ما حصل في جنوبلبنان قد لا يكون قابلاً للتكرار أو للتصدير، لكن دلالاته كثيرة وواضحة. فهو ظل، في زمن ما سمي "السلام"، معاكساً للتيار الخادع الذي فرضه الأميركيون والإسرائيليون. حتى أنه توصل إلى أن يفرض على الأميركيين والإسرائيليين خيارات معاكسة لرغباتهم. لم يكن هناك مجال للاحتيال، وإنما كان هناك خيار واحد هو الانسحاب، مع كل ما رافقه من "اذلال"، ومن تحطيم للصورة التي روّجها الإسرائيليون عن أنفسهم. لم تكن هذه هزيمة عسكرية، وإنما كانت هزيمة للعقلية الصهيونية، لذلك بدت بمثابة هزيمة عسكرية بل أقسى منها. ولم يكن الانتصار اللبناني عسكرياً وإنما كان انتصاراً للإرادة لذلك بدا كأنه انتصار عسكري بل أكبر منه. لعل الوضع الذي ساد على الحدود، غداة الانسحاب، أقرب ما يكون إلى وضع "أمثل" تغدو فيه إسرائيل دولة عادية في المنطقة، على رغم تفوق ترسانتها الحربية. فهي انسحبت سعياً إلى وضع آمن على الحدود مع لبنان، وكل شيء يثبت أنها توصلت إلى ذلك. فترسانتها كفيلة الآن بأن تحميها، لكنها لا تمكنها من العودة إلى جنوبلبنان، لأنها باتت تعرف ما ينتظرها. ومن شأنها، قبل سواها، أن تدرك أهمية الخطوة التي أقدمت عليها. كما ان من شأن العرب أن يدركوا أهمية السلاح المعنوي الكبير الذي يمتلكونه لكنهم عطّلوه أو أفسدوه أو تخلوا عنه باكراً في مواجهة عدو لا يتردد في استخدام أي سلاح ضدهم. كان التخاذل العربي، والتخلي المتعجل عن روح المقاومة، أكبر انجاز نالته إسرائيل مما سمي "عملية السلام". وجاء التهافت على استرضاء أميركا، والتنافس على التطبيع، تأكيداً لذلك الانجاز الإسرائيلي في مقابل مكاسب هزيلة وهزلية ل"السلام". لم يكن مطلوباً فقط ما يراعي أمن إسرائيل وأمانها، وإنما الاستسلام الكامل والشامل لأطروحاتها حتى لكأن الهدف الحقيقي هو ان يتصهين كل عربي قلباً وقالباً على النحو الذي تصهين به بيل كلينتون وآل غور. ولا يزال هذا الهدف قائماً في شروط الولاياتالمتحدة على الأنظمة المتطلعة إلى "شرعية أميركية" لوجودها. ثمة نقاش في إسرائيل حول دروس التجربة اللبنانية المرّة. لا بد أنهم سيتجاوزون الاهانة والاذلال لأنهم كانوا سيشعرون بهما أياً كان شكل الانسحاب، لسبب بسيط هو أنهم انسحبوا رغماً عنهم ومن دون أن يوقع لهم أصحاب الأرض المحتلة على املاءاتهم لقاء الانسحاب. وثمة نقاش آخر في الولاياتالمتحدة، على خلفية مشاركة صهاينة الكونغرس والإعلام إسرائيل شعورها بالاهانة، مفاده ان مبادرات جديدة مثل الانسحاب من لبنان قد تكون أكثر جدوى في حسم ما تبقى من مسارات تفاوض. ويعني مجرد النقاش هذا ان العقلية العدوانية ازاء العرب اضطرت لمراجعة ذاتها ومصالحها، ولكن يصعب طبعاً توقع أي تغيير حقيقي يطرأ عليها، فهي الوريثة الطبيعية المباشرة للعقلية الاستعمارية التي لم تمت وإنما بدّلت أبطالها وأدواتها. مثل هذا النقاش مطلوب عربياً. وكل العالم العربي مدعو للاستفادة مما برهنته المقاومة اللبنانية. فهي لم تنتصر بالخدعة وإنما بالحق، ودفعت الثمن باهظاً مئات النساء والأطفال والرجال، ودفع معها لبنان الثمن من اقتصاده ونموه وعمرانه. العرب المفاوضون، وحتى غير المفاوضين مع إسرائيل، مدعوون لمراجعة تستعيد لهم شيئاً من الكرامة ومن الحقوق التي تكاد المساومات تطمسها وتضيعها. لقد ضحوا باكراً جداً بروح المقاومة أملاً بمكاسب سريعة ثم اصطدموا بواقع ان العدو هو العدو وليس جمعية خيرية. فلا تفاوض يمكن ان يحصّل حقوقاً لمجرد ان هناك قرارات دولية نصّت على تلك الحقوق. بل ان التفاوض يمكن ان يكون استمراراً ل"الحرب" إذا ابقيت روح المقاومة حيّة وحيوية. وفي الحال العربية تبدو المقاومة تجسيداً للرأي العام الذي لا يريد أحد أن يعترف به، لكنه موجود على رغم الذين يجهدون لتغييبه. والمشاهد التي نراها هذه الأيام عند الشريط الشائك، الفاصل بين لبنان وإسرائيل، بمن فيها من مسلحين لبنانيين ومدنيين عزّل نساء وأطفال وشيوخ، ستخيف الإسرائيليين أكثر. إنه "المجتمع" المساند للمقاومة ذهب إلى أبعد نقطة للاحتفال بانتصارها، ولم يجد قبالته سوى جنود مدججين ومرعوبين