سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
يغيب حافظ الأسد مخلّفاً وراءه تركة معقدة وهواجس حقيقية ... موت نجله الاكبر باسل خلط امور السلطة وترتيباتها ... وصعود نجله بشار يطرح على المعنيين اسئلة . أثر رحيله سيكون كبيراً في بلاده وفي لبنان والمنطقة ... كما كان أثر حضوره
مات حافظ الأسد. الأنباء التي كانت ترد من سورية في الأيام القليلة الماضية كانت توحي بأن الرئيس ليس على ما يرام. كانت توحي بأن اللعبة تفتقر الى من يضبطها. أثرُ رحيل حافظ الأسد عن سبعين عاماً سيكون كبيراً على بلاده وعلى لبنان وعلى المنطقة، تماماً كما كان أثر حضوره كبيراً هو الذي أُسبغت عليه نعوت من نوع: "اللاعب الأول" و"الرقم الصعب". ووصول الأسد الى ما وصل اليه لم يكن بلا مقدمات متعرّجة عاشها ابن بلدة القرداحة الصغيرة في جبال اللاذقية: بعض تلك المقدمات في حزب البعث العربي الاشتراكي وبعضها في تاريخ المؤسسة العسكرية. فالأسد الشاب كان ممن انخرطوا في الكلية الحربية في حمص، ومن ثم في مدرسة الطيران في حلب التي تفرّعت عنها. وكانت هذه المؤسسة مدخل ابناء الطبقات غير المحظوظة والطوائف الأقلية الى مواقع متصدّرة في الجيش. ومن خلال حزب البعث الذي انتسب اليه الأسد، وجد الطموح أداته وشكله. يومها كانت سورية تعيش اضطرابها العميق. فالانقلابات التي راحت تتوالى منذ 1949، مع حسني الزعيم وفوزي سلو وسامي الحناوي، رست على ديكتاتورية اديب الشيشكلي في الخمسينات. وكان حزب البعث من خلال عناصره في الجيش بين الاطراف الاكثر تأهيلاً لاطاحة الديكتاتورية. بيد ان البعثيين وغير البعثيين ممن اطاحوها تعارفوا على اعتماد نظام برلماني لم يستطع ان يتخلص من هيمنة العسكر عليه. وكان اسوأ من هذه الهيمنة وقوع البلد في قلب النزاع العراقي - المصري الذي لم يُحسم أمره الا بانضمامه الى الوحدة مع مصر الناصرية في 1958. "اللجنة العسكرية" وكان حافظ الاسد، الضابط الشاب وابن علي سليمان الوجيه الصغير في قريته، احد الذين نُقلوا الى مصر بعد الوحدة. ذلك ان الرئيس جمال عبدالناصر لم يكن يثق بالعسكريين السوريين الذين تمرّسوا على الانقلابات. ورغم الدور الذي لعبه البعثيون في طلب الوحدة واقامتها، كان عسكريوهم بين من شملهم النقل الى "الاقليم الجنوبي" لدولة الوحدة. والاسد كان الثالث بين الضباط البعثيين الذين أسسوا "اللجنة العسكرية"، فيما الاولان محمد عمران وصلاح جديد. وقد آلت هذه اللجنة على نفسها انتزاع سلطتين: سلطة البعث الذي رضي قادته التاريخيون ان يحلّوه نزولاً عند طلب عبدالناصر، وسلطة سورية نفسها. بيد ان الطريق كان معبّداً بالمصاعب. صحيح ان عهد الوحدة سقط في 28 ايلول سبتمبر 1961 الا ان الذين اسقطوه لم يكونوا بعثيين. وهكذا اضطر الاخيرون، وفي عدادهم الاسد طبعاً، الى التخطيط لانقلابهم الذي نجح في 8 آذار مارس 1963. وتباعاً تخلص ضباط البعث من شركائهم في السلطة، فسقط زياد الحريري "الطموح" سقوط الناصريين الذين قاموا بانقلاب 18 تموز يوليو الفاشل وكان ابرزهم جاسم علوان وراشد القطيني ومحمد الصوفي. وقد استند البعثيون الى ما كان قد حصل في بغداد قبل شهر واحد على انقلابهم الدمشقي: ذاك ان رفاقهم هناك نفّذوا ايضاً انقلاباً دموياً اطاح عبدالكريم قاسم وحكمه. وفي البداية شرع البعثان يتفاوضان مع القيادة المصرية لانشاء وحدة ثلاثية، الا ان عبدالناصر اتهم تلاميذ ميشيل عفلق بالمماطلة لتثبيت مواقعهم في السلطة. هكذا انهار المشروع الوحدوي وارتسم الدم في افق العلاقة بين رفاق الامس. ولئن سقط الحكم العراقي في تشرين الثاني نوفمبر 1963 فقد صمد الحكم السوري. الا ان الكلفة هنا كانت كبيرة ايضاً على ما دلّت مواجهات عدة ابرزها في مدينة حماه. وفي الموازاة تعاظم النزاع بين البعثيين انفسهم، لا سيما بين جماعة "اللجنة العسكرية" والقيادة التاريخية لعفلق وصلاح الدين البيطار. ومع ان حافظ الاسد لم يكن من المتزمّتين في معاداة التاريخيين، الا انه وجد نفسه بين المنقضّين عليها في 23 شباط 1966. غير ان النظام هذا ما لبث ان وجد نفسه، هو ايضاً، اسير النزاعات المرّة بين اطرافه. فما بين ابعاد وسجن وموت توزّعت مصائر بعض اقطاب النظام المدنيين والعسكريين، كسليم حاطوم وخالد الجندي وحمّود الشوفي وخالد الحكيم وبقايا مؤيدي القيادة القومية ممن حُسبوا على الطائفة الدرزية. وتمهّد السبيل للفصل الاهم متمثلاً في النزاع المفتوح بين صلاح جديد والأسد. وخلفية هذا النزاع تعود الى هزيمة 5 حزيران يونيو 1967 حيث كان الاسد وزيراً للدفاع. فكان مما تعلّمه منها ضرورة السعي الى التضامن العربي من دون التفريط بالعلاقة الخاصة بموسكو. ويبدو ان هذا الخط اصطدم بالنهج المتطرف لجديد الذي رغب في تعميق توجهه الراديكالي، غير عابىء بالوضع الاقتصادي الداخلي السيء ولا بعزلة سورية وموقعها في توازن القوى الاقليمي. ومع نشوب الحرب الاهلية في الاردن عام 1970 تحول الاشتباك الى امر واقع. فجديد الذي اراد التدخل لمصلحة الفدائيين الفلسطينيين، حصدت القوات التي ارسلها هزيمة قاسية على يد الجيش الاردني، وكان من اسباب الهزيمة رفض الاسد، كوزير للدفاع، ان يمنحها التغطية الجوية. الحركة التصحيحية وحرب تشرين في الاحوال كافة ابعد الاسد رفاقه في ما اسماه "الحركة التصحيحية"، فانتهى جديد ونورالدين الاتاسي وغيرهما في السجون. ولما تمت الحركة بعد اقل من شهرين على رحيل الرئيس عبدالناصر، اندرجت في محاولات عربية لا تُحصى لاحتلال منصّة الزعامة العربية الاولى. فالرئيسان معمر القذافي وجعفر نميري كانا لا يزالان وجهين صاعدين، وكذلك صدام حسين الذي كان لا يزال نائبا طموحاً للرئيس احمد حسن البكر. وبين السياسات الاولى التي انتهجها الاسد فك عزلة بلاده عربياً واقليمياً، والتراجع عن بضعة تأميمات قصوى اقدم عليها العهد السابق، فضلاً عن الانفتاح على الوسط التجاري الدمشقي والسني. لكن حرب تشرين الاول 1973 مثّلت تتويج الدور الأسدي وصعود نجمه في الداخل والمحيط. فمجرد القدرة على شن الحرب والصمود اياماً قبل التراجع، عُدّا مكسباً هائلاً كرّس الاعلام واللغة الرسمية نفسيهما لتوكيده. وهكذا أُسبغت على الرئيس السوري القاب جديدة ك"بطل الجولان" و"بطل تشرين" و"رمز الكرامة". مع هذا لم تكتمل الفرحة. فشريك الانتصار التشريني، الرئيس المصري انور السادات، ما لبث ان استقل في نهج يغاير النهج السوري. وقبيل ذلك كانت انفجرت الحرب اللبنانية التي بدأت أهلية وتطورت اقليمياً. ولئن رأت دمشق في خطوة السادات محاصرة لها، فقد رأت في الوضع اللبناني فرصة لتحسين شروطها. وفي هذا المعنى ابتدأت ديبلوماسيةٌ تجمع المهارة الى القسوة، فضلاً عن الاستعداد الدائم للتكيّف مع اوضاع متغيرة متقلّبة. فحين ابتدأ الدور اللبناني لسورية من داخل "قوات الردع العربية"، كان الهمّ طمأنة المسيحيين لمنع انجرافهم نحو اسرائيل. وفي السياق هذا اغتيل الزعيم الدرزي وحليف المقاومة الفلسطينية كمال جنبلاط. الا ان الذهاب بعيداً في سياسة "الصمود والتصدي" للرئيس السادات، ابقى التحالف قائماً مع الفلسطينيين مؤدياً، بالتالي، الى انفجار النزاع مع المسيحيين. واستمر الوضع على هذه الحال الى ان كان الاجتياح الاسرائيلي للبنان. غير ان الاجتياح برعونته، وباجلائه القوات السورية عن اجزاء كبيرة من لبنان كانت موجودة فيها، لم يكن التحدي الوحيد الذي تعرّضت له سلطة الأسد. بين إيرانولبنان ذاك ان الفترة الممتدة ما بين 1979 و1984 شهدت تطورات عدة اهمها تفاقم الحركات الاصولية السنية التي انتهج بعضها العمل المسلح في مواجهة نظامٍ وصفه الاصوليون بالقمعية والطائفية. كما شهدت مرض الرئيس السوري الذي ترافق مع صراع حاد على السلطة كان رمزه الابرز شقيقه رفعت. وفي المقابل كانت ايران الخمينية التي وصل رجال الدين فيها الى السلطة في 1979، مصدر الترياق. فهي التي سريعاً ما وجدت نفسها تنخرط في حرب مع العراق، لقيت في الرئيس الأسد حليفاً وثيقاً. واذا أمّن التحالف هذا لطهران كسر طابع العداء للعرب عن حربها مع العراق، فقد أمّن لدمشق مدى اقليمياً يصلها بالتأثير في الخليج، ومدى لبنانياً يتجسّد في تعزيز الموقع داخل الطائفة الشيعية. وبهذا الموقع وبغيره كان من السهل على دمشق الاستفادة من التركيبة اللبنانية والانقضاض على سلطة الرئيس امين الجميل بعدما وقّعت اتفاق 17 ايار مايو 1983 مع اسرائيل. وفيما كانت الاخيرة تباشر اكتشافها لقلة مردود مغامرتها اللبنانية، كان الاسد يستعيد مواقعه تباعاً في لبنان على جواد حروب الجبل والضاحية و"انتفاضة 6 شباط" في بيروت الغربية. فما ان حل الانسحاب الاسرائيلي من صيدا في 1985 حتى بدا ان المنطقة الشرقية المسيحية هي وحدها التي لا تزال عاصية. في هذه الغضون تطور نزاع مُرّ بين سورية والمقاومة الفلسطينية التي ارادت العودة الى لبنان من اطرافه. وما بين البقاع وطرابلس ومخيمات بيروت خيضت معارك بالغة الضراوة ندر ان تكبّد الفلسطينيون اكلافاً كالتي تكبدوها فيها. وتحولت نسبة "العرفاتية"، في لبنان وسورية، الى تهمة لا تفوقها خطورةً على المتهم الا "الصهيونية". كما سجّل تاريخ الكراهية الشخصية بين سياسيين فصلاً غير مسبوق. حرب الخليج الثانية لكن اذا تعادل الاسد وعرفات في حظوظهما ابان حرب الخليج الاولى، اذ ايّد الزعيم الفلسطيني بغداد، فإن الحرب الثانية اعطت الاسد فرصةً حرمت عرفات منها. فقد وقف الرئيس السوري الى جانب الحلفاء مُسوّراً موقفه ومشاركته البرية في الحرب بكثير من التحفظات والتبريرات. اما على جبهة الافعال فظهرت الثمار في لبنان حيث تم ضرب تمرد قائد الجيش اللبناني ميشال عون الذي رفض الموافقة على اتفاق الطائف. وبالنتيجة قُضي على الجيب المسيحي العاصي على الارادة السورية فدان لبنان كله لدمشق. واذا ما نُظر الى هذا الانجاز الكبير من زاوية اقليمية، كان اهم ما فيه تمييز التعامل مع "حزب الله" عن التعامل مع باقي ميليشيات الحرب في لبنان. وهذا ما اتاح للحزب المذكور ان يمضي في عمله العسكري ضد الوجود الاسرائيلي في الجنوب والبقاع الغربي. وتتبدى قيمة "حزب الله" في انه وفّر الورقة التي اسقطها انهيار الاتحاد السوفياتي. فللحظة بدا ان سقوط الحليف التاريخي والداعم العسكري والديبلوماسي لدمشق، لا سيما منذ توقيع معاهدة التعاون في 1980، سيحرمها كل قدرة على المساومة من اجل استعادة الجولان. وهكذا كان مجرد حضورها مؤتمر مدريد للسلام مفاجأة صاعقة، ولو ان وزير خارجيتها فاروق الشرع تمسّك خلاله باللفظية المتشددة القديمة. فبدلاً من "التوازن الاستراتيجي" الكلاسيكي الذي كان وجود الاتحاد السوفياتي يسمح بافتراضه، وفّر "حزب الله" توازناً استراتيجياً شعبياً اذا صح التعبير. وهكذا غدا الموقف السوري يجد في العمليات الجنوبية ما يقدّمه دليلاً على استمرار قدرته ونفوذه. وسارت التسوية سيراً رجراجاً. فبدا في لحظة، ابان عهد اسحق رابين، ان الامور مشرعة على ضوء في آخر النفق. وعاد الاحتمال نفسه الى الظهور مع عهد ايهود باراك الى ان بيّن لقاء جنيف بين الأسد والرئيس الأميركي كلينتون ان الامور أصعب مما يُظن. فحين حصل الانسحاب الاسرائيلي، قبل اسابيع قليلة، من لبنان بدا كأن سورية فقدت فعلاً ورقتها التي قدّمت لها طويلا عنصر القوة التفاوضية الوحيد. التركة المعقّدة يرحل حافظ الأسد مخلّفاً وراءه تركة معقدة وهواجس حقيقية. فرحيل نجله الاكبر باسل خلط امور السلطة وترتيباتها. وصعود نجله بشار يطرح على المعنيين اسئلة لا يزال من المبكر تقديم الجواب عنها. فكيف وان غالبية كبرى من الشعب السوري ولدت في عهد حافظ الاسد ولم تعرف "أباً أعلى" إلا هو؟ وكيف وان البلد في خضم تسوية اقليمية بمقدار ما هي معنية بتحولات اقتصادية وتقنية يُنسب الى بشار الاسد الكثير من الحماس لهما؟ ففي انتظار ان يصدر التاريخ حكمه يمكن القول ان حقبة حافظ الاسد هي الاطول عهداً واستقراراً في سورية الحديثة، والاكثر تضلّعاً في التعاطي مع عناصر وتحولات استراتيجية وسياسية. لكنها، ولأنها كذلك، راكمت قدراً من الامور المعلّقة التي يتساءل الكثيرون عن طريقة بتّها اليوم. والأشد تخوّفاً يذكّرون بالافتقار الى الوسائل والتقاليد الديموقراطية التي كانت ستساعد على البتّ، كما يشيرون الى ان التركيز على الجوانب الاقليمية جعل النمو الديموغرافي والسكاني الهائل لا يجدان ما يواكبه في الاعداد الاقتصادي. وهذه مشكلة اخرى.