اذا كانت المفاوضات الصعبة الحالية بين اسرائىل والفلسطينيين ستكلل بالنجاح بحلول الموعد النهائي المحدد في ايلول سبتمبر المقبل، الذي قبلته الاطراف كافة العام الماضي، فإن ثمة شرطين حاسمين يجب ان يلبّيا. ولا يتعلق أي منهما بابتكار صياغات جديدة حاذقة لسد الثغرات القائمة التي تفصل بين مواقع الطرفين في كل واحدة من قضايا الوضع النهائي التي تخضع للنقاش. ولم يلبَّ حتى الآن أي من هذين الشرطين. الشرط الاول هو ان يقر الرأي العام الاسرائيلي بأن التضحيات التي سيتعيّن على اسرائيل ان تقدمها لتحقيق اتفاق سلام مع الفلسطينيين لا يمليها إيثار اسرائيلي بل مصلحة ذاتية بالاساس. والمصلحة الذاتية تتحدد بعجز اسرائيل عن إدامة رخائها الاقتصادي وأمنها وديموقراطيتها في اوضاع يرجح ان يعمها نزاع وعداء يمتدان على مدى البصر اذا فشلت المفاوضات الحالية. وفي حال عدم وجود فهم عميق لهذه الحقيقة، لا يمكن لأي بلد يتمتع بتفوق عسكري واقتصادي ساحق على خصمه، كما هو تفوق اسرائيل على الفلسطينيين، ان يتخلى عن مصادر قوة ثمينة. الشرط الثاني، الذي لا يرجح ان يتحقق من دونه اختراق في عملية السلام، هو قدرة الاسرائيليين على ان يدركوا ان طموح ثلاثة ملايين فلسطيني الى العيش بكرامة وحرية في ارضهم، وليس في بانتوستانات مبعثرة تخضع لسيطرة اسرائيل بشكل كامل، هو صورة معكوسة لطموح اسرائيل ذاتها، ولا يقل كرامة وشرعية. وفي ما يتعلق بتحقيق هذين الشرطين على السواء، يبدو الاداء القيادي لرئىس الوزراء إيهود باراك مخيباً للآمال حتى الآن. وبالفعل، منذ لحظة فوزه في الانتخابات بفارق كبير على نحو غير متوقع قبل عام، وهو انتصار منحه تفويضاً واضحاً لأن يتخذ قرارات صعبة على المسارين السوري والفلسطيني معاً، استطاع ان يبدد هذا التفويض وحتى ان يبعث الحياة من جديد في معارضة كان انتصاره جعلها في حال عجز سياسي. فبدلاً من التحرك بسرعة وحسم لاستثمار الزخم الذي تحقق بفضل انتصاره، استند باراك الى اعتراضات المعارضة التي تتألف من احزاب دينية وقومية يمينية ليعطّل العملية. انه السبب الذي اعطاه باراك لممارسة ضغوط على عرفات، بعد وصول الاول الى السلطة مباشرة، للتخلي عن التزامات اسرائيلية اعطتها حكومة ليكود السابقة للفلسطينيين في اتفاق "واي 2". وهو السبب وراء دخوله في اتفاق رسمي مع المستوطنين قُدّم الى الجمهور العام، باستهتار اخلاقي تام، كانتصار عظيم لاعتدال لا مثيل له من جانب المستوطنين، بينما كان في الواقع استسلاماً لاضرورة له اطلاقاً ولا مثيل له، فكل ما حققه هو انسحاب زائف بشكل مفضوح من "هافات ماعون" التي لم تكن تؤوي سوى حفنة من المستوطنين الشباب وبضع عربات. في مقابل ذلك، منح باراك شرعية كاملة لعدد كبير من المستوطنات التي اُنشئت في انتهاك صريح لاتفاق "واي 2". وفي مناسبتين منفصلتين، سحب باراك عرضاً بأن تُسلّم الى السلطة الفلسطينية السيطرة الامنية على ثلاث بلدات فلسطينية محاذية للقدس. وكان من المسلّم به حتى في عهد نتانياهو ان هذه البلدات، التي كانت تتمتع بالفعل بسيطرة ادارية فلسطينية كاملة بموجب بنود اتفاق اوسلو، ستصبح في النهاية جزءاً من الدولة الفلسطينية. وسمح نتانياهو فعلاً ببناء مبنى البرلمان الجديد التابع للسلطة الفلسطينية في ابو ديس، احدى البلدات الثلاث، وهو ما كان سُمح به اصلاً من قبل رابين. قرر باراك الآن تسليم هذه البلدات الثلاث الى الفلسطينيين. وتمت المصادقة على قراره هذا من قبل حكومته والكنيست. لكن بعد الضعف الذي اظهره حتى في ما يتعلق بهذه البلدات الفلسطينية التي تقع خارج الحدود الموسعة للقدس، أي امل يبقى في التوصل الى حل للقدس ذاتها؟ لكن ما هو اكثر إيذاءً من اي شيء آخر يكمن في ان باراك سمح لمزيد من توسيع المستوطنات، ومزيد من مصادرة اراضي الفلسطينيين، ومزيد من بناء المساكن في القدس منها اعمال البناء في جبل ابو غنيم - هار حوما - التي كفّ عنها حتى نتانياهو ان يمضي قدماً بوتيرة اكبر مما كان عليه الحال في عهد حكومة ليكود السابقة. ويؤكد المدافعون عن باراك انه يهدف من وراء هذا كله الى تحييد خصوم السلام المتشددين في اسرائيل واحباط مناوراتهم ببراعة، كي يتمكن من التوجه لصوغ صفقة تاريخية حاسمة مع الفلسطينيين تنهي اخيراً النزاع الاسرائيلي الفلسطيني. لكن ما حققته هذه التكتيكات البارعة، في الواقع، هو ان المعارضة التي كانت منهزمة اثر فوز باراك الانتخابي، مُنحت - على نحو لم تكن هي تتوقعه - فرصة جديدة للعيش من قبل باراك بالذات. هل لا يزال في امكان باراك ان يغيّر هذا الوضع؟ اعتقد ان يستطيع القيام بذلك، لكن شريطة ان يكون مستعداً للاقرار بان الفلسطينيين، بقبولهم اقامة دولة على ما لا يزيد عن 20 في المئة من فلسطين الاصلية الخاضعة للانتداب التي قسمت الى دولتين فلسطينية وعبرية من قبل الاممالمتحدة في 1947، وافقوا بالفعل على حل وسط مؤلم يمثل اقصى ما يتوقع منهم. وتقارب نسبة ال 20 في المئة هذه حدود ما قبل 1967 التي يسعى الفلسطينيون في الوقت الحاضر الى ان يقيموا دولتهم داخلها. وباستثناء اجراء تعديلات ثانوية في الاراضي لتمكين اسرائيل من جعل معظم المستوطنين مشمولين بالسيادة الاسرائيلية وهو ما يقدّر انه يتطلب 5 - 10 في المئة تقريباً، لن يكون بمقدور عرفات ان يقدم المزيد من دون التفريط بدولة قادرة على البقاء والمجازفة بأن يلقى الرفض من مواطنيه. وفي مقالة نشرتها صحيفة "يديعوت احرنوت"، الاوسع انتشاراً في اسرائيل، في عددها الصادر في 12 ايار مايو الجاري، لاحظ إفرايم سنيه نائب وزير الدفاع في حكومة باراك انه "لا يوجد اي تناقض بين خطوط اسرآئيل الحمر وطموحات الفلسطينيين الاساسية. يمكن ان نتوصل الى اتفاق اذا انطلقنا من الواقع، وليس من الاحلام". وتابع سنيه واصفاً هذا الواقع كالآتي: "انقضت سبع سنوات منذ ان اتخذ عرفات قراره بشأن المصالحة التاريخية مع اسرائيل. وتملك السلطة الفلسطينية حالياً السيادة الكاملة على تسعة في المئة ]فقط[ من منطقة "ارض اسرائيل الغربية"، وهي مقسمة الى 14 بقعة على الخريطة. وسيخدع نفسه كل من يعتقد ان هذا انجاز يمكن لعرفات ان ينهي به دوره التاريخي". اذا كانت صراحة نائب وزير الدفاع سنيه مؤشراً الى اين يتجه باراك حالياً، فإن السلام مع الفلسطينيين ما يزال عندذاك في متناول اليد. * زميل متقدم في مجلس العلاقات الخارجية. والمقال يمثل وجهة نظره.