فجأة، بدت مزارع شبعا، اللبنانية المحتلة، وقد فرضت نفسها على أروقة الدبلوماسية الناشطة بين واشنطن وباريس، وصولاً إلى تل أبيب وبيروت. والسؤال هو: ما الذي تغيّر لتستعيد القضية هذا الزخم؟ قد يقول قائل إن إدارة الرئيس الأميركي جورج بوش، التي ستودع بعد شهور البيت الأبيض، ترغب في تحقيق نجاح دبلوماسي يسجله لها التاريخ، وقد تكون مزارع شبعا سبيلاً لذلك. ومثل هذا التحليل يحتمل الصحة على أية حال، أو على الأقل يصعب استبعاده. وثمة احتمال آخر هو أن العواصم الأوروبية، التي تحتفظ بعدد كبير نسبياً من الجنود في جنوب لبنان، أرادت الوصول إلى تسوية سياسية لقضية مزارع شبعا، وذلك من أجل تأمين ظهر جنودها من خطر انزلاقات أمنية قد يجلبها استمرار هذه القضية على حالها الراهن. الاحتمال الثالث، يرتبط بإسرائيل، ومفاده أن البيئة الداخلية المحتقنة في تل أبيب تمثل عامل دفع لرئيس الوزراء الإسرائيلي أيهود أولمرت للبحث عن كسب سياسي أو دبلوماسي معين، وربما تكون البوابة اللبنانية مدخلاً متاحاً له. أخيراً، فإن العامل اللبناني نفسه قد يكون القوة المحركة لقضية مزارع شبعا، أي أن المجتمع الدولي وجد في الهدوء النسبي، الذي أعقب انتخاب العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، مناخاً مناسباً للتحرك الدبلوماسي باتجاه حل مزارع شبعا، الأمر الذي سيفضي في حال نجاحه إلى تكريس هذا الهدوء وتعميقه. وبطبيعة الحال، قد تكون الأسباب الأربعة مجتمعة هي التي شكلت قوة الدفع، ليكون دفعاً رباعياً، على طريق تسوية أزمة مضت عليها عقودٌ أربعة. وبعد ذلك، علينا الانتقال من الإطار إلى حيث الجوهر، ومن النوايا المجردة إلى ماهية الفعل الذي يُعيد الأرض، ولا يمس بالسيادة أو ينتقص من الحقوق. وهذا ما سنحاول الوقوف عنده في التالي من السطور، لكننا سنتوقف قبل ذلك عند تعريف موجز بقضية مزارع شبعا. تقع مزارع شبعا في منطقة العرقوب في أقصى الجهة الجنوبية - الشرقية من لبنان، على مثلث الحدود اللبنانية - السورية - الفلسطينية، وهي تتربع على سفوح وأعالي قمم جبل الشيخ الجنوبيةالغربية. ويزيد عدد سكان المنطقة على 56ألف نسمة، وتتبع إداريا لقضاء حاصبيا اللبناني. وعدد المزارع المعنية بالتسمية هو أربع عشرة مزرعة، تبلغ مساحتها الإجمالية 200كيلومتر مربع. وحسب المراجع ذات الصلة، فإن هذه المنطقة تشكل المصدر المائي لمعظم روافد نهر الأردن (بانياس، اللدان والوزاني)، ويجري نهر الحاصباني في ناحيتها الجنوبية، وتختزن في باطنها الكميات الكبيرة من المياه المتولدة من ثلوج جبل الشيخ. ومن الناحية العسكرية، فإن التحكم بمنطقة مزارع شبعا يتيح كشف كامل القطاع الشرقي للجنوب اللبناني، فضلاً عن مناطق الجليل الأعلى وهضبة الجولان. وحسب بعض التقديرات، فإن مرصد "الفوار" العسكري الإسرائيلي، الواقع في أعالي قمة "الزلقا" ضمن المنطقة اللبنانية المحتلة، يُعد من أكثر المراصد العسكرية تطوّراً في الشرق الأوسط، كما تعد هذه القمة (2669م) ثاني أعلى قمة في جبل الشيخ. وقد احتلت إسرائيل القسم الأكبر من مزارع شبعا في عدوان حزيران يونيو 1967واستكملت احتلالها للمزارع في مراحل لاحقة، كانت إحدى محطاتها في العام 1973.وهنا تبرز إشكالية قانونية، مفادها أن قرار مجلس الأمن الدولي الرقم (242)، الصادر في 22تشرين الثاني نوفمبر 1967، لا يمكن اعتماده في تسوية قضية مزارع شبعا، ذلك أن هذا القرار عني بالآثار المترتبة على عدوان حزيران، وهو قد نص تحديداً على "انسحاب القوات المسلحة الإسرائيلية من الأراضي التي احتلتها في نزاع 1967". وعليه، يكون المرجع القانوني الذي يجب الاستناد إليه هو القرار الرقم ( 425)، الصادر عن مجلس الأمن الدولي في 19آذار مارس من العام 1978، إثر العدوان الإسرائيلي على الأراضي اللبنانية، الذي عرف بعملية الليطاني. لقد نص هذا القرار في فقرته الأولى على "احترام سلامة لبنان الإقليمية وسيادته واستقلاله السياسي داخل حدوده المعترف بها دوليا". ودعا في فقرته الثانية إسرائيل إلى "التوقف فوراً عن عملياتها العسكرية ضد سلامة لبنان الإقليمية، وسحب جميع قواتها من الأراضي اللبنانية". وهكذا، لم يحدد القرار الرقم (425) الأراضي التي احتلت في العام 1978، بل دعا للانسحاب الإسرائيلي حتى الحدود الدولية.ومن هنا، فهو يشمل بصورة لا تقبل التأويل مزارع شبعا، باعتبارها مناطق لبنانية محتلة.وعليه، فإن انسحاب القوات الإسرائيلية من غالبية أراضي الجنوب اللبناني في العام 2000لم يمثل تطبيقاً كاملاً للقرار الرقم ( 425). وعلى الرغم من ذلك، فإن إسرائيل التي تدرك طبيعة خرقها الفاضح للقانون الدولي، قد عمدت إلى ربط انسحابها من مزارع شبعا بتطبيق القرار الرقم ( 242)، في عملية خداع وتضليل واسعة النطاق للرأي العام العالمي. وهي قد نجحت في تسويق مزاعمها لدى الأممالمتحدة، وهذا ما ظهر في تقرير الأمين العام (السابق) للأمم المتحدة كوفي أنان، الصادر في 22أيار مايو من العام 2000، حول الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان، حيث جاء في التقرير: "وجدير بالملاحظة أن هذه المناطق (مزارع شبعا) تقع في منطقة تحتلها إسرائيل منذ العام 1967وتخضع بناء على ذلك إلى قراري مجلس الأمن 242و338". وهنا، مثل التقرير نجاحاً كبيراً لإسرائيل. وفي كافة تحركاتها، لم تستند إسرائيل في ربط مزارع شبعا بالقرار ( 242) لكونها احتلت في العام 1967وحسب، بل جاء ذلك على خلفية التشكيك بتبعيتها للأراضي اللبنانية، وهو تشكيك يُفنده كمٌ كبيرٌ من الوثائق التاريخية، كما تفنده روايات الناس الذين شهدوا عدوان حزيران، وعاشوا قبل ذلك السنين السابقة له في ظل سيادة لبنانية تؤكدها وقائع الحياة اليومية.والحقيقة، فإن القول بعدم ملكية لبنان لمزارع شبعا هو قول مُسيّس ومجحف على نحو تام وصريح. إن استمرار إسرائيل في احتلال مزارع شبعا لا يمثل انتهاكاً للقرار ( 425) وحسب، بل كذلك للقرار ( 1701)، الصادر في 12آب أغسطس 2006، الذي أنهت بموجبه القوات الإسرائيلية عدوان ال 33يوماً على لبنان، فقد نصت الفقرة التنفيذية رقم ( 5) من القرار على أن مجلس الأمن الدولي "يجدد أيضاً دعمه القوي، كما ذكر في جميع قراراته السابقة ذات الصلة، لسلامة أراضي لبنان، وسيادته واستقلاله السياسي، ضمن حدوده المعترف بها دوليا، كما هو منصوص عليه في اتفاق الهدنة العام بين لبنان وإسرائيل في 23آذار مارس 1949". كذلك، طالبت الفقرة التنفيذية رقم ( 10) الأمين العام للأمم المتحدة بالعمل على ترسيم حدود لبنان بالتنسيق مع فاعلين دوليين أساسيين، والأطراف المعنية، "خصوصا في تلك المناطق حيث هناك نزاع أو التباس، بما في ذلك معالجة مسألة مزارع شبعا". بيد أن الفقرتين سابقتي الذكر لم يجر التداول الجدي بشأنهما، والسبب هو أن إسرائيل لا تريد التنازل عن مغانمها في أراضي لبنان ومياهه. وقد أوقف خبراء الأممالمتحدة المنتدبين لدراسة حدود مزارع شبعا أعمالهم بفعل العراقيل والضغوط الإسرائيلية، إذ كان هؤلاء الخبراء يتجهون، وفقاً للعديد من التقارير، إلى الإعلان رسمياً عن موقف دولي يؤكد ملكية لبنان لهذه المزارع. والحقيقة، أن ما حدث لا يخدم مصداقية الأممالمتحدة لدى الرأي العام اللبناني والعربي، خاصة وأن جامعة الدول العربية قد أكدت، في عدد من بياناتها المجمع عليها، على حق لبنان الثابت في هذه المزارع وضرورة انسحاب إسرائيل غير المشروط منها. إن الجهود الدبلوماسية الراهنة لحل قضية مزارع شبعا لا بد من الترحيب بها إذا كانت ستقود لاستعادة لبنان لأراضيه المحتلة. وعلى الرغم من ذلك، لا بد من توخي الحذر من الشراك التي قد تنصب في مسار هذه الجهود. وإذا كانت ثمة فرصة للجهود الدبلوماسية، فإن الدول العربية معنية بالدخول على خط هذه الجهود لدعم الموقف اللبناني والتأكيد على حقوقه الوطنية. وعلى جامعة الدول العربية أن تستنفد من أجل هذا الهدف إمكاناتها وعلاقاتها بالأسرة الدولية. كذلك، فإن كافة الدول العربية معنية بهذا الأمر بصورة منفردة، وحيث تتوفر لكل إمكاناته وخبراته الخاصة. إن إسرائيل تواجه لبنان بآلة دبلوماسية وإعلامية عاتية، لديها قدر كبير من الروافد والارتباطات في شتى أنحاء العالم، وهي قد تمكنت على مدى سنوات من إثارة الكثير من الغبار والتشكيك في حقوق لبنان ومطالبه المشروعة، فيما كان هذا الأخير يتحرك وحيداً في بيئة دولية غير مؤاتية. إن الدول العربية يجب أن تؤكد دعمها للجهد اللبناني، وعليها أن تحول دون المساومة على حقوقه، وأن تقف حاجزاً في وجه كل ما من شأنه ألمس بوحدته الوطنية واستقراره الداخلي.وهي معنية كذلك بدعم مقومات نهوضه ورفد خطط تنميته الاقتصادية والاجتماعية، لأن في ذلك ترسيخاً لأمنه واستقراره، الذي هو أمن واستقرار كل العرب.