من المفارقات العجيبة ان اسرائيل التي ألحقت بلبنان وشعبه خسائر بشرية ومادية فادحة باعتداءاتها المتكررة على مدى العقدين الماضيين، اشتكت الى الاممالمتحدة امس من ان شباناً لبنانيين قذفوا جنودها عند الحدود بقوارير زجاجية فارغة! والواقع ان من المذهل رؤية رجال حزب الله وغيرهم من شبان الجنوباللبناني واقفين عند السياج الحدودي باعتزاز وهم يعيّرون الجنود في الجانب الآخر لهربهم. ذلك انه حتى الاسبوع الماضي ما كان من الممكن ان تنتهي أي مواجهة مباشرة بين الطرفين إلا بإطلاق النار. أما الآن فقد زال مصطلح "الشريط الأمني" مادياً، وانهارت ميليشيا "جيش لبنانالجنوبي"، اذ تركها الاسرائيليون لمصيرها المحتوم نتيجة تسترهم على موعد انسحابهم قبل اكثر من 40 يوماً من التاريخ المعلن للانسحاب من جانب واحد من جنوبلبنان. هذا الهدوء الذي يسود منطقة الحدود اللبنانية - الاسرائيلية من المرجح ان يستمر في المدى القصير لأن لدى الأطراف المعنية اسباباً موجبة للحفاظ عليه، على الأقل من الآن الى ان يطرأ تبديل أو خلل على المعادلة الجديدة، وهو أمر لا يمكن استبعاده ابداً. من ناحية سورية قال وزير الخارجية السيد فاروق الشرع مساء الخميس مشيراً الى الوضع في الجنوباللبناني: "قلنا مرات عدة اننا ضد التصعيد، واذا حدث شيء فإن سورية ولبنان لن يكونا مسؤولين عن ذلك لأن سببه سيكون الاستفزاز من الاسرائيليين". أما الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله فقد "اقترح" في مقابلة اجرتها معه الزميلة مجلة "الوسط" في عددها الذي يصدر بعد غد الاثنين ان تنسحب اسرائيل من منطقة مزارع شبعا، وقال: "اقتراحي هو انسحاب اسرائيل من مزارع شبعا ايضاً. لا اعتقد ان احداً تبقى لديه حجة بهذه الحيثية عندما نقول لم تعد هناك أرض لبنانية محتلة ... وعندها إذا أراد احد ان يقاتل اسرائيل لن يقاتلها بالاعتبار اللبناني، بل سيتحدث بلغة ثانية، موضوع فلسطيني أو غيره، يقاتل أو لا يقاتل، تذهب الأمور الى مكان آخر". ان خطة اسرائيل واضحة وهي تقوم على استصدار شهادة من الاممالمتحدة بأنها نفذت قرار مجلس الأمن الرقم 425 بحذافيره تنفيذاً تاماً بانسحابها الى الحدود الدولية وعدم الدخول في أراضي لبنان أو مجاله الجوي أو مياهه الاقليمية، لتستطيع عندئذ إلقاء اللوم على سورية ولبنان اذا وقع عليها أي هجوم مصدره لبنان. وقد اكثرت اسرائيل من تهديداتها في هذا السياق وأعلن رئيس أركانها شاؤول موفاز ان لديه قائمة اهداف تمثل مصالح سورية ولبنانية ستضرب اذا حدث هجوم من لبنان بعد الانسحاب. ولم تكن اسرائيل وحدها التي اصدرت تهديدات، فقد انضم اليها نائب الرئيس الاميركي آل غور. ولكن اذا كانت جبهة الجنوباللبناني قد اغلقت - أو تكاد، اذ ما زالت هناك مشكلة شبعا - فإن ثمة جبهتين تظلان مفتوحتين بين اسرائيل والعرب هما الجبهتان الفلسطينية والسورية. واذا كانت سورية تتصرف الآن بكل مسؤولية وانضباط لإبقاء الوضع هادئاً في الجنوباللبناني أملاً في ان تتجدد في الاسابيع أو الأشهر المقبلة مفاوضاتها مع اسرائيل بشأن الجولان، فإن صبرها قد ينفد إزاء جرجرة حكومة باراك أقدامها بشأن تنفيذ قرار آخر لمجلس الأمن هو القرار 242 الذي ينطبق على الجولان والضفة الغربية وقطاع غزة. اما على الصعيد الفلسطيني فقد اعرب الناس عن غضبهم وإحباطهم في الذكرى ال52 للنكبة ازاء عملية سلام لا يبدو الاسرائيليون جادين فيها ولا يعرضون سوى تقطيع أوصال الضفة الغربية وإبقاء تلك الأوصال مطوقة باحتلالهم. واذا استمرت هذه الحال فإن الهدوء سينقطع وينتهي لأن العرب استوعبوا الدرس المستخلص من نصر المقاومة في الجنوباللبناني. واذا كانت اسرائيل قد سعت الى عدم ترك اي حجة لأحد في لبنان لضربها بتنفيذها القرار 425 بحذافيره، فإن على سورية والفلسطينيين ان يعبئوا الرأي العربي والعالمي وراء عدم ترك أي عذر لاسرائيل في تهربها من تنفيذ القرار 242 والقرارات المتعلقة بالقدس واللاجئين الفلسطينيين.