منذ توقيع الاتفاق التجاري الأول بين الاتحاد الأوروبي واسرائيل عام 1975، اعتمدت دول الاتحاد في علاقتها مع اسرائيل والفلسطينيين على مبادئ أساسية للقانون الدولي، أولها اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 بشأن حماية المدنيين، التي تحظر بين أمور أخرى اقامة المستوطنات وضم قوة محتلة أراض محتلة بالقوة. واعتبر الاتحاد الاوروبي الاستيطان في الضفة الغربية وقطاع غزة عملاً غير شرعي يتعارض مع أحكام القانون الدولي. ورفض قيام اسرائيل باجراء أي تغيير في وضعية الأراضي الفلسطينية المحتلة، يغير معالمها ويضر بمصالح سكانها، ويعرقل صنع سلام واستقرار دائمين في منطقة مجاورة له، وله فيها مصالح اقتصادية وأمنية حيوية. فهل لا يزال الاتحاد الأوروبي كمجموعة ودول ملتزماً مواقفه وتوجهاته المبدئية ضد الاستيطان واحترام القانون الدولي؟ وهل يطمح الى تفعيل دوره في صنع سلام شامل ودائم في الشرق الأوسط انفق لأجله حتى الآن بلايين الدولارات من جيوب مواطنيه؟ منذ انعقاد مؤتمر مدريد أواخر عام 1991 وحتى آخر اتفاق فلسطيني - اسرائيلي شهد الاتحاد الأوروبي على توقيعه، أكد الاتحاد نظرياً موقفه المبدئي بضرورة احترام حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره. وتمسك بتفسير مقولة "عدم قيام أي طرف بأعمال احادية الجانب تجحف بعملية السلام وبمفاوضات الحل النهائي"، الواردة في دعوة مدريد وفي اتفاق أوسلو، انها تعني وقف بناء مستوطنات جديدة، وعدم توسيع الموجود منها. وفي مناسبات عدة ساند الاتحاد مواقف الفلسطينيين في مواجهة خرق الحكومات الاسرائيلية الاتفاقات التي شهد عليها. ودان رسمياً مصادرة الفلسطيني أراضي فلسطينية لغرض الاستيطان، واعتبره عقبة في طريق تقدم المفاوضات. ولم يتوقف الاتحاد عند حدود الادانة المبدئية للاستيطان، وأصر في اتفاقية الشراكة الأوروبية - الاسرائيلية على نص يؤكد على أن تكون جميع أنواع البضائع المصدرة لدوله، ذات منشأ رسمي من دولة اسرائيل. في اشارة واضحة لرفض التعامل مع المنتوجات الزراعية والصناعية للمستوطنات باعتبارها منتجات اسرائيلية تحصل على تسهيلات جمركية خاصة ومعفاة من الضرائب حسب الاتفاق. الى ذلك يدرك الاتحاد أن تحايلاً اسرائيلياً واسعاً، رسمياً وغير رسمي، في مجال التجارة قد حصل، وان منتجات المستوطنات المتنوعة لا تزال تتسرب بكثافة الى أسواق دوله. وقد بادرت مؤسسات أهلية فلسطينية مستقلة بما فيها "متين" الى رصد هذا التحايل. وتعاونت مؤسسات القطاع الخاص الفلسطيني ميدانياً مع قوى السلام في اسرائيل، وفضحت في أكثر من مناسبة أساليب تهرب جهات حكومية اسرائيلية من الالتزام بالاتفاقات التجارية الموقعة بين الطرفين وعدم احترام نصوصها. ورصدت طرق تهريب المستوطنين منتوجاتهم المتنوعة الى أسواق دول الاتحاد بغطاء حكومي. وتفاعلت دوائر مسؤولة في الاتحاد الأوروبي مع المعلومات، إلا أن مواقفه الرسمية لم تصل الى درجة الحزم، ولم تتعدَّ حدود التأكيد النظري على قراراته السابقة، ولم يضع آلية عملية لرقابة تنفيذها بشكل دقيق. ولم تكترث الحكومة الاسرائيلية بمواقف الاتحاد. وواصل المستوطنون بغطاء حكومي اغراق الأسواق الأوروبية بمنتجاتهم ونالت اعفاءات ضريبية. وكانت النتيجة مساهمة دول الاتحاد عن غير قصد بانعاش الاستيطان وتعزيز دعائمه الاقتصادية. وضعفت مصداقية مواقف عند الفلسطينيين. تبيّن مراجعة تاريخ عملية السلام مدى تعثرها بسبب الاستيطان، ودوره أساساً في إضعاف مصداقيتها. وليس عسيراً معرفة حجم توسع الاستيطان ابان حكم ليكود 1996 - 1999، وكيف تعاظم الى درجة قاربت نسف عملية السلام وتدمير ما انجز. وان حكومة نتانياهو في الوقت الذي تنصلت في المنابر الدولية من أعمال المستوطنون، كانت ترسل اشارات لهم ولمناصريها "انظروا الى أفعالنا لا الى أقوالنا"، وأجازت مخططات هيكلية لأكثر من 26 مستوطنة جديدة. وساهمت بفعالية بتوسيع القديم منها، تحت سمع وبصر دول الاتحاد والأمم المتحدة والراعي الأميركي. وقدمت تسهيلات واسعة للمستوطنين وارتفع عددهم في الضفة الغربية من 145 ألف الى أكثر من 170 ألف مستوطن، وظلت مطالب قوى السلام بالكشف الكامل عن مصاريف الاستيطان بدون جواب. وبعد هزيمة ليكود استبشر الفلسطينيون كما الأوروبيون وكل المتطلعين الى صنع السلام في المنطقة خيراً، واعتقدوا ان حكومة باراك العمالية ستنهج نهجاً مغايراً لحكومة نتانياهو. إلا أن الخطوط العريضة لبرنامجها بعثت الريبة والقلق في نفوسهم، إذ جاء فيه: "ان هذه الحكومة تدرك القيمة العظيمة للاستيطان من الناحيتين القومية والاجتماعية، وستبذل جهدها لضمان تطور المستوطنات ونموها وازدهارها... وستشكل لجنة حكومية خاصة لبحث قضايا الاستيطان، وتتخذ القرارات بخصوصها بما لا يؤدي لخنق المستوطنات واعطائها مجال التطور في محيطها الحيوي... الخ. الى ذلك خيب تشكيل الحكومة آمال الجميع، ومن ضمنهم قوى السلام الاسرائيلية. ورأى الفلسطينيون في منح اسحق ليفي من حزب "المفدال" الاستيطاني حقيبة الاسكان، وتعيين أحد زعماء المستوطنين مستشاراً لباراك، نذير شؤم. وجاءت بنود موازنة حكومة باراك وقراراتها وتوجهاتها، لتزيد قلقهم، وأكدت مضي حكومة باراك قدماً في السيطرة على مزيد من الأراضي الفلسطينية وتوسيع الاستيطان. حقاً لقد استلم باراك مقاليد الحكم في ظروف محلية واقليمية ودولية مؤاتية تماماً لشن هجوم سلام قوي وفعال. وكان في إمكانه خلال شهور حكمه الأولى صنع أحداث تاريخية تذكر ولا تنسى. وبدلاً من استغلال صدمة المتطرفين والمستوطنين الذين صوتوا ضده، والاندفاع بسرعة نحو بناء جسور الثقة مع الفلسطينيين، تردد وتأخر في حسم خياراته. ولاحقاً راح يقيس علاقته بالسلطة الفلسطينية ومصير شعوب المنطقة بالسنتيمترات على الخرائط. وكان الاختبار الميداني الأول لنيات حكومة باراك تجاه الاستيطان موقفها من موضوع ال42 بؤرة استيطانية، التي أسسها المستوطنون أوائل عام 1999 تلبية لنداء نتانياهو - شارون قبل رحيلهما. وبدلاً من الالتزام بوعوده التي قطعها للفلسطينيين قبل الانتخابات، قرر بناء على توصيات اللجنة الوزارية الخاصة ازالة 15 بؤرة "غير شرعية"، والاحتفاظ بالباقي 27 واعتبرها "شرعية". وترجم قراره بطرح عطاءات البناء لاستكمال ما لم ينجز في عهد ليكود. وأخلى بشكل مسرحي دعائي موقعين فقط، ووافق على احتفاظ المستوطنين بكل الأراضي الفلسطينية التي سيطروا عليها. وسجل سابقة خطيرة في مجال ترسيم علاقة الحكومة بتوسيع الاستيطان ومساندة تجاوزات المستوطنين. وظهر جلياً للجميع، فلسطينيين ومراقبين سياسيين، ان سياسته الاستيطانية امتداد لسياسة سلفه نتانياهو. والفرق بينهما ان الأول ظلل دعمه بمواقف ايديولوجية، وتستر قدر الامكان على دعمه السخي للمستوطنين، أما الثاني فيجهر بدعمه بذريعة الأمن وتلبية الاحتياجات الطبيعية وتنفيذ قرارات قديمة. ونجحت قنابل باراك "السلامية" الدخانية بتضليل بصر الاتحاد والادارة الأميركية عن قراراته الاستيطانية. ولم يمضي وقت طويل حتى بينت المفاوضات بالملموس، ان الاستيطان أقرب الى "وجدان باراك" من السلام مع الفلسطينيين، والمستوطنون أقرب الى قلبه من "ميريتس" وقوى السلام. ولم يخف سعيه، في اطار الحل النهائي، الى اقتطاع أجزاء واسعة من أراضي الضفة والقطاع، وفرض الاستيطان أمر واقع. وفي سياق تنفيذ الاتفاقات السابقة، التي شهد عليها الاتحاد، تشاور باراك مع المستوطنين وحدد منفردا مناطق إعادة الانتشار والانسحاب الثالث من 6.1 في المئة من أراضي الضفة. وتجاوب مع مطالب المستوطنين، ورفض أخذ مصالح الفلسطينيين بعين الاعتبار. ورفض التفاعل مع طلب السلطة الفلسطينية ان يشمل الانسحاب مناطق مأهولة بالسكان، وحددت بلدات الرام والعيزرية وأبوديس، بدلاً من مناطق جبلية وصحراوية جرداء. وأعطى اشارة للبدء ببناء أعداداً كبيرة من الوحدات السكنية في مستوطنات في مدينة القدس وعمق الضفة الغربية وعلى امتداد الخط الأخضر. ويجري العمل على قدم وساق ببناء شبكة طرق واسعة خاصة بها. وبصرف النظر عن حقيقة مواقف باراك ونياته، فإن الفلسطينيين باتوا مقتنعين بأن الحكومات الاسرائيلية عمالية وليكودية تطلق ستاراً من الدخان الكثيف حول كلفة نشاطات الاستيطان لتضليل أنصار السلام، وليست معنية بتوفير معلومات دقيقة بشأنه، لتفادي الانتقادات الداخلية والخارجية. وعلى سبيل المثال فإن ميزانية الدولة لا توفر تفاصيل حقيقية لمصاريف الاستيطان، وما توفره المعلومات الصادرة عن مصادر رسمية مشكوك فيها. ومن الشائع في اسرائيل ان الحكومة تقدم للمستثمرين في مناطق التطوير معونات سخية. والحوافز الأكبر تقدم في المناطق المسماة "التطوير أ" وهي 38 في المئة علاوة مباشرة، و66 في المئة ضمانات قروض، وفترة اعفاء من الضريبة تصل الى عشرة أعوام، ويتمتع المستوطنون بتخفيض 7 في المئة في ضريبة الدخل، وكل المستوطنات في الضفة والقطاع صنفت بأنها منطقة تطوير "أ". * كاتب فلسطيني