كان هناك سبب وجيه وراء موجة التفاؤل، التي اعقبت انتخاب إيهود باراك رئيساً لوزراء اسرائيل في ايار مايو الماضي، في شأن احتمالات استئناف مفاوضات السلام الاسرائيلية - الفلسطينية ونجاحها. فقد كان الانطباع السائد على نطاق واسع - ليس في اسرائيل فحسب بل في بلدان عربية وفي المجتمع الدولي ايضاً - ان الاختلافات بين سياسات بنيامين نتانياهو وباراك على صعيد السلام لا تتعلق بالمدى بل بالنوع. بخلاف نتانياهو، الذي كان الصراع مع الفلسطينيين بالنسبة اليه اشبه بمعادلة الحصيلة صفر، كان يُعتقد ان باراك يتبنى موقفاً مختلفاً من حيث الجوهر تجاه عملية السلام. فأي تلبية لطموحات الفلسطينيين، سواءً كانت على صعيد الاراضي او على المستوى السياسي، كان يمثل بالنسبة الى نتانياهو نكسة لاسرائيل. وولّدت انتقادات باراك لنتانياهو قبل انتخابات ايار مايو الانطباع بأنه كان مقتنعاً بأن قيام دولة فلسطينية قادرة على البقاء وناجحة ليس تنازلاً إيثارياً على النفس من قبل اسرائيل بل مصلحة اسرائيلية حاسمة. ادرك باراك - او هكذا كان الاعتقاد - بأن قيام كيان فلسطيني لا يملك مقومات البقاء ولا يمكن ان يلبي حتى ادنى طموحات الفلسطينيين سيثير مخاطر جديدة لاسرائيل، لان مثل هذا الكيان سيولّد استياءً عميقاً ومشاعر انتقامية لدى الفلسطينيين، ما يترك اسرائيل تواجه اسوأ الخيارات: اراضٍ اقل وأمناً اقل. الموقفان المختلفان من عملية السلام يستدعيان استراتيجيات تفاوض مختلفة تماماً. كانت المسألة الاساسية بالنسبة الى نتانياهو هي كيف يمكن لاسرائيل ان تستخدم تفوقها العسكري والسياسي والاقتصادي الساحق على الفلسطينيين لعرقلة المطالب الفلسطينية واجبار الفلسطينيين على الاستسلام لاملاءات اسرائيل. اما الاستراتيجية المتوافقة مع الموقف المفترض لباراك فإنها يجب ان تجيب على سؤال مختلف تماماً: ما هي في الحقيقة شروط الحد الادنى لقيام دولة فلسطينية قادرة على البقاء، دولة يمكن ادامتها سياسياً واقتصادياً، - أي دولة تعزز امن اسرائيل بدلاً من اضعافه؟ ومع بدء مفاوضات الوضع النهائي، يجب ان يكون واضحاً لكل من لا يتعمد اغلاق عينيه ان هذا ليس السؤال الذي يطرحه باراك. فاستراتيجيته تتركز حسب ما يبدو على البحث عن افضل السبل ل "خفض توقعات الفلسطينيين"، وهو التعبير المشؤوم الذي صاغه نتانياهو، كي يحصل الفلسطينيون في النهاية على اقل ما يمكن. ويقول ناحوم بارنيا وشيمون شيفر في صحيفة "يديعوت احرونوت" ان باراك هو الآن في خضم حملة اعلامية لينتزع من رئىس السلطة الفلسطينية ياسر عرفات اثمن مصادر قوته الديبلوماسية: الدعم العالمي. لا جدال في ان باراك اتخذ في اعقاب تسلمه رئاسة الحكومة بعض الاجراءات التي حسّنت المناخ السياسي على نحو مثير. وسعت الصور المثيرة التي نقلتها شاشات التلفزيون اخيراً لجنود اسرائيليين من "لواء غيفعاتي" الشهير ومن الشرطة العسكرية وهم يجلون مستوطنين من موقع "هافات ماعون"، الى التأكيد على تصميم باراك على ان يتعامل بشكل نزيه مع الفلسطينيين. لكن الواقع وراء هذه الصور التلفزيونية للأسف مختلف كلياً. انه واقع يتمثل بأن غالبية المواقع غير الشرعية ال 42 التي اقامها المستوطنون بعد اتفاق "واي" لا تزال في مكانها.وبخلاف المشهد المدبّر في "هافات ماعون"، الذي سعى باراك لترتيب اوسع تغطية اعلامية ممكنة له، لم يستدع باراك وسائل الاعلام لابلاغها انه اجاز توسيع مستوطنة "إيتامار" عشر مرات. كما لم يبلغها انه أقر اعمال بناء جديدة في ضاحية "هار حوما" العربية في القدس، وهو شيء تردد حتى نتانياهو في القيام به. وهو ايضاً لم يعلن على نطاق واسع ان معدل البناء في مستوطنات الضفة الغربية منذ تسلمه الحكم فاق ما كان عليه في عهد نتانياهو. لا بد للمرء اذاً ان يتفهم الشكوك في ان عملية الاجلاء الخالية من أي معنى للعائلات الاربع التي كانت تعيش في موقع "هافات ماعون" كانت عملية مسرحية اُعد لها بعناية لتكون ستار دخان يخفي وراءه واقعاً مغايراً تماماً. ما عزّز هذه الشكوك بقوة لدى مراقبين اسرائيليين كثيرين هو اصرار باراك الغريب على ان قرار مجلس الامن 242، الذي شكل الاساس الصريح لكل اتفاق ابرمته اسرائيل مع الفلسطينيين، لا ينطبق على الوضع الفلسطيني، وهو ادعاء لم يصدر عن اي حكومة قبله اطلاقاً. وقالت كاتبة العمود اليمينية ايمونا إيلون المؤيدة للمستوطنات في صحيفة "يديعوت احرونوت" ان تفسير باراك "الصحيح على نحو مفاجىء" للقرار 242 حوّله الى خصم معلن لاتفاق اوسلو "في كل جوانبه وبكل تفرعاته". ولاحظت صحيفة "هآرتس" في مقالها الافتتاحي في 11 تشرين الثاني نوفمبر ان "إخلاء بضع مبانٍ موقتة في هافات ماعون شىء تافه كلياً في مواجهة الخطوات التي اقدمت عليها الحكومة اخيراً لدعم مشروع الاستيطان اليهودي في الاراضي المحتلة". واعتبرت الصحيفة ان هذه الخطوة لا تشهد على تصميم الحكومة بل تؤكد على العكس "استعدادها لقبول المواقع الاخرى ول "توسيع" المستوطنات القائمة". سيهمس اولئك الذين يحاولون ان يفسّروا تكتيكات باراك لمن هو مستعد للاصغاء بأن المراعاة التي يُظهرها للمستوطنين هي تكتيك ذكي للاحتفاظ بتأييدهم حتى يخرج باتفاق سلام منصف للفلسطينيين. انه تأكيد يفتقر الى الصدقية كلياً. فقد وجد المستوطنون انفسهم في حال عجز سياسي اثر الانتخابات في ايار الماضي. واذا اصبحوا مرة اخرى عاملاً سياسياً فان الفضل في ذلك لن يعود الاّ الى الدعم الذي قدمه لهم باراك والذي يتعذر تفسيره، بدءاً باصراره خلال الصيف على تأجيل عملية اعادة الانتشار الثالثة لاسرائيل في الضفة الغربية وادراجها ضمن مفاوضات الوضع النهائي. كلما كان باراك يعبّر عن الثقة بقدرته على التوصل الى اتفاق سلام مع الفلسطينيين ضمن الاطار الزمني الذي حدده، كان يضيف دائماً بأن هذا لن يتم، بالطبع، الاّ اذا كان لديه شريك فلسطيني ملتزم على نحو مماثل بالسلام ومستعد لتقديم التنازلات المؤلمة التي يتطلبها السلام. السؤال المقلق الذي يثيره هذا الشرط المعقول ظاهرياً هو ما اذا كان باراك يدرك فعلاً المشكلة المحيرة التي تكمن في لب القضية الاسرائيلية - الفلسطينية. فالواقع الاساسي للفلسطينيين هو انهم على الجانب المتلقي، وليس المانح، لعملية السلام. وعلى رغم ان 90 في المئة من الفلسطينيين في الضفة الغربيةوغزة يعيشون حالياً في مناطق تخضع لسيطرة السلطة الفلسطينية، فانهم لا يزالون معتمدين في كل النواحي عملياً على اسرائيل. فالفلسطينيون لا يتحكمون بأي حدود، ويعيشون في بقع جغرافية معزولة وغير متصلة. ويتحمل الفلسطيني في غزة لشحن سلع الى الضفة الغربية كلفة اكبر بالمقارنة مع شحنها الى اوروبا او استراليا. وحتى اذا استعاد الفلسطينيون كل الضفة الغربية وهو ما يدركون انه لن يحدث فان ما سيحصلون عليه سيكون اقل من 20 في المئة من الاراضي المقسمة من قبل الاممالمتحدة في 1947. فما هي التنازلات "المؤلمة" التي يمكن ان يقدمها الفلسطينيون ويخرجوا مع ذلك بكيان سياسي قابل للحكم؟ لا يزال المرء يأمل، على رغم الادلة المتزايدة بالضد من ذلك، ان يكون باراك ينوي الوصول الى المكان الصحيح في النهاية. وسيكون شيئاً مأسوياً اذا كان الرجل الذي اشاع لدى الناس في كل مكان آمالاً كبيرة بإمكان انهاء قرن من العنف والنزاع بين اليهود والعرب سيُذكر في التاريخ باسم "باراكياهو". * زميل متقدم في "مجلس العلاقات الخارجية".المقالة تعبر عن رأيه الخاص