة العالمية. ومن بين هذه الأسماء يحتل الشعر مكانة مرموقة من فكتور هيجو Victor Hugo الى بودلير Baudelaire ورامبو Rimbaud وحتى أراغون Aragon وسواهم... ماذا يحدث لفرنسا إذاً؟ هل فقدت البوصلة؟ وهل غرق الفرنسيون في الصراع السياسي - التسييسي - اليومي؟ أم أنهم استسلموا ل ريمبو Rimbo رافعين الشارة البيضاء أمام عضلاته المفتولة؟ أم ترى أن هذا كله هو شارة العصر؟ هو قانون "العولمة" التي لا مكان فيها ل"مركب سكران" أو ل"إشراقات" شاعر عبقري وأنه لم يعد هناك إلا القاطرة المحملة بالسلاح والحشيش والجنس والرعب التي تعبر القارات اليوم ليحلُمَ بها العالم والشباب، شارة للثقافة ورسالة للعصر؟ لا أدري... ولا أدّعي الإجابة على هذه الأسئلة.. لكنني أعرف أن أخطر الأسئلة هي التي تداهمك بحضورها وتكتفي بتردادها ولا تجرؤ أن تفوه بكلمة... أو أن أي جواب منها يصبح ثانوياً. لكنني سأغتنم هذه الفرصة لأتوجه الى كل الأدباء والشعراء العرب والفرنسيين أن يعبّروا عن احتجاجهم بكل الأشكال الممكنة والمقالات والتعليقات وليكن هذا الحدث مناسبة لإطلاق عمل ثقافي احتجاجي ولتفتح "الحياة" صفحاتها لذلك. فهي مناسبة لجمع الكثير من الآراء والمواقف العربية في مثل هذا الموضوع المهم. وكذلك أتوجه الى السلطات الثقافية في كل من اليمن وفرنسا الذين عملتُ معهم وأعرف حماستهم وحبهم للأدب والثقافة ألا يتركوا هذه المهزلة تمر من دون أن يعيدوا اعتبار الشاعر الكبير، اعتبار رسالة الثقافة ويصونوا مستوى الحوار بين الحضارات الذي نعوّل اليوم عليه وننتظر منه الكثير... لكي لا يتحول حوار الحضارات الذي هو جسرنا الى العالم الجديد الى مجرد استعراض عضلات سوبرمان أميركي ورشاش الكتروني مزوّد بمباضع سحرية لإبادة "الآخر" كما يقدم لنا ذلك ريمبو على طبق الشاشة الشهي كل ساعة وكل يوم... بل ليبقى نداء رامبو "أنا الآخر" هو رمز الحوار والانفتاح فلسفياً ووجودياً على الآخر. لكي نعرف أن نحافظ على الجوهري في حضورنا وحوارنا مع "الآخر". لا بد من عمل شيء، أن نرفع يدنا احتجاجاً على الأقل... * شاعر عراقي مستشار في اليونيسكو والمشرف على مشروع "كتاب في جريدة"