حسم السيد فاروق الشرع، وزير الخارجية السوري، خلافاً كاد يستشري في أوساط لبنانية على المعنى الذي يحسُنُ حمل الانسحاب العسكري الإسرائيلي من الأراضي اللبنانيةالمحتلة عليه. فرد على من رأوا الانسحاب المزمع هذا، مع استمرار احتلال هضبة الجولان السورية، وجر قوات الأممالمتحدة إلى ردع العمليات من الأراضي اللبنانية على أراضي الدولة العبرية وسكانها، ومن غير تنفيذ القرارين 242 و338 تنفيذاً تاماً ويشمل القراران العتيدان أراضي محتلة مصرية وأردنية و"فلسطينية" وسورية، أقل بكثير من مترتبات "تلازم المسارين" ثم "وحدة المسار والمصير" - رد على المستدلين بهذه القرائن على هزيمة لا يرضون بها بقول مُسْكت: إن الانسحاب الإسرائيلي "انتصار للمقاومة وللبنان وسورية، وهو انتصار بالتالي للعرب كلهم". فأنزل الحسم بردَ السلام واليقين على القلوب الحرّى والقلقة. وكان تأخرُ القول القاطع هذا دعا مجلس الجامعة العربية في العاشر والحادي عشر من آذار مارس المنصرم، المنعقد ببيروت تضامناً مع لبنان بوجه القصف الإسرائيلي بعض مرافقه الحيوية، إلى ترك الخوض في الانسحاب هذا، على رغم الصلة الواضحة والقوية بين القصف وردعه وبين إزماع الانسحاب الوشيك. فوسع "حزب الله"، وهو المنظمة السياسية التي تتوج "المقاومة الإسلامية" وأعمالها العسكرية والعكس صحيح، ووسع البيانات الرئاسية الأولى ورئيس مجلس الوزراء والوزراء وكبارالموظفين الأمنيين وأهل الفتوى الشرعية والصحافيين، إطلاق العنان للمدائح "المقاومية". وجارتهم أخيراً فيه الجبهة الوطنية التقدمية السورية. وأجمع أصحاب المدائح على أن انسحاب قوات إسرائيلية من أراضٍ محتلة بموجب قرار دولي، ولو لم يُسند القرار هذا الى الفصل السابع من ميثاق الأممالمتحدة، ومن غير مفاوضة، أمر غير مسبوق. وعزا المداحون غيرَ المسبوق هذا إلى "ضربات المقاومة الموجعة"، بحسب عبارة يتلذذ الحزب اللهيون بقولها وترديدها، ونَقَلها عنهم مأذونو الحكم اللبناني وأهله. وأغفلتهم نشوة الانتصار المباح عن أن مفاوضات الانسحابات السابقة كلها، على الجبهات الديبلوماسية المصرية والفلسطينية والأردنية، شأن المفاوضات المعلّقة مع سورية، مرجعها المعلن والمرضي إنما هو قرارات دولية، ومنها القراران العتيدان على وجه التخصيص. فلا يصح التهليل للسبق إذا كان هذا مسوغه الوحيد. أما الفرح بالامتناع من المفاوضة فيغمز من طرف "الشقيق" السوري، وهو المنكر على السياسة الإسرائيلية نعيها المفاوضات على مساره، وتنصلها من انسحاب مأمول ولا سبيل إليه غير المفاوضة. ويُدِلُّ الفرحُ هذا على السياسة السورية بانتصار تعزوه هذه السياسة، على قلم أحد موظفيها الإعلاميين السيد فوزي الصايغ، إلى صنيعها هي، إنشاءً وتدريباً وتمويناً وتوجيهاً، وإلى تخطيطها وتدبيرها. ولا ريب في أن المداحين لا يريدون مثل هذا الغمز، أو هم لا يريدون الإفضاء به، ولا يرغبون في ظهور الإدلال ويؤثرون بقاءه مكتوماً، على عسر الأمر وصعوبته. ولعل هذا الترجح بين معانٍ غير متفقة ولا متناغمة قرينة على ظهور اضطراب "المقاومة الإسلامية" - ويسميها المتفاخرون بها من غير أهلها "وطنية" - حين بلوغها هدفها المفترض، وإصابتها هذا الهدف. والحق، وهذا من أسباب الاضطراب ربما، أنها لم تعيِّن يوماً هذا الهدف، دون غيره، غاية ترتضيها وتسعى فيها، وتشرط ببلوغها انتهاءها عن أعمالها العسكرية وكفَّ هذه الأعمال. فعمد قادتها المحليون وألسنتها إلى التظليل ولست بكاتب الضاد ظاهاً، على مثال بعض "أهلي"! والتشبيه، وحاطوا بهما "هدفهم"، وحملوا الظلال والشبهات على إرادة إرباك العدو وإصابته بالهستيريا، وهما المرضان المحببان اللذان ينسب إليهما القادة والألسنة الخمينيون أفعال العدو وأقواله. ولكن هذا الترجح، من وجه آخر، هو قرينة على اضطلاع الأعمال العسكرية الحزب اللهية بدور غير تحرير الأراضي اللبنانية التي تحتلها قوات إسرائيلية منذ عقدين وسنتين. وقد يكون الدور الثاني، ترتيباً، هو الدور الأول، مكانة ومنزلة، وليس الدور الأول، أي تحرير الأرض من الاحتلال الإسرائيلي، إلا الذريعة إلى الدور الثاني والراجح. وقد يكون اختلاط الدورين، وتعمد حوط ترتيبهما بالإبهام والغموض على من قَبِل بهما بعض السبب في التردد، اليوم، بين التهليل للانتصار والتوجس من رد السياسة السورية في لبنان، أرضاً وأهلاً ودولة، على إخفاقها في إلزام السيد إيهود باراك ربط انسحاب قواته منه باتفاق على مصير الجولان المحتل. وينبغي ألا يغمط الحال هذا لا انتصار "حزب الله" العسكري على قوات الاحتلال الإسرائيلية، ولا الهزيمة الفادحة التي أنزلها "حزب الله" وأنزلتها السياساتُ الإقليمية التي رعت نشأته واشتداد عوده ثم استواءه حركة سياسية لبنانية، في اللبنانيين وفي مباني علاقاتهم السياسية. والوجهان، الانتصار العسكري والهزيمة السياسية، متلازمان ولا ينفك واحدهما من الآخر. والإقرار بهما معاً شرط لا مناص منه في سبيل الإلمام بما جرى للبنان، ومن ورائه للعلاقات العربية الإقليمية ولبعض العلاقات السياسية الداخلية في غير دولة عربية ومجتمع عربي، وبما يجري اليوم. أما الانتصار فظاهر في خسائر الجيش الإسرائيلي منذ خريف 1982 و1983، ومنذ انسحاب القوات الإسرائيلية في أوائل 1985 وانكفائها إلى "الشريط" الذي سبق احتلاله في شتاء 1978، إلى جيوب في جزين والبقاع الغربي الجنوبي استبقاها الاحتلال من حملة 1982 وضمها إلى حزامه. ويناقش بعضهم في دلالة الخسائر هذه، في ضوء نسبتها إلى عديد القوات العاملة على الجبهة اللبنانية، وهي نسبة ضئيلة، وفي ميزان الوقت الذي انقضى على الاحتلال، وعلى مرابطة قوات محتلة بالأراضي اللبنانية، وهو وقت يبلغ ربع القرن. ففي ضوء عديد القوات وميزان الوقت المديد ليست الخسارة البشرية الإسرائيلية كبيرة. ولكن هذا التقديرَ عسكريٌّ محض، وسنده الوحيد رسوم بيانية على جدران غرفة العمليات في مقر الأركان. ولا تضبط المجتمعات، لا أفراداً ولا جماعات، تقديراتها واعتباراتها على رسوم إحصائية. ويتشارك "حزب الله" والأركان العامة الإسرائيلية في قصر الاعتبار على الرسوم هذه وأرقامها. فيعظّم الحزب العسكري والأمني المحلي الأرقام، قياساً على الخسائر الإسرائيلية في الحروب السابقة مع البلدان العربية وعلى آلام أهل القتلى وأوجاعهم، بينما يقلل الضباط المحترفون شأنها، ويدعون إلى مواصلة القتال، ويعدون بنصر أكيد شريطة تحريرهم من قيود السياسة وتبعاتها - وهو شرط أخرق. وإذا كان الانتصار الحزب اللهي ظاهراً في بيان الخسائر العسكرية الإسرائيلية، على حسب تأويل الأهالي الإسرائيليين و"الأمهات" لها، فهو أظهر وأقوى قياساً على معايير أقرب الى السياسة منها الى الحرب الخالصة. وآية هذا الانتصار ثبات الأعمال العسكرية "الإسلامية"، وزيادة عددها، وغلبة الاحتراف عليها، على رغم توسع الحرب والدمار والنزوح، من وجه، وتطاول الاشتباكات وقتاً وزمناً، من وجه آخر. فالحرب أوقعت دماراً كبيراً في عشرات من البلدات التي اتخذتها قوات "حزب الله" معقلاً وملجأ وخندقاً، وكانت السبب في وقوع الآلاف من القتلى والجرحى، وفي نزوح عشرات الألوف من الأهالي. ودامت هذه الحال نحو عقدين من السنين، أي زهاء عمر جيل. ولم تحمل الحال هذه، على فداحتها، الأهالي على الثورة على الحزب، ولم تبلور حركة سياسية أو أهلية تدعو الى التصدي للاحتلال من غير طريق أعمال عسكرية مسرحها الأراضي اللبنانية، واللبنانيون، ولا يؤذن شيء بتوسعها لتبلغ حجم معركة فاصلة. ففي الأثناء أفلح "حزب الله" في إنشاء قوة عسكرية مرصوصة يرى أفرادها الشهادة والموت "عادة"، على قول غريب في ميزان المنطق العادي لروح الله خميني، ويطيعون قيادتهم طاعة تكليف لا رد فيها، ويجمعون أهلهم ويضوونهم إليهم فيقوون بهم ويحولون دون تسرب الشقاق والمنازعات الى جماعتهم. وأنشأ الحزب الخميني الشيعي حول هذه النواة الصلبة حزاماً اجتماعياً واقياً. فارتبطت حلقات الحزام بعضها ببعض من طرق كثيرة ومتشابكة، تجمع القيم والاعتقاد والتراث الى المصالح والمنافع والاعتياد، واعتزل أهلُ الحزام الاجتماعي الواقي من يختلف عنهم ويفارقهم مسلكاً ورأياً وثقافة ومصالح. فقويت عصبية متلاحمة انطوت على نفسها، وكفت نفسها بنفسها. فهي تقيم في معازل أهلية تسيطر عليها وحدها، وتقوم أجهزة "حزب الله" وموارده "الشرعية" على قول الشيخ صبحي الطفيلي، أمين عام الحزب الأسبق، في إنفاق السيد علي خامنئي على الحزب على رعاية مرافقها، من تعليم وصحة ودخل وإذاعة وتلفزة وأمن وتحكيم في الخلافات، إلى العبادة والصلاة وشعائر الولادة والزواج والإرث والحج والتضامن وأحكامها. فلا يدين أهل العصبية هذه لغير المنظمة العسكرية والأمنية الأهلية بشيء، ويدينون لها بكل شيء تقريباً. وعلى رأس ما يدينون لها به اعتدادهم بنفسهم، وإحساسهم بقوتهم، وانتسابهم الى جسم متماسك وراجح الدور والرأي في بلد كانوا ينزلون منه مرتبة ثانوية، على ما يحسبون، وانتزعوه من عداوة العروبة والإسلام ونصبوه منارة على مقاومة إسلامية وعربية مظفرة. ولم تستو الحال على هذا إلا بواسطة إفراد "حزب الله" بالدور الذي انفرد به. وهو انفرد به على أنقاض المنظمات السياسية والعسكرية والأمنية الأخرى، وعلى أنقاض كل حياة سياسية أو اجتماعية تلقائية وداخلية. وأدى نهوض الحزب بالعمل الذي ندبه إليه الحلف الإقليمي السوري والإيراني على الوجه الفاعل الذي نهض به، والتعويل السوري المتعاظم على هذاالعمل، أدى الأمران الى ضبط أحوال لبنان كلها على الحاجة السورية والإيرانية، وحاجة بعض اللبنانيين، إلى دوام "حزب الله" واستمراره. فصورت الأعمال العسكرية في صورة مجردة من نتائجها ومترتباتها وآثارها، وقُطعت الأعمال من النتائج والآثار مهما كانت تكلفتها كبيرة. والحق أن الأعمال العسكرية رتبت تكلفة قاصمة، سياسية واجتماعية ومعنوية ومادية. فتعطلت الأعمال والمدارس والإقامة والمواصلات في رقعة أوسع بكثير من الأرض المحتلة، وتطاول التعطيل إلى أعداد غفيرة من اللبنانيين. واستقر مهجرون ومهاجرون في أحياء سكن مكتظة، واعتاش عدد متعاظم من هؤلاء من الإعالة، وقايضوا إعالتهم ولاءً غير مشروط لمعيليهم وأولياء نعمتهم الشحيحة، وبادلوا المعيلين وأولياء الأمر نعرة عصبية وشخصية لا قيد عليها من عقلانية سياسية واقتصادية ولا من رابطة وطنية مشتركة مع جماعات أخرى. ونجم عن ترجيح الكفة المذهبية والحزبية هذه، وعن انفراد أصحابها وأولياء أمرهم في رسم السياسات اللبنانية، تصغير شأن كل اعتبار غير اعتبار الأعمال العسكرية. وعلى رغم انقضاء نيف وعقد على استقرار "السلم الأهلي"، وعلى "مسيرة الإنماء والأعمار" و"إعادة بناء الدولة"، على زعم الشعارات الرسمية، ما زال المستثمرون اللبنانيون محجمين عن الاستثمار في وطن يتآكل الانتساب الجامع والمشترك إليه، ولا يتورع ساسته عن إتيان رعونة أو قبيحة، مهما بلغت من الشطط، في سبيل ولائهم لسياسة لا تدين بحساب لمن تسوسهم بالقوة والمراوغة، وتسرع إلى التنصل منهم، ومن مصالحهم العامة في سبيل مصلحتها الخاصة. وما زالت الهجرة الملاذ من البطالة ومن القلق الذي تبعثه سياسة مضطربة لا قوام لها من نفسها، ولا ترسو على ركن غير ركن إرادة لا قيد عليها من رأي عام، أو هيئات منتخبة، أو تقليد راسخ، أو من سياسة متنازعة ومستقلة. ومثل هذه "السياسة" المتسلطة ما لبثت أن أطاحت مقومات السياسة كافة: من تقسيم السلطات واستقلالها وتعاونها الى اضطلاع الانتخابات السياسية والمهنية والنقابية والصحافة والجمعيات والأحداث ببلورة رأي عام كثير التيارات ومختلفها. ولما كان ترتيب السلطات على هذا المثال، وتضافر الانتخابات والصحافة والجمعيات والأحزاب على بلورة رأي عام كثير التيارات، هما السبيل الى استطلاع الوقائع وتشخيصها وسبرها ومعالجتها، فقد اللبنانيون، أفراداً وجماعات وسائل الاستطلاع والسبر والمعالجة. فتحولت الحياة العامة إلى شعائر رتيبة، وإلى ظلال حوادث. وانفرد مجتمع "حزب الله"، حيث الموت والدم والطاعة والحاجة واللحمة حقائق راجحة وممضة، بإحساس عام بثقل الوقائع. ومثل هذا "الامتياز"، الباهظ الثمن، يفاقم من تفتيت المشتَرك الاجتماعي والتاريخي اللبناني، ويعزل الجماعات بعضها من بعضها، والأفراد بعضهم من بعض. ويصيب التهافت المعارضة الفعلية. فإذا بها تنكص الى افتراض تاريخ "أقوامي" للبنان، وتثبت له جوهراً لا يعرّفه إلا اختلافه عن محيطه، وتغفل عن وطنية دستورية مركبة ومعاصرة كان اختبارها جسر اللبنانيين إلى حرياتهم ومعاصرتهم وتجددهم. فكانت هذه أثمان انتصار "حزب الله" العسكري، في أي ميزان وزن الانتصار، على القوات الإسرائيلية في حرب خاضها وحده والناس متفرجون. وفي ضوء الأثمان هذه، وهي لم تبلغ خاتمتها بعد، ينبغي أن تتساءل المجتمعات العربية، وفي مقدمها المجتمع السوري الذي أهملت هذه العجالة تناول وقع سياسة ساسته عليه، إذا كان الانتصار يساوي "أتعابه" وتكلفته، ويصح اتخاذه مثالاً ومنوالاً. ولعل بعض عزاء اللبنانيين هو في ارتسام رد جواب عربي عفوي، وسالب، على السؤال. * كاتب لبناني.