كان تصريح وزير الدفاع اللبناني غازي زعيتر عن انضمام قوات سورية الى القوات اللبنانية في جنوبلبنان بعد انسحاب إسرائيل زوبعة في فنجان، فهو تراجع عنه وسورية والحكومة اللبنانية أنكرتاه أو استنكرتاه، وعاد الحديث بالتالي الى المهم فعلاً. إسرائيل ستنسحب من جنوبلبنان في تموز يوليو القادم، وربما في أيار مايو، والحديث أن انسحابها استفزاز هو في مثل غرابة تصريح وزير الدفاع اللبناني، أو ضعفه، فقد بقينا سنوات نطالب بانسحاب إسرائيل من جنوبلبنان، وكل أرض عربية محتلة، حتى إذا قررت أن تنسحب من جنوبلبنان قام من يعتبر ذلك "مؤامرة". هناك مؤامرة بالتأكيد إلا أنها ليست الانسحاب، فالإسرائيليون يزعمون الآن أن الحدود الدولية مع جنوبلبنان ليست واضحة، والأرجح أن هذا عذر للاحتفاظ بجزء من الأرض اللبنانية قبالة مستوطنة مسغاف عام. غير أن بقاءهم في أي جزء من الجنوب سيعني استمرار المقاومة، ما قد يؤدي الى انفجار أمني أو حرب محدودة. الواقع أن الحدود الدولية بين لبنان وفلسطين محددة بدقة. وعندما كنت شخصياً أذهب للصيد في جنوبلبنان، كنت والأصدقاء نبدأ من العباسية ودير قانون النهر، شمالي نهر الليطاني، حتى نصل الى تل النحاس حيث كان يفصل الحدود شريط شائك بسيط، ثم نستعمل طريقاً مزدوجاً على الحدود حتى نصل عبر القرى اللبنانية الى مخفر رأس الناقورة المهجور بين لبنان وفلسطين، وعليه بالعربية والفرنسية كلمة "لبنان". في تلك الأيام، كنا نرى الإسرائيليين يعملون في الحقول، وكان هناك بعض المصفحات والمجندين الإسرائيليين، وكانت الحدود مرسومة بوضوح، فكنا مثلاً نرى من مارون الراس، وهي على تلة المستوطنات الإسرائيلية مثل كريات شمونة تحتنا، ونسمع ضجيج السيارات في وسطها، فإذا ترك الواقف فوق حجراً يتدحرج الى تحت فهو سيصيب الناس أو المساكن في المستوطنات. بكلام آخر، إذا كنت أنا وأصدقائي رأينا بأعيننا الحدود مرسومة بوضوح فلا يعقل أن إسرائيل ولبنان والدول الكبرى، خصوصاً بريطانيا وفرنسا والأمم المتحدة لا تعرف هذه الحدود. الإسرائيليون يكذبون وقد رأينا كيف كذبوا في موضوع طابا وخسروا وفي حين أن كذبهم في موضوع الحدود اللبنانية محدود بمنطقة ضيقة، إلا أن عدم الانسحاب منها يعني بقاء الاحتلال في جزء من الأرض اللبنانية، وبالتالي المقاومة. وإذا كان الإسرائيليون يغامرون باستمرار المواجهة على قطعة أرض صغيرة، فإن المراقب يستطيع أن يتخيل مدى صعوبة الوضع مع سورية حيث الخلاف على الماء. الإسرائيليون قالوا إنهم سينسحبون الى حدود الرابع من حزيران يونيو 1967 مع سورية، إلا أنهم أصروا أيضاً على أن يحتفظوا بالسيطرة الكاملة على الماء ومصادره، ما يعني أنهم لن ينسحبوا الى حدود الرابع من حزيران. والفرق بين الحدود الدولية المرسومة سنة 1923، وحدود الهدنة في تموز يوليو 1949 لا يتجاوز 66 كيلومتراً مربعاً، اعتبرت منطقة مجردة من السلاح. كان السوريون بعد ذلك يستثمرون ثلثها في الزراعة والإسرائيليون يستثمرون الثلثين. وأصبح معروفاً أن الإسرائيليين بدأوا معظم المواجهات المسلحة في تلك المنطقة، واعترف موشي دايان نفسه، بأنهم بدأوا 88 في المئة من المناوشات المسلحة. المهم في الأمر أن البريطانيين الذين خرجوا من الحرب العالمية الأولى أقوى من الفرنسيين رسموا الحدود بين سورية وفلسطين على خط يمر على مسافة عشرة أمتار الى الشرق من نهر الأردن بين بحيرة الحولة التي جففها الإسرائيليون في ما بعد، وبحيرة طبريا، ويضم الضفة الشرقية لبحيرة طبريا كلها. غير أن السوريين كانوا دخلوا بعض الأراضي الفلسطينية خلال حرب 1948، وعندما وقع اتفاق الهدنة في 20 تموز من السنة التالية، بقوا في مواقعهم على نهر الأردن والضفة الشرقية لبحيرة طبريا وفي القمة التي احتلها الإسرائيليون سنة 1967، ويطلقون عليها اسم حامات غادر، وأيضاً في الشمال الشرقي بين بانياس ودان. ما صدم السوريين في جنيف كان أن الرئيس كلينتون نقل الى الرئيس الأسد موقفاً إسرائيلياً خالصاً، بالانسحاب المزعوم الى حدود الرابع من حزيران مع السيطرة الكاملة على مصادر الماء، بما في ذلك روافد الأردن، من دون أن يقدم أي أفكار أميركية جديدة لردم هوة الخلاف بين الطرفين، ونقلت الصحف الأميركية بعد ذلك عن مصار البيت الأبيض أن الإدارة ستركز على المسار الفلسطيني، وقالت حرفياً إن الهدف "عزل الرئيس الأسد وإقناعه بأن يكون أكثر تنازلاً على القضايا الأساسية التي هي موضع التفاوض مثل مدى الانسحاب والترتيبات الأمنية"... يعني أن الموقف الأميركي هو الموقف الإسرائيلي بصراحة ووقاحة. في مثل هذا الوضع لا يحتاج الإنسان الى سماع تصريحات "عنترية" من وزير الدفاع اللبناني ليدرك خطر الوضع طالما أن الانسحاب من لبنان قد لا يكون انسحاباً كاملاً، وأن المعروض على سورية يقل كثيراً عن العودة الى حدود الرابع من حزيران، وأن الوضع كله سيسوء كثيراً قبل أن يتحسن.