«الإحصاء»: 12.7% ارتفاع صادرات السعودية غير النفطية    بلادنا تودع ابنها البار الشيخ عبدالله العلي النعيم    وطن الأفراح    حلاوةُ ولاةِ الأمر    حائل.. سلة غذاء بالخيرات    حملة «إغاثة غزة» تتجاوز 703 ملايين ريال    الشيباني يحذر إيران من بث الفوضى في سورية    رغم الهدنة.. (إسرائيل) تقصف البقاع    الحمدان: «الأخضر دايماً راسه مرفوع»    تعزيز التعاون الأمني السعودي - القطري    المطيري رئيساً للاتحاد السعودي للتايكوندو    "الثقافة" تطلق أربع خدمات جديدة في منصة الابتعاث الثقافي    "الثقافة" و"الأوقاف" توقعان مذكرة تفاهم في المجالات ذات الاهتمام المشترك    أهازيج أهالي العلا تعلن مربعانية الشتاء    شرائح المستقبل واستعادة القدرات المفقودة    مليشيات حزب الله تتحول إلى قمع الفنانين بعد إخفاقاتها    أمير نجران يواسي أسرة ابن نمشان    جدّة الظاهري    الأبعاد التاريخية والثقافية للإبل في معرض «الإبل جواهر حية»    63% من المعتمرين يفضلون التسوق بالمدينة المنورة    منع تسويق 1.9 طن مواد غذائية فاسدة في جدة    العناكب وسرطان البحر.. تعالج سرطان الجلد    5 علامات خطيرة في الرأس والرقبة.. لا تتجاهلها    في المرحلة ال 18 من الدوري الإنجليزي «بوكسينغ داي».. ليفربول للابتعاد بالصدارة.. وسيتي ويونايتد لتخطي الأزمة    لمن لا يحب كرة القدم" كأس العالم 2034″    ارتفاع مخزونات المنتجات النفطية في ميناء الفجيرة مع تراجع الصادرات    وزير الطاقة يزور مصانع متخصصة في إنتاج مكونات الطاقة    الزهراني وبن غله يحتفلان بزواج وليد    الدرعان يُتوَّج بجائزة العمل التطوعي    أسرتا ناجي والعمري تحتفلان بزفاف المهندس محمود    فرضية الطائرة وجاهزية المطار !    أمير الشرقية يرعى الاحتفال بترميم 1000 منزل    الأزهار القابلة للأكل ضمن توجهات الطهو الحديثة    ما هكذا تورد الإبل يا سعد    واتساب تطلق ميزة مسح المستندات لهواتف آيفون    المأمول من بعثاتنا الدبلوماسية    تدشين "دجِيرَة البركة" للكاتب حلواني    مسابقة المهارات    إطلاق النسخة الثانية من برنامج «جيل الأدب»    نقوش ميدان عام تؤصل لقرية أثرية بالأحساء    وهم الاستقرار الاقتصادي!    أفراحنا إلى أين؟    آل الشيخ يلتقي ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة والزيارة    %91 غير مصابين بالقلق    اطلاع قطاع الأعمال على الفرص المتاحة بمنطقة المدينة    «كانسيلو وكيسيه» ينافسان على أفضل هدف في النخبة الآسيوية    اكتشاف سناجب «آكلة للحوم»    دور العلوم والتكنولوجيا في الحد من الضرر    البحرين يعبر العراق بثنائية ويتأهل لنصف نهائي خليجي 26    التشويش وطائر المشتبهان في تحطم طائرة أذربيجانية    خادم الحرمين وولي العهد يعزّيان رئيس أذربيجان في ضحايا حادث تحطم الطائرة    حرس حدود عسير ينقذ طفلاً مصرياً من الغرق أثناء ممارسة السباحة    منتجع شرعان.. أيقونة سياحية في قلب العلا تحت إشراف ولي العهد    ملك البحرين يستقبل الأمير تركي بن محمد بن فهد    مفوض الإفتاء بجازان: "التعليم مسؤولية توجيه الأفكار نحو العقيدة الصحيحة وحماية المجتمع من الفكر الدخيل"    نائب أمير منطقة مكة يطلع على الأعمال والمشاريع التطويرية    نائب أمير منطقة مكة يرأس اجتماع اللجنة التنفيذية للجنة الحج المركزية    إطلاق 66 كائناً مهدداً بالانقراض في محمية الملك خالد الملكية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سارتر والعرب: ملاحظة هامشية
نشر في الحياة يوم 30 - 05 - 2000

كان جان بول سارتر يوماً أكثر المثقفين شهرة لكنه، حتى عهد قريب، كاد أن يختفي تماماً من المشهد الثقافي. بدأ الهجوم عليه بعد فترة وجيزة من موته في 1980، عندما اتهم بالتعامي عن معسكرات الاعتقال السوفياتية، فيما تعرضت فلسفته الوجودية الانسانية للسخرية بما فيها من تفاؤل وإرادوية وتمددٍ في كل الاتجاهات. وشكلت حياته الفكرية كلها استفزازاً لمن يُعرفون ب "الفلاسفة الجدد"، بمنجزاتهم المتواضعة التي لم يكن فيها ما يجذب الانتباه سوى عدائهم المحموم للشيوعية، كما استفزت ما بعد البنيويين وما بعد الحداثيين، الذين تراجعوا مع بعض الاستثناءات الى نرجسية تقنوية عابسة استنكرت شعبوية سارتر ومواقفه السياسية البطولية. وبدا ان التنوع الكبير في اعمال سارتر، كروائي وكاتب مقالات ومسرحي ومؤلف سيَر وفيلسوف ومثقف سياسي وناشط ملتزم، صدّ عنه عدداً من الناس اكبر بكثير من عدد القراء الذين جذبهم اليه، حتى تحول من المفكر الأوسع ذيوعاً من بين "أساطين الفكر" الفرنسيين الى أقلهم من حيث التداول والتحليل، وكل ذلك في فترة لا تتجاوز العقدين. وراحت طي النسيان مواقفه الشجاعة تجاه الجزائر وفيتنام، ونشاطه لصالح المهاجرين، وانضمامه الى الماويين ومشاركته الجريئة في تظاهرات الطلبة في باريس في 1968، وأيضاً اهتماماته الواسعة وأدبه الرفيع الذي جلب له الفوز بجائزة نوبل للآداب - التي رفضها. وأصبح من المشاهير السابقين المذمومين، عدا في العالم الأنغلو - أميركي، حيث لم يؤخذ بجدية كبيرة أصلا، بل نظر اليه بتعالٍ على انه كاتب روايات موذكرات من نوع غريب، ولأنه لم يبدِ ما يكفي من العداء للشيوعية، وليس له تأنق وجاذبية البير كامو الذي يقل عنه موهبة بكثير.
لكن الموضة كما هي عادة فرنسا بدأت تتغير، أو هكذا يبدو من بعد. إذ صدر عدد من الكتب عنه، وعاد مداراً للحديث ربما آنياً فقط، ان لم يكن للدرس والتأمل. لكنه كان دوماًبالنسبة الى جيلي واحداً من أبطال الفكر في القرن العشرين، وضع بصيرته ومواهبه الفكرية في خدمة كل القضايا التقدمية في عصرنا تقريباً، من دون أن نشعر بأنه منزّه أو نبي. بل ان ما أثار الاعجاب كان سعيه الدائم الى تفهم الأوضاع ومن ثم، من دون تعال أو مراوغة، تقديم الدعم اذا دعت الحاجة الى القضية السياسية المعنية. وعلى رغم وقوعه احياناً في الخطأ أو المبالغة فقد كان دوماً شخصية كبرى، ووجدت، كواحد من قرائه، ان كل ما كتبه كان مثيراً للاهتمام بسبب جرأته وحريته حتى حرية الإطالة الى حد الإملال! وكرم روحه - هكذا دوماً، عدا في حال واحدة أود الحديث عنها الآن، بعدما شجعني على الكتابة عنها مقالان مثيران ومحزنان في الوقت نفسه عن زيارته الى مصر في أوائل 1967، نشرتهما أخيراً صحيفة "الاهرام الاسبوعي" التي تصدر بالانكليزية. المقال الأول مراجعة لكتاب برنار هنري ليفي الأخير عن سارتر، والثاني مراجعة لمقال عن الزيارة كتبه الراحل لطفي الخولي، المثقف المرموق الذي كان واحداً من مضيفي سارتر. أما تجربتي الوحيدة مع سارتر فقد كانت نقطة عابرة في حياته الزاخرة، لكنها قد تستحق الذكر لما فيها من مفارقات وخيبات.
بدأت القصة أوائل كانون الثاني يناير 1979 حين كنت في مسكني في نيويورك اعد مادة لواحد من صفوفي. ودق جرس المنزل مؤذناً بقدوم برقية، وافرحني عندما فتحت المظروف انها كانت من باريس. النص: "مجلة "لو تان موديرن" الأزمنة الحديثة تدعوك للمشاركة في ندوة عن السلام في الشرق الأوسط في باريس في 13 و14 آذار مارس من السنة الجارية. الرجاء الاجابة. التوقيع: سيمون دو بوفوار وجان بول سارتر". فكرتي الأولى كانت ان البرقية مزحة، اذ استبعدت لشخص مثلي تسلم رسالة من تلك الشخصيتين الاسطوريتين. انها مثل رسالة من كوزيما وريتشارد فاغنر لزيارة بايرويت، أو من تي. اس. اليوت وفرجينيا وولف لزيارة مكتب "ذي دايال". قضيت يومين في التأكد من الاصدقاء في باريس ونيويورك عن صحة البرقية، وأجبت فور ذلك بالقبول بعدما علمت أيضاً ان "الأزمنة الحديثة"، المجلة الشهيرة التي أسسها سارتر بعد الحرب العالمية الثانية، تتكفل بمصاريف السفر والاقامة. بعد أسابيع كنت في طريقي الى باريس.
لدى الوصول الى الفندق المتواضع في الحيّ اللاتيني حيث حجزت، وجدت في انتظاري رسالة مقتضبة غامضة: "لأسباب أمنية ستكون الاجتماعات في شقة ميشال فوكو"، وكان هناك أيضاً عنوان الشقة. في العاشرة صباح اليوم التالي وصلت الى شقة فوكو الواسعة حيث وجدت عدداً من الأشخاص لم يكن سارتر من بينهم ينتظرون بدء الاجتماع. ولم يوضح أحد أبداً طبيعة "الأسباب الأمنية" التي أملت تغيير مكان الاجتماع. وكانت سيمون دو بوفوار هناك بعمامتها الشهيرة، وسمعتها تحاضر الرائح والغادي عن رحلتها المزمعة الى ايران مع كيت ميليت، حيث كانتا ستتظاهران ضد "الشادور". شعرت بأن الفكرة سخيفة ومستكبرة، ورغم تشوقي لسماعها فقد أدركت أنها مغرورة تماماً وغير مستعدة لأي نقاش آنذاك. وهي غادرت بعد نحو ساعة قبل وقت قصير من قدوم سارتر ولم نرها بعد ذلك.
كان هناك أيضاً فوكو نفسه، الذي أوضح لي بسرعة ان ليس له أي علاقة بموضوع الندوة، وانه سيغادر فوراً، كعادته كل يوم، الى المكتبة الوطنية حيث كان يقوم بأبحاثه. وسرني ان رأيت كتابي "بدايات" في موقع بارز على رفوف مكتبته، حيث ارتصفت بنظام دقيق الكتب والدوريات والمجلات. ورغم حديثنا الودي وقتها لم تتوفر لي أي فكرة عن سبب تجنبه الخوض معي في سياسة الشرق الأوسط إلا بعد عقد تقريباً على موته في 1984. فقد كشف ديدييه أريبو وجيمس ميللر في كتابيهما عنه انه كان يعلّم في جامعة تونس في 1967 وغادر بعد الحرب بسرعة وفي ظروف استثنائية. قال فوكو وقتها ان سبب رحيله الطوعي عن تونس كان استبشاعه التظاهرات "المعادية للسامية" العنيفة التي شهدتها تونس، مثل غالبية المدن العربية الأخرى بعد هزيمة العرب الكبرى. لكن زميلة له في قسم الفلسفة في جامعة تونس آنذاك اخبرتني أوائل الثمانينات انه أبعد عن تونس بسبب علاقاته الجنسية الشاذة مع بعض الطلبة. ولا اعرف حتى الآن أي رواية هي الصحيحة.
اخبرني فوكو اثناء لقائنا في باريس انه عائد لتوه من ايران حيث كان مراسلاً خاصاً لصحيفة "كورييري ديلا سيرا" الايطالية. وأتذكر أنه وصف تلك الأيام المبكرة من الثورة الاسلامية بأنها "مثيرة جداً وغريبة جداً. بل مجنونة". واعتقد انني سمعته يقول ربما كنت مخطئاً انه كان يلبس شعراً مستعاراً للتنكر. لكنه، بعد نشر تقاريره عن الثورة، تخلى بسرعة عن كل ما له علاقة بإيران. في اواخر الثمانينات، اخبرني الفيلسوف الراحل جيل دولوز أن فوكو كان صديقه الحميم، لكنهما اصطدما وزالت الصداقة بسبب قضية فلسطين، اذ أيد دولوز الفلسطينيين فيما كان فوكو مؤيداً لاسرائيل. لا عجب، اذن، انه لم يرد بحث الشرق الأوسط معي أو مع غيري في ذلك اللقاء!
شقة فوكو، الواسعة والمريحة تماماً، كانت مطلية بالأبيض وبسيطة الأثاث، تعكس شخصية ذلك الفيلسوف المنعزل الدقيق الفكر، الذي بدا كأنه يسكنها لوحده. كان في اللقاء عدد من الفلسطينيين واليهود الاسرائيليين. ولم اعرف من بين الفلسطينيين سوى المقدسي ابراهيم دقاق، الذي أصبح فيما بعد صديقاً، ونافذ نزال، المدرس في بيرزيت، الذي عرفته في شكل سطحي في أميركا. كما عرفت من بين الاسرائيليين يهوشافات هركابي، وهو في مقدمة خبراء اسرائيل في "العقلية العربية"، ورئيس سابق للمخابرات العسكرية طردته غولدا مائير بعدما وضع الجيش خطأ في حال التأهب. كانت لكل منا زمالة في مركز ستانفورد للدراسات العليا في علوم السلوك، وقبل ثلاث سنوات تزامن وجودنا هناك لمدة سنة، فاتسمت علاقتنا بالمجاملة لكن من دون مودة. وبدا في باريس انه كان في طريقه الى تغيير موقفه ليصبح في طليعة حمائم السلام في المؤسسة الحاكمة الاسرائيلية ويتكلم صراحة عن الحاجة الى قيام دولة فلسطينية، وهو ما اعتبره استراتيجياً في مصلحة اسرائيل.
أما المشاركون الآخرون فكانوا في غالبيتهم من اليهود الفرنسيين أو الاسرائيليين، بمواقف متباينة امتدت من العلمانية القوية الى التدين المتشدد، مع الاجماع، كل على طريقته، على تأييد الصهيونية. وبدا ان لواحد منهم، ايلي بن غال، علاقة طويلة بسارتر، وعلمنا لاحقاً انه كان دليله في رحلة قام بها اخيراً الى اسرائيل. لكن عندما وصل المفكر الكبير، بعد تأخير طويل عن الموعد المحدد، صدمت مما بدا عليه من الوهن وتقدم السن. واتذكر تصرفي المضطرب عندما قدمت اليه فوكو وكأنهما لم يكونا وثيقي الصلة منذ زمن!، كما اتذكر كيف بدا لي بوضوح ان لسارتر حاشية من بضعة أفراد احاطوا به دوماً وقدموا له الدعم والتوجيه، وانه اعتمد عليهم فيما كان الاهتمام به شغلهم الشاغل. من هؤلاء ابنته بالتبني، التي علمت لاحقاً انها مسؤولة تركته الأدبية، وانها من أصل جزائري. منهم أيضا بيار فكتور، وهو ماوي سابق وناشر مشارك مع سارتر لمجلة "غوش بروليتاريين" المتوقفة منذ زمن ثم تديّن بعمق فيما بعد وأصبح كما اعتقد من اليهود الأرثوذكس. وذهلت عندما اخبرني واحد من العاملين في المجلة كان في الاجتماع ان فكتور أصلاً يهودي مصري اسمه بيني ليفي، وانه شقيق عادل رفعت ليفي سابقاً، الذي شارك مسلماً مصرياً، تحت اسم مستعار واحد هو "محمود حسين" في تأليف الدراسة المعروفة "الصراع الطبقي في مصر" الصادرة عن دار ماسبيرو الفرنسية الاثنان كانا يعملان سوياً في ال"يونيسكو". أما فكتور فلم يكن هناك ما ينم عن مصريته، بل بدا انه مثقف من الحي اللاتيني، أي مزيج من المفكر والمحتال. الشخصية الثالثة كانت هيلين فون بولوف، وهي سيدة تتقن ثلاث لغات وكانت تعمل في المجلة وقامت بمهمة ترجمة الندوة لسارتر. وأثار استغرابي وشيئاً من خيبة الأمل ان سارتر لم يعرف الألمانية أو الانكليزية، عللى رغم كتاباته عن الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر والكاتبين الأميركيين جون دوس باسوس ووليام فولكنر. وبقيت تلك السيدة الأنيقة الدمثة بجانب سارتر طوال يومي الندوة هامسة في اذنه بالترجمة الفورية، فقد دارت الندوة بالانكليزية عدا في حال فلسطيني من فيينا لم يعرف سوى العربية والألمانية. ولم اعرف مدى ما فهمه من سير الندوة، لكن الذي أثار الانزعاج لدي ولدى آخرين انه لم ينطق بكلمة واحدة طوال اليوم الأول. وكان هناك أيضاً ميشال كونتا، مفهرس مؤلفات سارتر، لكنه لم يشارك في الندوة.
أما الغداء، الذي تناولناه على الطريقة الفرنسية، فكان مناسبة رئيسية، وهو لم يستغرق نحو ساعة كما هي الحال في بلاد اخرى، فقد اخذنا منظمو الندوة بالتاكسيات الى مطعم بعيد نسبياً حيث تناولنا وجبة من أربعة ألوان من الطعام، في عملية استغرقت ثلاث ساعات ونصف ساعة - وبذلك كانت مناقشتنا لقضية "السلام" في اليوم الاول مختصرة الى حد ما. وقام فكتور بطرح مواد النقاش، من دون استشارة أي من المشاركين حسب علمي. وشعرت منذ البداية بأنه يعطي نفسه حرية مطلقة في التصرف التي ترجع جزئياً الى علاقته الخاصة بسارتر من ناحية كان يحادثه همساً بين حين وآخر، والى ثقته العالية بالنفس من ناحية اخرى، التي قد يعتبرها البعض غروراً. أما مواضيع النقاش التي اقترحها كانت كما يأتي: 1 قيمة معاهدة السلام بين مصر واسرائيل كانت تلك أيام كمب ديفيد. 2 السلام بين اسرائيل والعالم العربي عموماً. 3 ظروف التعايش الأعمق التي قد تظهر لاحقاً بين اسرائيل وجيرانها. ولم يرتح أي من الحضور العرب الى هذا الطرح، وكان السبب في حالتي اغفاله البعد الفلسطيني للقضية. كما لم يرتح دقاق للندوة عموماً وغادر بعد اليوم الأول. إذ أكد له المنظمون ان عدداً من المثقفين المصريين كان سيشارك في الندوة، وعندما لم يجدهم شعر بأنه لا يستطيع البقاء أكثر من نصف المدة.
مع انقضاء ذلك اليوم اكتشفت تدريجاً ان عقد الندوة جاء بعد الكثير من التفاوض، وان الأخذ والرد المسبقان اديا الى احراج المشاركين العرب وبالتالي الى تقليص حضورهم. وأزعجني الى حد ما عدم اشراكي في تلك المداولات، وتساءلت في نفسي ما اذا كنت ساذجاً في تلهفي في الاسراع الى باريس للقاء سارتر. وكان هناك كلام عن مشاركة إمانويل ليفيناس لكنه غاب عن الندوة تماماً مثل المصريين. خلال ذلك تم تسجيل كل مداولاتنا ونشر النص في عدد خاص من مجلة "الأزمنة الحديثة" أيلول 1979. النتيجة، كما رأيت، لم تكن مرضية، لأن الكل اكتفى بطرح المواقف المعتادة من دون العثور على أرضية مشتركة أو اكتشاف أمر جديد مثير للاهتمام.
منذ البداية كان افتراضي، في جزء منه، ان الفاعلية ستكون الى حد كبير "كلام في كلام". إلا أنني جئت لأن منظمها لم يكن هذا أو ذاك بل سارتر نفسه. لكني شعرت بخيبة أمل عميقة من سيمون دو بوفوار، وكانت في اي حال غادرت مبكرة بعد نحو ساعة من التصريحات الفارغة عن الاسلام والحجاب الخ... ولم آسف على ذهابها آنذاك، لكن اقتنعت لاحقاً بأن حضورها كان سيضفي حيوية على الندوة. أما حضور سارتر، اذا سميناه حضوراً، فقد كان غريباً في سلبيته وشحوبه وخلوّه من العاطفة، وبقي صامتاً تماماً ساعات بكاملها. اثناء الغداء جلس مقابلي وبدا عليه الضياع واستمر في تجنب الكلام، فيما أهمل فترات أطول مما يجب خليط البيض والمايونيز السائل على ذقنه. حاولت تجاذب الحديث معه لكن فشلت - ربما كان أصيب بالصمم، لكنني غير متأكد من ذلك. وبدا أنه نسخة باهتة مما كانه سابقاً، وان وجهه الشهير القبح وغليونه وملابسه القديمة المتهدلة كانت بمثابة لوازم لواحد من الممثلين تركها وراءه على مسرح مهجور. كنت وقتها أعمل بنشاط في المجال السياسي الفلسطيني، وأصبحت في 1977 عضواً في المجلس الوطني. وخلال زياراتي الكثيرة لبيروت في ذلك الحين وقت الحرب الأهلية لرؤية والدتي كنت التقي مع ياسر عرفات وغالبية القادة الفلسطينيين بانتظام. وفكرت في ان اقناع سارتر بالادلاء بتصريح لصالح الفلسطينيين سيكون انجازاً مهماً في تلك المرحلة اللاهبة من كفاحنا ضد اسرائيل.
شعرت خلال فترة الغداء ثم في جلسة بعد الظهر ان فكتور كان مثل ناظر محطة قطار، وأن سارتر واحداً من قطاراته. وأضافة الى همساتهما الغامضة على الطاولة كان الاثنان ينهضان احياناً، ويقود فكتور سارتر المسن المتعثر الى ركن من الصالون ويخاطبه بكلمات سريعة يرد عليها سارتر بين حين وآخر بهزة رأس، ثم يعودان الى الطاولة. خلال ذلك كان كل من المشاركين يريد الادلاء برأيه، ما لم يتح المجال لتطوير خط النقاش. واتضح لي ان الغرض الحقيقي للاجتماع كان تقوية اسرائيل ما يسمونه حالياً "التطبيع" وليس الفلسطينيين أو العرب. ووجدت نفسي في الموقف نفسه للكثيرين من العرب حسني النية قبلي، الذين اعتقدوا بأن من المفيد محاولة اقناع مثقف عظيم الأهمية مثل سارتر وعدد من أمثاله وتحويله الى صديق للقضية مثل أرنولد توينبي أو شون مكبرايد. لكن لم يكن هناك تجاوب يذكر. واعتقدت ان سارتر يستحق الجهد بسبب موقفه من الجزائر، الذي لا بد انه كان أصعب عليه، بصفته فرنسياً، من اتخاذ موقف من اسرائيل. وكنت بالطبع مخطئاً.
في مرحلة من مراحل ذلك النقاش البائخ والعقيم وجدتني أذكّر نفسي بأنني جئت الى باريس لسماع سارتر، وليس لأشخاص أعرف آراءهم مسبقاً ولا أجد فيها ما يستحق الاهتمام. هكذا، في بداية المساء، قطعت النقاش بشيء من الحدة، مصراً على سماع رأي سارتر فوراً. وأزعج ذلك أفراد حاشيته، وتوقف النقاش لكي يبحثوا في الطلب. ووجدت ذلك مضحكاً ومؤسفاً، لأن سارتر نفسه لم يتدخل في جدلهم حول مشاركته في الندوة! في النهاية طلبوا منا العودة الى الطاولة، حيث أعلن فكتور - الذي لم يخف انزعاجه - بلهجة امبراطورية فخمة: "غداً يتكلم سارتر!". هكذا انتهت ندوة اليوم الأول، وغادرنا لكي نعود صباح اليوم التالي لنسمع كلمات المثقف العظيم.
في صباح اليوم الثاني من الندوة تسلمنا فعلاً رأي سارتر، الذي جاء على شكل نص مكتوب من صفحتين اقتصر - حسب ذاكرتي بعد عشرين سنة - على مديح لشجاعة أنور السادات، وذلك في صيغة بالغة الابتذال والسخف. لا اتذكر انه قال الكثير عن الفلسطينيين أو الأرض او الماضي المأسوي. كما انه بالتأكيد لم يذكر شيئاً عن الكولونيالية الاستيطانية الاسرائيلية، المشابهة في وجوه كثيرة لمارسات فرنسا في الجزائر. باختصار، التصريح كان مساوياً في سطحيته لتقرير اخباري عادي من وكالة رويتر! الواضح ان كاتبه كان السيء الصيت فكتور، الذي بدا وانه يسيطر تماماً على سارتر، بهدف تخليص الفيلسوف من الورطة. الحقيقة انني فجعت بالتقرير، فهذا هو المثقف المشهود وقد انصاع في آخر عمره الى "ناصح" رجعي مثل فكتور، الى درجة انه لا يجد ازاء فلسطين، القضية الملحة اخلاقياً وسياسياً في شكل لا يقل عن فيتنام أو الجزائر، غير تعابير صحافية مبتذلة يمتدح فيها زعيماً مصرياً كان قد نال ما يكفي ويزيد من المديح. بعد تصريحه هذا عاد سارتر الى الصمت، فيما عدنا الى نقاشنا العقيم.
الجدير بالملاحظة ان تقرير سارتر، كما يبدو، حذف من محضر الندوة كما ورد في العدد الخاص من "الأزمنةالحديثة". لم اعرف السبب ولم احاول اكتشافه. كل ما اعرفه هو انني، على رغم احتفاظي الى الآن بذلك العدد، لم أستطع ان اقرأ سوى مقاطع قليلة منه بسبب ما يبدو لي الآن من تفاهة النص. هكذا ذهبت الى باريس لسماع سارتر، بهدف يشابه دعوته الى زيارة القاهرة لكي يراه ويحادثه المثقفون العرب - وبالنتيجة نفسها، مع فارق ان لقائي مع سارتر تلون بل تلوث بوجود ذلك الوسيط الكريه، بيار فكتور، الذي اختفى بعد ذلك وطواه النسيان الذي يستحق. وكنت فكرت وقتها في ان فشلي وخيبة أملي من اللقاء يشابهان ما لقيه فابريس، بطل رواية ستندال الشهيرة، عندما كان يبحث عن معركة واترلو.
هامش اضافي: قبل اسابيع استمعت الى حلقة أعيد بثها في أميركا من برنامج "بويون دو كولتور" الثقافي الفرنسي الذي يقدمه على التلفزيون اسبوعياً برنار بيفو. الموضوع كان العودة التدريجية لمكانة سارتر بعد موته، على رغم استمرار الانتقاد لخطاياه السياسية. من المشاركين برنار هنري ليفي، الأبعد ما يكون عن سارتر من حيث المستوى الذهني او الشجاعة السياسية، الذي كان يحاول تسويق كتابه الجديد، الأيجابي كما يبدو، عن الفيلسوف الراحل. اعترف انني لم اقرأه ولا أنوي قراءته قريباً. وقال ليفي بلهجة التعالي السمج ان سارتر لم يكن سيئاً تماماً، اذ كان له الكثير من المواقف المثيرة للاعجاب والصحيحة سياسياً. جاء ذلك في سياق محاولة ليفي موازنة انتقاد لسارتر كرره في اصرار مقرف بول جونسون واعتبره ليفي محقاً، على انه كان مخطئاً دوماً في ما يخص الشيوعية. قال ليفي: "مثلاً، ان سجل سارتر تجاه اسرائيل كان صافياً تماماً، انه لم ينحرف ابداً وبقي مؤيداً كاملا للدولة اليهودية". التعبير "سجل سارتر تجاه اسرائيل كان صافياً تماماً" ترجمة حرفية لكلامه.
الواقع ان سارتر بقي محافظاً على تأييده العميق للصهيونية، بدوافع لا يمكن التأكد منها حتى الآن. ولا اعتقد انني سأعرف أبداً اذا كان السبب خوفه من تهمة العداء للسامية، أم شعوره بالذنب بعد المحرقة، أم عدم سماحه لنفسه بتفهم الفلسطينيين كضحايا لظلم اسرائيل ومكافحين ضد ذلك الظلم، أو غير ذلك من أسباب. كل ما اعرفه انه عندما تقدم كثيراً في السن اصبح مثلما كان في سن أصغر قليلاً: أي موضع خيبة أمل مريرة لكل عربي عدا الجزائريين أعجب بحق بمواقفه واعماله الأخرى. والمؤكد ان موقف برتراند راسل كان أفضل من سارتر، واتخذ في سنواته الأخيرة موقفاً انتقادياً الى حد كبير لسياسة اسرائيل تجاه العرب رغم انه كان آنذاك تحت تأثير - أو تضليل، حسب البعض - رالف شونمان، زميلي الدراسي السابق في جامعة برنستون، وصديقي السابق أيضاً. واعتقد اننا بحاجة الى ان نفهم السبب في سقوط العظماء عند تقدمهم في السن في احابيل من هم أصغر منهم سناً، أو في تحجر آرائهم السياسية لكي تستعصي على التعديل. انه مشهد محزن، لكن هذه هي الحال مع سارتر. وفيما عدا الجزائر، فإنه لم يتأثر الى حد يذكر بعدالة قضية العرب، ولا اعرف اذا كان السبب في كليته هو اسرائيل، أم انه نتيجة برود عاطفي يعود لاسباب ثقافية أو ربما دينية. وكان في ذلك على النقيض من صديقه المعبود جان جينيه، الذي عبّر عن حبه الغريب للفلسطينيين بالاقامة زمناً بينهم ثم كتب "أربع ساعات في صبرا وشاتيلا" و"الأسير العاشق".
مات سارتر بعد سنة على لقائنا القصير المخيب للأمل. واتذكر حزني الشديد لغيابه.
* استاذ الانكليزية والادب المقارن في جامعة كولومبيا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.