لن أكون متجنيا على الرئيس السوري "بشار أسد" إذا قلت أنه قد أضاع عليه وعلى السوريين فرصا لن تعوض، عندما أعطى أذنيه لمستشاريه الأمنيين، فصدقهم بأنهم قادرون على وأد أي ثورة في مهدها إذا ما نشبت في سورية. وهو قد صدّق هؤلاء عندما قالوا إن أي ثورة تنبعث في سورية لن تكون أخطر من المواجهة التي نشبت بين النظام وبين الإخوان المسلمين أوائل ثمانينات القرن العشرين، وأن النظام لم يقض عليها فحسب، بل وكسر شوكة الإخوان المسلمين حتى خلت سورية نهائيا، أو كادت، من تنظيم الإخوان. لا نريد أن نضيع الوقت في بيان ما في ادعاء النظام السوري من خلل، ومن خطورة على سورية الوطن وسورية الشعب، حيث كلف الحل الأمني الذي تبناه "حافظ أسد" الكثير، بعدما أعطى الأجهزة الأمنية "شيكا على بياض" بأن يفعلوا ما يشاؤون للقضاء على تنظيم الإخوان المسلمين. كانت النتيجة أن أزهقت أرواح أكثر من 50 ألف سوري في حماة وفي محاكمات صورية في سجن تدمر وفي مجازر تمت في مختلف المدن السورية، كما هُجّر مئات الآلاف من السوريين خارج سورية، عدا عن الشرخ العمودي الذي قسم سورية بين نظام معزول يحكم وبين شعب مستضعف محكوم أخضع لأقسى أنواع القهر والإذلال، وجعل سورية تتراجع على كل الصعد، وانحطت إلى ما هو أدنى مما كانت عليه في عهد الاستعمار الفرنسي في أربعينات القرن العشرين. ربما شعر الرئيس السوري بالزهو وهو يدلي بحديث إلى الصحيفة الأمريكية "لوس أنجيلوس" في شهر شباط الماضي، وهو يرى خصمه الرئيس المصري حسني مبارك يتنحى عن الحكم. كان يتكلم –كخبير طبي- عن الجراثيم التي تعيش في البرك، ثم ليصل إلى ما يريد أن يقوله بأن سورية ليست مصر وليست تونس. الرئيس السوري الذي كان يملك أضخم جيش من الأجهزة الأمنية في المنطقة، خانته تلك الأجهزة لأنها لم تستطع قراءة مايدور في عقول الشباب السوري، ما دعا هذا الرئيس أن يقع ضحية ركونه لتلك الأجهزة. رغم أن النفوس لا يصل إلى مكنونها إلا الله سبحانه وتعالى، إلا أن الساحة السورية بما تضم من مجموعات شبابية تواقة إلى الحرية، كان ليس لديها ما يمنع من الوصول إلى حلول وسط مع النظام، بحيث يكمل الرئيس بشار مدته، على أن يتم خلال تلك الفترة صياغة دستور يعيد سورية إلى ما كانت عليه قبل انقلاب البعث على السلطة في آذار عام 1963. لكن الرئيس بشار أسد، مدفوعا بمجموعته الأمنية الضيقة ومجلس العائلة، لم يكن في وارده أن يقبل بهكذا سيناريو. ممارسات "حافظ أسد" الأمنية وقد كسر شوكة الشعب السوري تركت دائرة الرئيس بشار أسد الضيقة ، في حال من الشعور بأن سورية غدت مزرعة "جفتلك" لهم، وصار الحكم حقا مكتسبا، ومن ينازعهم هذا الحق فليس له عندهم إلا القانون 49 الذي يحكم بالإعدام على مجرد الانتماء للإخوان المسلمين. وليس بالضرورة أن يكون السوري منتميا للإخوان حتى يحكم عليه بالإعدام أويعتقل فمحكمة أمن الدولة والقضاء العسكري كفيلان بإثبات الانتماء عليه. هتافات المتظاهرين "سلمية .. سلمية" في بدايات الثورة السورية التي انطلقت في 15 آذار الماضي، تؤكد ما أشرنا إليه وما كان يسعى إليه أولئك الشباب. فهم يعرفون قسوة الحكم وبطش الأجهزة الأمنية، فقد كانوا يرضون بالوصول مع النظام إلى صيغة "لا غالب ولا مغلوب"، يكمل الرئيس مدة حكمه ثم يتنحى، وينال الشعب استقلاله وحريته. لقد أثبتت إطاحة الرئيس التونسي "زين العابدين بن علي"، وتنحي الرئيس "حسني مبارك" عن الحكم ثم إحالته إلى المحاكمة أنهما ليستا حالتين طارئتين. وأن سورية ليست استثناء، كما زعم الرئيس بشار أسد للصحيفة الأمريكية. فقد أثبت إصرار الثوار الليبيين على ملاحقة الرئيس الليبي العقيد "معمر القذافي" إلى آخر مخبأ له في مسقط رأسه في مدينة "سرت" ثم مقتله في تلك المدينة على الصورة التي رآها العالم أجمع، أن الربيع العربي مستمر ولن يتوقف عند الحالات الثلاث. فقد رأينا أن نهاية كل زعيم عربي يطاح به كانت أسوأ من نهاية سابقه لأنه يظن، كما ظن الرئيس السوري، أنه أشد مراسا وأثبت جذورا. فلو أن الرئيس السوري أدرك خطأ ممارسات أبيه حافظ أسد مبكرا، وكان لديه من الوقت ليعدل عنها، ويسلك سلوكا آخر، فربما كان وفّر على نفسه ما وصل إليه من أزمة استحكمت حلقاتها حوله حتى شب الشارع السوري عن الطوق وأثبت أنه عصي على التطويع. فقد مضت ثمانية أشهر قتل فيها الآلاف من السوريين واعتقل عشرات الآلاف وتكبدت سورية خسارات اقتصادية هائلة، وفوق ذلك كله وقبل ذلك كله امتلاء النفوس بالأحقاد والضغائن، بحيث لم يعد ممكنا التعايش بين النظام والشعب السوري. بعد شهور ثمانية من الثورة اتضح للمراقبين أن السقف الذي يقبله الشعب السوري صار مرتفعا جدا الآن، وما كان مقبولا في الشهر الأول من الثورة، ما عاد يصلح، ولا يمكن القبول به الآن. كما أن هيبة الحكم قد سقطت، وانعدم أي احترام للرئيس السوري في نفوس الشباب المتظاهر، وهذا ما أظهرته هتافات المتظاهرين في شوارع المدن السورية وقراها. ليس هذا فحسب، فإن العزلة الدولية والعربية التي أحاطت بالرئيس السوري أصبحت خانقة. بل لقد تجرأت 18 دولة عربية على إصدار قرار غير مسبوق عن الجامعة العربية علّقت بموجبه مشاركات النظام السوري في مؤسسات الجامعة. وتوجه قرار الجامعة إلى الجيش السوري كي يرفع سيف القتل عن الشعب السوري، كما هدد القرار بعقوبات منها سحب السفراء العرب من دمشق، وناشد المنظمات الدولية لتقديم الحماية للشعب السوري. إصلاح ما أفسده النظام السوري الآن، لن يكون بالوصول إلى حلول وسط "لا يموت فيها الذئب ولا يفنى الغنم"، فما عاد الشعب السوري يقبل بأقل من الحرية الكاملة والديمقراطية التي ترسخ لحكم القانون والتعددية وتداول السلطة عن طريق صناديق الاقتراع. كما لم يعد مقبولا أن يكون في سورية في آن واحد "ابن الست وابن الجارية". فهل تثبت الجامعة العربية أنها ركبت طقما من الأسنان وأنيابا حادة للتعامل مع النظام السوري؟ أم أن قرارها الأخير بتعليق نشاط سورية في الجامعة هو خطوة على طريق تدويل الأزمة السورية!؟