خلفت المنازعات اللبنانية والعربية في المقالات السياسية التي تتناول الوقائع والحوادث، السياسية والاجتماعية والحقوقية والاقتصادية، ميلاً الى تناول الوقائع والحوادث، وصفاً وتأويلاً وتعليلاً، من طريق الإشارة والإيماء. ولا ينفع البيانات السياسية، في المنعطفات التاريخية أو فيما يظن فيه وشك الانعطاف التاريخي، سبقُ السوابق الى الدلالة على ما ينتظر وقوعه، ويرجح وقوعه، ويدعو الانتظار والترجيح تالياً الى استباق الوقع، والتحذير منه أو الترحيب به - لا ينفع السبق هذا البيانات السياسية وهي تنسج على مثال المقالات، ما يعينها على ترك الإشارة والإيماء الى التصريح. وقد لا ينفعها كذلك دهمُ الحوادث الآتية والمخوفة الحاضر الكئيب والتاعس، فيقيم أصحاب البيانات على الالتباس والاشتباه حتى وهم يحسبون أنهم يتصدون لقول فصل في حادثة جلل. ومن يقرأ ما سماه موقعوه وأصحابه "بيان التحرير" "النهار" اللبنانية في 18 أيار/ مايو، ويبدو أن من كتبوه عينهم على بيان الكولونيل ديغول في 18 حزيران يونيو 1940 من لندن وسمعهم على نفير الدعوة الى المقاومة - على رغم وقوع وقتي النداء الديغولي و"بيان التحرير" على طرفي ابتداء وختام - يقع على مثال أخير من مقالات الالتباس الشائعة. وما كان الأمر ليستوقف التعليق أو الرأي لولا وشاية إنشاء البيان بإرادة تسمية الأشياء بأسمائها، ثم خيانة البيان الفعلي هذه الإرادة عينها، وامتثاله، من غير أن يغادر الخطابة الحزيرانية الديغولية، لدواعي الالتباس والإيماء. والحق أن مزيج الشجاعة والامتثال، والإغضاء، بينما الوقت وقت فعل سياسي ودعوة الى الفعل، على ما تنم صيغة البيان وينم التوسل بها، يبعث على السؤال المتجدد عن علاقة بعض المثقفين بالسياسة، اعتقاداً وتبعات، من وجه أول، وأطواراً وصوراً وتاريخاً، من وجه آخر. ولعل أول إغضاء ينبئ قارئ البيان والقارئ يكني عن كاتب التعليق هو تركه إدراج الحادثة المتوقعة، وهي جلاء القوات الاسرائيلية المحتلة عن آخر الأراضي اللبنانية التي تحتلها، في حوادث جلاء سابقة تشبهها، من هذا الوجه، ونجم عنها ما قد ينفع التذكير به، ويُخاف تكراره وتجدده، ويخافه أصحاب "بيان التحرير". فالقوات الاسرائيلية جلت عن بيروت في تشرين الأول اكتوبر 1982، وعن مدخل بيروتالجنوبي في الشهر التالي" وأخلت جنوب جبل لبنان في أواخر صيف 1983 الى نهر الأولي" ثم انكفأت، في شتاء 1985، عن صيدا الى "الشريط" أو "دولة لبنان الحر"، وضمت الى "الدولة" أراضي، وسكاناً، الى الجنوب الشرقي من صيدا جزين وقراها والى الشمال الشرقي من قضاء حاصبيا في البقاع الغربي. وسبق انسحاب قوات "جيش لبنانالجنوبي" من معظم بلاد جزين، قبل سنة تامة من اليوم، انسحاب هذه القوات من أرنون ثم عودتها عن انسحابها بعد إخفاق ما بدا مفاوضة من طريق الأعمال الميدانية، السياسية والعسكرية، في شتاء 1999. وخلفت هذه الانسحابات كلها، على أنحاء مختلفة، اضطرابات بعضها أدى الى أعمال "تطهير طائفي" في 1983، سبقت "البطولات" العرقية، الصربية والكرواتية في البوسنة، بنحو عقد من السنين. أما آخرها، وأقربها زمناً، فلم يؤدِّ، الى اليوم، "إلا" الى نكوص الدولة اللبنانية، ولا سيما مرافق السيادة الوطنية، عن القيام بتبعات هذه السيادة وأولها مرابطة القوات العسكرية بإزاء العدو وقواته. وفي أثناء السنة المنصرمة على جلاء قوات "الجنوبي" عن معظم بلاد جزين لم تملأ لا قوات "حزب الله" العسكرية، ولا ملأت قوات فلسطينية إسلامية أو موالية للسياسة السورية "الفراغ" المفترض، وهو الذريعة الثابتة للأعمال العسكرية والفلسطينية على القوات والأراضي الاسرائيلية، وهو كذلك الذريعة الملازمة الى اضطرابات أهلية مؤداها الفعلي اقتصاص المنظمات العسكرية والأمنية العروبية من الأهالي المحليين، مسيحيين بالمرتبة الأولى ومسلمين. ولكن تعليق الحال، ببلاد جزين، في ميزان السيادة، يعني احتمال اضطرابها، ويلوح بإطلاق يد من ترتأي السياسة السورية إطلاق يده في البلاد هذه وأهلها. ولا ينبئ سقوط بعض القذائف القليلة "المجهولة" المصدر على مواضع من بلاد جزين، ولا ينبئ الحاجز الأمني بين المنطقة المحررة الجديدة وبين جوارها، ولا حق الصولة والجولة الذي يتمتع به "مدنيون" من منظمات عسكرية وأمنية على الأهالي والصحافيين والمصورين، لا تنبئ هذه كلها بسياسة "وطنية" متماسكة ومطمئنة تعتزم الدولة اللبنانية، ومن تتولاهم، انتهاجها في الأراضي الاقليمية الموشكة على التحرر. وحين تطمئن ألسنة الدولة المأذونة اللبنانيين الى أن سياستها الأراضي المستقبلة الجلاء الاسرائيلي هي عين السياسة التي ساست بها بلاد جزين، وأهالي جزين، فلا عجب إذا انقلبت الطمأنة باعثاً حاداً على القلق والحصر. وليس أضعف بعثاً على القلق والحصر تذكر ما جرى بأرنون ولأرنون: فيومها رفض من يتولاهم "حزب الله"، ويصدرون عنه، مقايضة انسحاب قوة "الجنوبي" بالإقلاع عن استعمال أرنون المَخْلية في العمليات العسكرية على ما يُفترض في "تفاهم نيسان" إلزام "الجماعة اللبنانية المسلحة" به لقاء إلزامه القوات الاسرائيية بالحيدة عن المدنيين. وهذا كله، ووقائعه وحوادثه الكثيرة، يشيح البيان الرقيق والعاطفي النظر اليه أو الاعتبار به. فيرحب "بحدث التحرير المنتظر ترحيباً جماعياً صافياً"، ويدعو الى "المباراة" في "الاحتفال" به "سنوياً"، وينسب الترحيب والاحتفال الى "إجماع وطني عام" على الحادثة. ولا يخرج هذا الكلام عن الاحتذاء على الخطابة الرسمية، وشجاعتها وصراحتها، حين يقر قرارها على التزام جانب "الدولة" اللائق بدولة من جبلة الدول العادية والمعروفة. ويخلط الكلام هذا موقفين أو رأيين لا يجمع بينهما شيء. فيحسب أن تحفظ السياسة الرسمية عن جلاء القوات الاسرائيلية المحتلة من غير مفاوضة اسرائيلية وسورية هو نفسه تحفظ اللبنانيين عن جلاء قد يفتح الباب أمام "اضطرابات"، لم يكتم السيد بشار الأسد توقعه وقوعها غداة الجلاء الاسرائيلي "المنفرد" أو "الأحادي الجانب". ووجها التحفظ مختلفان. والداعي الى كل منهما مختلف. فخلطهما، بذريعة إنكار التطرف من كلا جهتيه ومصدريه، غير جائز ولا مجدٍ. وهو لا يوفر للبيان وأصحابه إلا حياداً أجوف ووطنية مفارقة، على غير المعنى المثقف. ولا يداوي هذا الخلط رهبة الراجعين الى حضانة وطنهم ودولتهم، ولا يضعف إرادة "المحررين" المفترضين الاقتصاص من الخائفين قصاص المُثلة والاعتبار والانتصار. والتستر على احتمال إفضاء الجلاء الاسرائيلي - والتحرر من الاحتلال هو وجهه اللبناني الخالص و"القطري" ولكنه ليس وجهه السياسي السوري و"القومي"، على حساب آخر - الى "الفراغ" العتيد، و"الاضطرابات"، و"الرد" الاسرائيلي الذي يخيف به وزير الخارجية الاسرائيلي و"الاعلام" التلفزيوني اللبناني! أطفال اللبنانيين، هذا التستر إسهام متواضع في إقرار سياسة التعليق السورية واللبنانية على تعليقها. وهذه السياسة هي السبب في جنوح الخائفين الى الحماية الاسرائيلية والتحفظ عن الجلاء، وهي السبب في إقامة "حزب الله" والمنظمات الفلسطينية الاسلامية أو الموالية للسياسة السورية على حال التهديد والتخويف التي يقيم الحزب والمنظمات عليها. واستبدال النظر الى الأمور على ما تنطوي عليه من البشاعة والعسر بالابتهاج والفرح، والمباراة فيهما، نهج يبدو صدوره عن متعلمين وكاتبين ومهنيين ومدرسين مدعاة عجب. وكانت رغبة أصحاب البيان في استبعاد طيف الحوادث الماضية، وفي تبديد هذا الطيف، عذراً مقنعاً لو لم تتم خطابة البيان، وطريقته في الاحتجاج، بثوابت المقالات السياسية التي خلفها تناول الوقائع والحوادث اللبنانية والاقليمية والدولية على وجهي التنصل والحياد. فبعد صرف المتطرفين من الجهتين والحزبين، وكأن تطرفهم هو ثمرة خروج متكافئ على إجماع مستقر وثابت ومعروف، وبعد إغفال استقرار الحزبين "المتطرفين" على أصحاب التحرير "الشرعيين" وهم مقاتلو "حزب الله" بالمرتبة الأولى وعلى "المتحرَّرين" الخائفين، يتناول البيان بالاسم، وليس تورية على جاري خطابته في كل المواضع الأخرى من غير استثناء، مناط الانقسام اللبناني الأول، اليوم، وهو السياسة السورية في لبنان وسوسها لبنان على الطريقة التي تسوسه عليها. فيعمد أصحاب البيان الى التنصل من "الخطابين السياسيين المتراوحين بين حدي الاستعداء لسورية والاستتباع لها"، ويدعو الى الحيدة بينهما و"تجاوزهما" صوب "منطق للمصلحة اللبنانية العليا". ويسترجع البيان التعليل العروبي، الفلسطيني ثم السوري وقبلهما الناصري المصري، للأزمة اللبنانية المتطاولة، ولو على بعض الاعتدال قياساً بخطاب القسم الرئاسي قبل سنة ونصف السنة. فهو يكتب "سورية" حيث المعنى هو السياسة السورية التي ينتهجها منذ بعض الوقت طاقم حاكم، وحزب حاكم انفرد بالدولة ومرافقها وأجهزتها، وعلا المجتمع على قدر أقل وأدخله تحت منظماته. وتجريد هذه السياسة، واختصار سورية، شعباً ومجتمعاً ودولة، فيها، تعسف خطابي وبياني يسلِّم بالتعسف السياسي الذي يستند اليه زعم الحزب - الدولة الحاكم في نفسه وفي دوره وشرعيته. ويحمل هذا التسليم وهو ثمرة مرّة من ثمرات الربع الأخير من القرن، أصحاب البيان على نصب السياسة السورية، أو "سورية" على زعمهم وزعم أصحاب هذه السياسة، أصلاً أو ركناً ومعياراً يحتكمون إليه في تناول أحوال لبنان واللبنانيين، ويريدون إلجاء اللبنانيين كلهم الى الاحتكام اليه في تناول أحوالهم وعلاجها. فلا سبيل، على هذا، الى التداول في شأن لبناني، والى معالجته تالياً، إلا "تجاوز الخطابين السياسيين المتطرفين"، وتقديم هذا القربان الدامي الى وثن عصبي لا يشبعه التهام الوقائع والحوادث، ولا التهام أهلها وناسها وبشرها "الى الأبد"، على قول مأثور. وحملُ السياسة السورية على أصل أو ركن يبنى عليه "منطق المصلحة الوطنية اللبنانية العليا" يبطل الدعوة الى "جلاء معطى السيادة ومعطى الاستقلال"، على ما يذهب اليه البيان من بعد، ويحيل "مضمون العروبة الديموقراطية الرحبة المنفتحة" سراباً من السرابات الكسولة التي تغشى أهل "الخبز والحشيش والقمر". فمثل هذا الحمل، ولو صيغ ايجابه بألفاظ لطيفة، ينكر قوة مجتمع لبناني، ودولة لبنانية، وقوة حياة اللبنانيين، على القيام بنفسها وتدبير شؤونها وأمورها عن أيدي لبنانيين أحرار ندبوا الى هذا التدبير ومعنى هذا الإنكار هو المَشَاهد اللبنانية منذ ربع قرن "سوري" مضى. ويترتب على الإنكار، بدوره، استنتاج التاريخ اللبناني من موقف اللبنانيين بإزاء "سورية" - وقطب الموقف الآخر هو اسرائيل وسياساتها، على ما ذهب اليه خطاب القسم الرئاسي متوجاً مصادرة سورية وعروبية على التاريخ اللبناني، وعلى التاريخ السوري الحقيقي، لازمت نشأة ما يسمى الفكرة العربية قبل نيف وقرن. فتنتهي المصادرة الى الغفلة المدمرة عن وجود لبنان الثابت بين "سورية"، وهي اسم لمسمى سياسي وعصبي وعسكري وأمني موقت، وبين الدولة العبرية. ولبنان هذا - لبنان تاريخ اللبنانيين واجتماعهم وسعيهم الكثير الوجوه والمنازع والمعاني، منذ انعقاده على وحدة الدولة ورسو المنازعات والخلافات اللبنانية على هذه الوحدة - هو الأصل الذي يقضي في "الخطابات" السياسية اللبنانية، اعتدالاً وتطرفاً، وليس فرعاً على أصل "قومي" يحل تارة في "فلسطين" أي في المنظمات السياسية المسلحة وتارة في "سورية" أي في نظام حزب - دولة تصفه اجتماعيات بعينها وتارة ثالثة أو رابعة في "العراق" أو "ليبيا"... وهذه المقالة - "لبنان تاريخ اللبنانيين... هو الأصل الذي يقضي..." - لا تستقوي بلاهوت تاريخي، ولا تدين الى ميتافيزيقا يتجاوز عمر ماهياتها العقود الثمانية المنصرمة. فهي لا سند لها غير هذه العقود. وفي ضوء هذه العقود يصح البناء على الأصل اللبناني. أما مسوغ البناء، ومسوغ صحته، فهو تاريخ العلاقات السورية واللبنانية، وتاريخ مفاعيل هذه العلاقات في المجتمعين اللبناني والسوري. فلا ريب في دلالة مفاعيل العلاقات اللبنانية والسورية على أن لبنان هو عَلَم على المسألة السورية الداخلية، بل التاريخية، الأولى، أي على عسر صوغ السياسة والسلطان السوريين الوطنيين من عوامل اجتماعية كثيرة ومتنازعة من غير أن يؤدي صوغهما الى إطفاء العوامل الاجتماعية وكثرتها وإلى إخماد جذوتها وموتها. فالعروبة السورية، في تجلياتها السياسية والاستراتيجية المعاصرة، هي آلة استئصال الكثرة والمنازعة من العوامل الاجتماعية، وهي الجهاز الذي تترتب على تسليطه على المجتمع والدولة استحالة جمعهما، والتأليف بين أجزائهما، من غير إرسال القوة والخوف على غاربهما. وعلى خلاف قيام لبنان علماً على المسألة السورية لا تقوم سورية، على ما هي عليه اليوم ومنذ عقود، علماً على المسألة اللبنانية - إلا إذا نظر الى المسألة اللبنانية على وجه الماضي العصبي و"القومي" الذي ينيخ على عقول اللبنانيين وأفئدتهم وهم يستقبلون آتيهم. ولعل المنزلة التي يُنزلها "بيان التحرير" "سورية" هذه مصدق هذا الزعم. فهي تتبوأ مكانة وسطاً، أو مركزية، ما رسفنا، نحن اللبنانيين، في أغلال ماض يثقل علينا، وما حُملنا من أنفسنا في أوقات كثيرة على تعريف أنفسنا ب"ذاكرة" تاريخية وثقافية، عصبية ونسبية حقيقة وفعلاً، جُعلت مصادرها وينابيعها بأيدي سدنة وكهان وسحرة فقدنا العلم بأسرار حرفتهم. ولا ينكر ما تقدم توسل أصحاب البيان بالخطابة "السورية" الى غاياته لبنانية يريدونها منقطعة من الشرط السوري، ومستقلة بنفسها. ولكن هذا التوسل، على زعمي، لا ينفك يلقي ظله وقيده على البيان كله. والقيد الأثقل هو قيد التورية التي لا تعف عن سطر من سطور البيان. فتشتبه المسميات وتلتبس. وإذا بالسياسات التي أدت الى صنع الوقائع والحوادث اللبنانية على ما هي عليه، وعلى ما يجوز توقع أطوارها الآتية، كأنها لم تكن. ويصدر "بيان التحرير"، وخطابته المائعة، عن هذا العدم المعياري. فإذا لم يفض إلا الى عدم معنوي لم يكن ذلك إلا عدلاً ومنطقاً سوياً. * كاتب لبناني.