لو استثنينا كيم غويغ إيل، ابن كيم إيل سونغ، ووريثه على رأس الدولة الاشتراكية في كوريا الشمالية، لا يبدو أن هناك سابقة عن جمهورية ورثت فيها السلطة من أب إلى ابن، وبالذات إذا ما نسبت هذه الجمهورية نفسها إلى الاشتراكية، كما هي حال جمهورية سورية العربية. والسؤال الذي أصبح يشغل الكثيرين في الساحات العربية هو: هل هذا الذي حدث في سورية عقب رحيل حافظ الأسد هو خصوصية سورية؟ أم أرضية تعبر عن ظاهرة عمومية في العالم العربي؟ صحيح أن ثمة شواهد تؤكد أن الرئيس السوري الراحل، ومنذ وقت غير قليل، أعد ابناءه لتولي السلطة بعده. كان المرشح الأول لهذا الموقع هو ابنه الأكبر باسل. غير أن باسل قُتل في حادث سيارة منذ ست سنوات، وكان ذلك صدمة شديدة لأبيه. ومنذ ذلك الوقت، أعد حافظ الأسد ابنه الثاني بشار كي يتولى منصب الرئاسة بعده. ولكن، أياً كانت قبضة حافظ الأسد على مقاليد الحكم في سورية، فليست إرادتهوحدها الخليقة بوضع مثل هذا "التوظيف للسلطة"، الخارج عن المألوف تماماً، موضع التنفيذ، لولا أن هناك عوامل أخرى ضاغطة، لا مناص من أخذها في الاعتبار. فمعروف أن حافظ الأسد التزم دائماً خطاً صلباً، متشدداً، في مواقفه من تسوية النزاع مع إسرائيل، مواقف جعلته من أكثر القادة العرب مناهضة لتسوية لا تحقق التطلعات العربية المشروعة، وهو صمد على هذا الخط حتى النهاية. فوارد اذاً تفسير تمسكه بأن يخلفه على رأس الدولة أحد ابنائه، بأنه لا يأتمن سواه لمواصلة خطه من دون أن يحيد عنه. من هذه الوجهة، كان توريث الأسد السلطة لإبنه محكوماً بخطه السياسي، قبل أن يكون تعبيراً عن رغبة في تحويل جمهورية سورية العربية إلى نوع من الملكية. غير أن هناك قضايا أبعد مدى لا مفر من التصدي لها إذا ما تعرضنا لموضوع تحويل الجمهوريات الى ملكيات، من أهمها أنه، منذ تأسيس إسرائيل، توالت الانقلابات العسكرية في البلدان العربية المتاخمة لها، بما أوحى بأن زرع إسرائيل في قلب الأرض العربية إنما رجح جانب السلطة العسكرية على السلطة المدنية لدى العديد من الدول العربية المحيطة، كضرورة حكمتها الحاجة إلى مواجهة التحدي. ولكن الآن، وقد تقرر أن يكون هناك سلام مع إسرائيل، وأن تتخلى الدول العربية عن مناهضتها للدولة العبرية، يستتبع ذلك منطق ستلح عليه عواصم غربية كبرى، بخاصة تلك الحريصة على أن تبرم الدول العربية معاهدات سلام مع إسرائيل. إن هذه العواصم منتظر لها أن تتمسك بأن الوقت حان لانتقال السلطة في الدول المجاورة لإسرائيل من السلطة العسكرية إلى سلطة مدنية. ولأن السلطة المدنية لا ينتظر لها أن تحظى بمقومات راسخة شأن السلطة العسكرية، فثمة مغريات لتعزيز السلطة المدنية بإكسابها طابعاً "ملكياًَ" أهم مظاهره توريث الحكم. قد يقال إن النظام الملكي عفا عليه الزمن، ويتعارض مع أي تطلع إلى تحديث المجتمع، ولكن هناك من هو كفيل بلفت النظر إلى أن دولاً أوروبية كثيرة ما زالت تتبع النظام الملكي، ومنها دول عريقة في ديموقراطيتها، وأن "الملك" أضحى يوصف بأنه "يملك ولا يحكم". وكما أن المِلكية بكسر الميم اصبح ينظر إليها، من قبل البعض، على أنها "وظيفة اجتماعية" قبل أن تكون "امتيازاً" لطبقة من الملاك في المجتمع، كذلك يقال إن المَلكية بفتح الميم تتسم بالصفة ذاتها. ليس معنى ذلك، بالضرورة، أن هناك حاجة لتدبير "إنقلابات" في اتجاه عكسي، ولو لمجرد أن الإنقلاب يتعارض مع منطق المجتمع المدني، وأن لا شرعية له في المجتمعات التي تنسب نفسها الى الديموقراطية، وأنه ليس افضل سبيل لتحقيق أي قدر من الاستقرار، بل هناك وسائل أخرى، هدفها إنجاز التحول إلى النظام المدني، وربما أيضاً الملكي، من دون أن تبدو مخالفة صريحة لقواعد الديموقراطية. والحقيقة أن "المرونة" في توصيف الديموقراطية ذهبت إلى بعيد. فلقد شهدنا البرلمان الروسي في عهد يلتسن وقد ضُرب بقذائف الدبابات الروسية، ولم تشكك واشنطن في "ديموقراطية" نظام يلتسن، و"حقه" في ارتكاب مثل هذه الأفعال. لا أزعم أن هذا مما حدث في سورية، بل ربما كان "الإنقلاب الدستوري" الذي وقع هناك، له ما يبرره، فإنه قام على المراهنة على أن بشار الأسد، أكثر من أي مواطن سوري آخر، كفيل بأن يحافظ على تراث أبيه في مناهضة تسوية مع إسرائيل تنطوي على تفريط. غير أنه لا مفر أيضاً من التسليم بأن انتقال السلطة الى بشار الأسد تحكمه معضلة عويصة. ذلك أن حافظ الأسد لجأ إلى ابنه بشار، ولم يتورع عن اللجوء إلى "إنقلاب دستوري" لنزع السلطة من الحرس القديم في الحزب والجيش والدولة ونقلها إليه، من منطلق أنه أقدر منهم على الذود عن تراث ابيه السياسي. غير أن أقطاب الحرس القديم لا يتوقع منهم، في حال وقوع صدام بينهم وبين بشار، أن يكونوا هم المدافعون عن التغيير، والخروج على الخط الذي طالما التزمه الحزب والجيش والدولة. فما الحاجة إلى عمل "إنقلابي" من قبل بشار ضد هؤلاء، إذا صح أنهم مثله يتسابقون في الدفاع عن الخط نفسه؟! فهل في تركيز السلطة في يد بشار، وإحلال جيل جديد من القادة محل الجيل القديم، استعداد لانتهاج خط أكثر انفتاحاً على العالم الخارجي؟ لم يكن بشار المرشح أصلاً لرئاسة الجمهورية، ولم يكن ابناً لمؤسسة سورية العسكرية، ولا لمؤسستها الحزبية؟ بل أراد أن يكون طبيب عيون، وهكذا انتمى إلى المجتمع المدني اكثر منه إلى مجتمع الحزب والجيش والدولة. ثم إن بشار مولع بالتكنولوجيا وبالكومبيوتر، وبالثورة الإعلامية، وهو خلافاً لأبيه يتقن لغة أجنبية هي الإنكليزية، وخلافاً لأبيه، أقام في الخارج، ودرس في انكلترا، وهذه كلها ممارسات عالم يختلف عن عالم أبيه، ثم إنه على وجه التأكيد لم يعش الصراعات التي خاضها أبوه، ولم يتأثر بها تأثراً مباشراً، وبالتالي فليس من المقطوع به أنه كفيل بمواصلة خط أبيه، وألا يحيد عنه. وهذا، إذا صح، يجعلنا في صدد تجربة أريدت بها زيادة ترسيخ أسس النظم العسكرية في المنطقة، وأفضت الى نتائج عكسية. إننا الآن بصدد تسوية شاملة في الشرق الأوسط، أي بصدد إحلال السلام كمرجعية بديلاً عن المواجهة، لذلك ستتطلع قوى "عولمية" كثيرة الى اسقاط مشروعية الأنظمة العسكرية العربية، حتى لو اقتضى ذلك، سبيلاً لبلوغ غايتها، إزاحة الانظمة الجمهورية العربية، ولو بطرق ملتوية بعيدة عن الإنقلاب بصيغته العسكرية الفجة. إن الانقلاب وارد عند التحول إلى نظام عسكري، ولكنه غير مستساغ عندما يكون المنشود هو تغيير يجري في الاتجاه العكسي، من نظام عسكري إلى نظام مدني. ومن هنا الحاجة إلى ابتكار سبل جديدة للانتقال للنظام المدني، من دون أن يبدو التحول إنقلاباً. وقد يكون ما جرى في سورية نموذجاً رائداً يُعبِّد الطريق لهذه الظاهرة. من هذه الوجهة فقط، قد يبدو ما جرى في سورية كأنه منسجم مع منطق العولمة ومنطق التسوية، حتى لو تطلب ذلك إرجاء التسوية لفترة معينة، ذلك أنه لا يتوقع أن يستقر الحكم في يد بشار بين يوم وليلة، بل أن تطمئن الأطراف الخارجية الى أن الحكم استقر في يده فعلاً. والواقع أن هذه المحددات التي تلاحق النظام السوري، تلاحق في حقيقة الأمر مختلف الأنظمة العربية، فكثيراً ما تساءل البعض لماذا ليس لمصر نائب لرئيس الجمهورية؟ والواقع أن هذا لا يبدو مصادفة. إذ هل يكون نائب رئيس الجمهورية رجلاً عسكرياً، فتستخلص إسرائيل من ذلك أن حرباً تشنها مصر ضدها ما زالت احتمالاً وارداً؟ أم أن يكون نائب رئيس الجمهورية مدنياً، فتكون هذه إشارة إلى القوات المسلحة بأنها لم تعد العمود الفقري للنظام؟ إننا لا نزال بين اعتبارين: إما أن التسوية لم تحل بعد ولا تزال المرجعية هي احتمال تجدد القتال، وإما أن التسوية حصلت فعلاً وانها اصبحت في نظر جميع الفرقاء مرجعية المستقبل، ومن هنا الحاجة إلى تقرير موقف: هل لا نزال في صدد نظام عسكري أساساً؟ أم أصبحنا في صدد نظام مدني أساساً؟ قد تجد هذه المفارقة تعبيراً آخر في التمييز بين حكام عرب تصدوا لإسرائيل، أو وجدوا أنفسهم في وارد التصدي لها، وبين آخرين لم يكن مطروحاً تصديهم لها مباشرة، ولو بسبب بعد أقطارهم جغرافياً، فإن الأنظمة العسكرية انتشرت بالذات بين الأقطار التي كتب لها أن تتصدى، بينما الأنظمة التقليدية هي التي لم يكن يلاحقها هذا التحدي. ودولة مثل لبنان، ذات خصائص حالت دون قدرتها على أن تكتسب صفة الدولة المعسكرة الممركزة، عانت كثيراً من هذه "الخصوصية". أما الآن، فإن السلطة تنتقل إلى جيل جديد، شئنا أم أبينا. فها هو جيل جديد من الحكام في سورية، والأردن، والمغرب، وقطر، والبحرين. ومن سمات الحكام من الجيل الجديد أن لا فروق جوهرية تميز المنتمين منهم الى نظم ملكية عن المنتمين منهم الى نظم جمهورية. والتمايز، إن وجد، فإنه أكثر وضوحاً بين الجيل الجديد والجيل القديم، وهو في سبيله الى الزوال مع زوال التمايز بين الذين حكمت سلوكهم "ثورة القومية العربية"، من جانب، والثروة النفطية من الجانب الآخر، وباتت الصراعات العربية / العربية تحكمها محاور وآليات أخرى، منها ربما قضية شح المياه المتفاقم على اتساع المنطقة، ومنها بطبيعة الحال مقدرات التسوية مع إسرائيل، هل تصل المعاناة العربية الى حد صنع مفاجآت تفوق كل ما هو وارد تصوره سلفاً، على نمط المصالحة التي وقعت أخيراً بين الكوريتين؟ * كاتب مصري