تمر على العرب هذا الشهر ذكرى أحد أكثر الأحداث تأثيراً وإيلاماً في تاريخ العرب الحديث، وهي هزيمة حزيران 1967، ولا يقلل من وقع هذه الهزيمة تسميتها بنكسة. كانت هزيمة حزيران هزيمة عسكرية شنيعة بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معان، إذ احتلت اسرائيل سيناء المصرية والجولان السورية، والضفة الغربية وغزة. ولكن رغم مرارة هذه الهزيمة فإنها لم تفت من عضد الأمة، ولم تقض على إرادتها، بل لملمت الأمة جراحها بسرعة، وسعت الى إعداد العدة لإعادة الحقوق العربية. وخلال شهور استعاد الجيش المصري المبادرة وبدأت حرب استنزاف لتشكل بداية لإعادة الثقة في النفس. والدرس الأكبر المستوعب من هذه الهزيمة أننا لم نخضع لميزان القوى المختل تماماً لصالح العدو ونعلن الاستسلام كما كان يتوقع وزير الدفاع الاسرائيلي آنذاك موشي ديان، الذي كان يجلس الى جانب هاتفه منتظراً اعتراف العرب بالهزيمة. وبدأت الجيوش العربية تستعد لمعركة استعادة الحق وما أن مرت سبع سنوات حتى كانت الجيوش العربية تحطم حصون العدو في معركة تشرين الأول اكتوبر 73 واستطاع الجيش المصري تحقيق العبور العظيم لقناة السويس، كما استطاع الجيش السوري الوصول الى بحيرة طبريا. ولكن هذا الانتصار العسكري العظيم لم يطل أمده، رغم الدعم العربي الشامل وبالذات استعمال سلاح البترول. بل بدأت الخلافات بين القيادات على التعامل مع هذا الانتصار وتوقف القتال من دون أن تكمل الجيوش العربية مهمتها، وبدأت ممارسات ولغة خطاب جديدة لم نسمع عنها بعد هزيمة يونيو، وهي الواقعية والخضوع لميزان القوى، وكل الأوراق بيد الولاياتالمتحدة وما الى ذلك. ومن دون الدخول في تفاصيل ما حدث وما ترتبت عليه من نتائج فإن من حق الانسان العربي أن يقارن بين النتائج السياسية لهزيمة حزيران وتلك المترتبة على انتصار أكتوبر، إذ تشتت العرب، وانعزلت مصر، وشهد النظام العربي أصعب أوضاعه، حتى كان اجتياح العراق للكويت في الثاني من آب أغسطس 90 الذي كان القشة التي قصمت ظهر البعير العربي، وبدأت التراجعات العربية واندحار الإرادة، وحالة الانكسار والشعور بالهزيمة وتمادى العدو في استغلال هذه الحالة العربية للتوصل الى حلول تعكس هذا الوضع العربي المتردي. ثم كانت المقاومة الاسلامية بعد احتلال الجنوباللبناني عام 82، كأبرز ظاهرة منذ هزيمة 67، ولقد احتاجت المقاومة الى الكثير من الجهد والتضحية حتى تتحول الى أمر واقع، وحتى تعيد الأمل الى نفوس عربية كادت تيأس من عودة الروح. وقد مارس العدو كل ما يملكه من وسائل تدمير وضغط للقضاء على هذه الظاهرة، ولم تسلم لبنان وبنيتها التحتية ومدنها وقراها من التدمير لكي تتخلى عن هذه المقاومة، ولم تتوقف الآلية الاعلامية الصهيونية بكل ما تملكه من امكانيات لتشويه المقاومة ودمغها بالارهاب. ولكن وضوح الرؤية والارادة السياسية لقيادة المقاومة، وتبنى الشعب اللبناني بكل فئاته وطوائفه، ودعم الحكومة اللبنانية لها ومساندتها مكن المقاومة من الاستمرار حتى فرضت نفسها كحقيقة لا يمكن تجاوزها، ولم يكن للعالم بصورة عامة وللعدو بصورة خاصة أن يدرك هذه الحقيقة لولا شعور العدو بضربات المقاومة الموجعة التي راح يدفع ثمنها يوماً بعد آخر. وتكاد تمر ثلاثة أسابيع حتى الآن على الانتصار المبين للمقاومة اللبنانية الباسلة على العدو الاسرائيلي الذي هرب "وذيله بين ساقيه" كما وصفته "جيروزالم بوست" الاسرائيلية في افتتاحيتها في اليوم الأول للانسحاب. وتبين اقتباسات من هذه المقالة مرارة الهزيمة: "لم ننسحب من لبنان، بل ولينا الأدبار بسرعة في حال انهيار عسكري شامل، منسلين في ظلام الليل وذيلنا بين ساقينا خشية على حياتنا، ولن تستطيع آلية باراك الإعلامية اخفاء هذه الحقيقة كانت قيادة أقوى الجيوش وأكثرها تنظيماً في الشرق الأوسط قرر ترك لبنان منذ أكثر من عام، ومع ذلك بدا هذا الجيش، وكأنه أخذ على بغته وكل، الدعم المدني والشبكات المدنية انهارت خلال ساعات ومعدات بملايين الدولارات دمرت أو تركت. والأسوأ من كل ذلك تركنا جانباً حلفاءنا جيش لبنانالجنوبي للفوضى والقتل"... "والسؤال لماذا حدث كل ذلك، لم نترك لبنان لتصور الجيش أن هذا هو أفضل وسيلة للدفاع عن شمال اسرائيل، وانما لأن مجتمعنا الممزق لم يعد يحتمل تكاليف الدفاع عنه، مؤشر آخر على ترددنا... "لقد بينت اسرائيل لكل العالم العربي ولقادة العالم الى أي مدى نحن ضعفاء وأن هزيمتنا ممكنة. ان قرارنا بالانسحاب شعبي سياسي، ولكن لا يمكن اعتباره قراراً عسكرياً، ان القرار كان وليد تعب المجتمع وتمزق الإرادة هل سنفتح النار على الجموع الفلسطينية المصممة على تحرير القدس؟ ان أسوأ النتائج من مذلة الاسبوع الماضي يعني في الداخل ان انسحابنا سيقود الى انسحابات أخرى ان شعب اسرائيل في تراجع، نفسياً: من العنف في المدارس الى انتشار المخدرات الى الفساد، الى ما هو أخطر من ذلك وهو تآكل الالتزام بمثاليات الصهيونية. روحياً: تراجع الاعتقاد الديني والممارسة، اختفاء الوازع الروحي وانتشار العلمانية الى جانب ذلك كله نحن في تراجع في الأراضي، من سيوقف هذا التدهور؟". إن هذه الاقتباسات من افتتاحية "جيروزالم بوست" تصور الحالة النفسية التي يعيشها الاسرائيليون، وهم يرون جيشهم ينسحب من دون تنازلات من الطرف الآخر. وبالنسبة للعرب فإن هذا الحدث هو نقطة تحول نفسية لجيل لم يذق طعم الانتصار. وما حوته افتتاحية "جيروزالم بوست" من شعور بالخزي والاحباط، بقدر ما يسعدنا، بقدر ما يدفعنا الى التفكير فيما يمكن أن يدفع إليه هذا الشعور من تصرفات لعدو عرف بالغدر. ولقد مر الآن أكثر من ثلاثة أسابيع على تحرير الجنوب وانتصار المقاومة، وعبرنا عن فرصتنا التي طال انتظارها، ولكن حان الوقت ان نفكر في الدروس والعبر التي علينا أن نستنبطها من هذا الحدث البالغ الأهمية. لقد شكك الكثيرون في جدوى المقاومة، وشكك الكثيرون أنها ستقود الى التحرير، متسلحين "بالواقعية" و"العقلانية" و"بالتنازلات" و"المفاوضات". ولذلك فإنه يسجل للمقاومة الى جانب انتصارها العسكري رباطة جأش قيادتها ووضوح رؤيتها وقرائتها الصحيحة للتطورات، وتعاملها السياسي والإعلامي تعاملاً واعياً، لا يقل عن تعاملها مع الجانب العسكري. ورغم طول المدة فإن المقاومة استمرت مدعومة بالشعب، وبالدولة التي لم تخضع للضغوط بكل أصنافها، بما فيها تدمير بنيتها التحتية أكثر من مرة، ومع ذلك لم نسمع من لبنان إلا إصراراً على إعادة البناء وإصراراً على دعم المقاومة، وعلى رفض التفاوض مع العدو، لأن التفاوض كان سيقود الى الحلول الوسط وربما الى التنازلات التي تعكس موازين القوى غير المرئية والتي أكدتها المقاومة. ولذلك كان النصر المبين الذي لم يكن مبعثه إيمان العدو بالشرعية الدولية، كما رأى رئيس السلطة الفلسطينية في تصريح غير موفق، وانما بفضل ضربات المقاومة الموجعة. بدل ان يستقوي رئيس السلطة بانتصار المقاومة فإنه اعطى المصداقية لمن لا يستحقها. إن المرارة والشعور بالهزيمة الذي شعرت به اسرائيل يدفعنا الى الحذر التام لمخططاتها لإزالة هذا التأثير النفسي على مواطنيها وعلى جيشها، بل وتجاه الآخرين وانها ستحاول بكل وسيلة أن تلتف على هذه الهزيمة. وانها ستبحث عن المكان المناسب والوقت المناسب لذلك، وستجد من يدعمها ويسندها. لذلك فإن انتباه المقاومة ولبنان لهذا، لهو أمر في غاية الأهمية. ولذلك فإننا نؤكد على ضرورة التعامل السياسي الذكي لتطورات ما بعد التحرير، فلقد تحقق الانتصار العسكري ونحن في حاجة الى تعزيزه بالانتصار السياسي. ونحن على ثقة ومن خلال تجربتنا مع المقاومة في تعاملها السياسي والإعلامي أنها تتمتع بالحنكة والدراية المطلوبة، إلا أنها بكل تأكيد مرحلة جديدة تتطلب مزيداً من الوعي والحذر. ان المعركة لم تنته، والا الانتصار هو حلقة في صراع طويل ومستمر. وان المرحلة المقبلة حبلى بتحديات جديدة تستدعي تعاملاً وأسلوباً مختلفاً وان حجر لتحقيق الانتصار السياسي هو احترام الدولة ومؤسساتها، والحرص كل الحرص على الوحدة الوطنية. وكعرب، ألا يستحق انتصار المقاومة واعتزازنا به دافعاً لإعادة التضامن العربي. ودافعاً الى رتق الخروقات في إرادة الأمة من تطبيع وعلاقات مع العدو، ودافعاً الى رفع المعاناة عن شعب العراق الشقيق، والى دعم معنوي وسياسي ومادي لوطن المقاومة لبنان. ليعيد لنا هذا الانتصار الإيمان بالقدرة على إعادة الحقوق العربية كاملة في الجولان وفي فلسطين. قد يكون حلماً، ولكن ألم يكن انتصار المقاومة في جنوبلبنان على أعتى الجيوش حلماً وقد تحقق. * كاتب قطري