واريد ان اسجل هنا اليوم انني كنت سبّاقاً الى هذا النوع من النضال، وبما ان الادعاء كبير، فإنني ازيد ان عندي شهوداً عدولاً، كلهم احياء، هم ثلاثة اصدقاء من آل الشويري من حدث بيروت، وزميل كان معنا في "الديلي ستار"، وهو الآن في دار الصياد، وصديق هاجر الى كندا ولم تنقطع الصلة به، وصديق آخر هو الآن مالك شركة سفر وسياحة في لندن ويعرفه عرب كثيرون من المقيمين في العاصمة البريطانية. الصديق الاخير هذا هو مفتاح نضالنا ضد الاسرائيليين بين اواخر الخمسينات ومنتصف السبعينات، فقد كان خاله مختار النفّاخية، وتركنا كلبي صيد عنده، وفيما كان اللبنانيون كلهم يصطادون في البقاع، كنا نصطاد في جنوبلبنان. وخسرنا الكلبين مع الاجتياح ودفعنا ثمناً غالياً. كنا نأخذ طريقين للصيد لا ثالث لهما، فإما ان نسير شرقاً، من مفرق قرب جسر الليطاني قبل صور، ونتجه الى العباسية ودير قانون النهر، ثم النفّاخية ودردغيا حتى نصل الى مخفر تل النحاس، ومن هناك نهبط جنوباً فغرباً مع الطريق المحاذي لفلسطين المحتلة، حتى نصل الى رأس الناقورة، ومنها شمالاً الى صور. واما ان نستمر حتى رأس الناقورة، ونسلك الطريق نفسه معكوساً، اي حتى نخرج الى طريق صور قرب جسر الليطاني فنعود الى بيروت. كنا نصطاد في الخريف طير السمّان، وبعده الفري. واعترف بأنه كانت هناك طيور يمنع صيدها، مثل البجع والباشق، الا اننا لم نكن تعلمنا كثيراً عن اهمية البيئة الطبيعية في تلك الايام. اما النضال، فكان مسرحه عادة المنطقة المجاورة لمخفر تل النحاس، حيث لا يفصل الطريق اللبنانية عن الاسرائيلية سوى شريط شائك، من ابسط الانواع في تلك الايام، فهو لا يشبه الشريط الامني الذي شاهده القراء على التلفزيون. كانت المنطقة اللبنانية مهجورة، او "هيشة" باللهجة المحلية، اما المنطقة المواجهة، فكان الاسرائيليون زرعوها تفاحاً وإجاصاً، وكانت تسقى من ماء يرش من انابيب تحت الارض في ساعات معينة. وكنا نرى على الجانب الاسرائيلي مصفحة او مصفحتين، وعدداً من المجندين المراهقين، فنشتمهم ويشتمونا حتى نتعب ويتعبوا. وكنا نرمي عليهم احياناً بقايا تفاحة او خيارة مما نحمل معنا من طعام، ويرمون علينا تفاحاً او غيره. ولم نحاول يوماً ان نرميهم بحجارة خشية ان يرمونا بالرصاص. وكان الجو يتأزم احياناً اذا هزمناهم شتماً، فقد كان اكثرهم يتكلم عربية مكسّرة، يبدأ المجندون يهددون، فكان يخرج الينا جاويش من مخفر تل النحاس ويقول "يلاّ يا اولاد، روحوا من هون". وعندما كبرنا اصبحوا يقولون لنا "يلاّ يا شباب...". عرفت جنوبلبنان عندما كان منطقة جميلة وادعة، وفقيرة يسكنها ناس طيبون. وكنا نشتري طعامنا من دكان القرية التي نصل اليها ظهراً، وندفع ثمن كل شيء ما عدا الخبز، فالقرويون يصنعون خبزهم بأنفسهم، والدكان لا يبيع خبزاً، لذلك كان البقال يذهب الى بيته ويأتي لنا بأرغفة الخبز ويرفض ان يقبض ثمناً لها. ماذا اذكر اليوم من جنوب تلك الايام؟ بعد صور هناك منطقة آثار رومانية مهمة، والشاطئ في المنطقة رملي نظيف من افضل الموجود في لبنان. وكان خط السكة الحديد القديم بين لبنان وفلسطين لا يزال موجوداً ومهجوراً، وبعض اجزاء منه منهار لأن الامطار تحت الخطوط جرفت التراب على مر السنين. اما رأس الناقورة، فكان لا يزال يرتفع فيها قنطرة او قوس لمرور السيارات، وعليه بالفرنسية كلمة "ليبان". وعندما كنا نصعد الى مارون الرأس، وهي على تلة كما يدل اسمها، كنا نفاجأ بوصول ضجة الحياة من مستعمرة اسرائيلية تحتها تماماً على الحدود، لعلها افيميم او بير عام. ولو ان انساناً اختار ان يدحرج حجارة كبيرة من قمة التلة نحو المستوطنة لدمر نصف بيوتها. اليوم، لا اذكر مزارع شبعا، فقد كنا نصطاد في المنطقة، وندرك اننا قد ننتقل الى ارض سورية الوضع نفسه يشبه ما في بلدة القصر قرب الهرمل، فقد كنا نصطاد في الاراضي اللبنانية والسورية، بحماية صديق من عشيرة ناصر الدين. واعود الى ما بدأت به. فقد كنت واصدقاء، كلهم حي يرزق، نناضل ضد الاسرائيليين شتماً ومراشقة بالفاكهة، قبل ان يولد الشجعان الذين ارغموا اسرائيل على الانسحاب، واليوم لا ارجو للجنوب سوى ان يعود اليه السلام، وقليل من اهتمام الدولة التي اهملته حتى طمع به العدو.