بعد اتضاح آثار الغارات الاسرائيلية على جنوبلبنان، حرص مكتب رئيس الوزراء الاسرائيلي المنتخب ايهود باراك على التأكيد انه ابلغ بالعملية بعد ان أصبحت الطائرات الاسرائيلية المغيرة في الجو. كذلك أبلغ باراك كتلته البرلمانية "اسرائيل الواحدة" ان القرار بشن الغارات كان قرار بنيامين نتانياهو وحده، وانه هو شخصياً لم يشارك في اتخاذه. بعض التحليلات العربية لم يسلّم بصواب هذه التوضيحات فحسب، ولكنه عزز مصداقيتها ايضاً عندما أضاف اليها اعتقاداً بأن نتانياهو أمر بشن الهجمات الجوية لكي يحرج باراك ولكي يزرع طريقه الى الحكم بالألغام. وفي هذه التفسيرات ان بارك مستعد لتحريك عملية السلام التي تعرضت الى الركود طيلة وجود نتانياهو على رأس الحكومة الاسرائيلية، وانه - أي نتانياهو - لا يريد لخلفه النجاح ولا لعملية السلام الإقلاع من جديد، ومن هنا لجأ الى تأزيم الأوضاع في جنوبلبنان مما يخلق مضاعفات تربك باراك وتؤثر على احتمالات استئناف مفاوضات السلام مع الأطراف المعنية. يستند هذا التفسير للغارات الاسرائيلية على الأراضي اللبنانية الى التمييز الضمني بين شخصيتي نتانياهو وباراك وبين سياستهما الخارجية والاقليمية، وهو تمييز يؤكد على صفة الأول "الصقورية" والتآمرية، بينما يضفي على الثاني، ولو بصورة موقتة وغير جازمة، صفة "حمائمية". هذا التمييز بين رئيسي الحكومة الاسرائيلية المدبر والمقبل يوحي بأن التعامل مع باراك سيكون أسهل من التعامل مع نتانياهو، وان رئيس الحكومة الاسرائيلي الجديد سيكون أكثر استعداداً لتقديم التنازلات من سلفه. بعض المحللين الدوليين المعنيين بالسياسة الاسرائيلية يؤيد هذه التقديرات الأولية، إلا ان عدداً كبيراً من المحللين الاسرائيليين، ومنهم من يعرف باراك عن كثب، لا يؤيدها. أكثر هؤلاء يعتقد انه بالتأكيد هناك فوارق على كل صعيد بين نتانياهو وباراك، من جهة اخرى، كما هناك بالطبع، فوارق بين حزبي ليكود والعمل، مثلما توجد فوارق بين يمين الوسط، من جهة، وبين يسار الوسط في أية دولة تتبع النظام النيابي. ولكن هذه الفروقات لا تعني ان نتانياهو رجل حرب، وان باراك رجل سلام. خلافاً لهذه التوصيفات يعتقد بروفيسور ايهود سبريتراك، استاذ العلوم السياسية في الجامعة العبرية المقرب من باراك، ان الأخير مثل نتانياهو، هو "صقر أمني". تأسيساً على ذلك يعتقد دافيد بار ايلان، مدير مكتب الاتصال التابع لنتانياهو ان الفرق بين الاثنين ليس في جوهر السياسة، وانما في الاسلوب وفي طريقة الاخراج. ويذهب بعض المهتمين برصد تطور السياسة الاسرائيلية من خلال المقارنة بين شخصيتي باراك ونتانياهو الى حد القول بأن الفارق على صعيد السياسة الخارجية بين بعض حمائم حزب العمل مثل يوسي بيلين من جهة، وبين ايهود باراك، من جهة اخرى، هو اكبر من الفارق بين الصقرين باراك ونتانياهو. فصقورية باراك تبرز على أكثر من صعيد، وبصورة واضحة، في نظرته الى العلاقات الاسرائيلية مع فلسطين وسورية ولبنان. على الصعيد الفلسطيني، يبدو باراك قليل الحرص على تنفيذ التعهدات الاسرائيلية كما جاءت في اتفاقي اوسلو وواي ريفر، فإذا أصر الفلسطينيون على تنفيذ هذه التعهدات فإنه لن يمانع في تنفيذ البعض منها مثل تكملة الانسحاب من نسبة 13 في المئة من أراضي الضفة الغربية كما جاء في الاتفاق الأخير. مقابل ذلك سيطالب باراك الفلسطينيين بتنفيذ اجراءات أمنية صعبة وفقاً لمبدأ التبادل الذي اقترحه بنيامين نتانياهو. أما سياسة باراك تجاه الاستيطان فإنها ستجعله، بحسب رأي أحد مستشاريه المقربين "عرضة لانتقادات اليساريين والحمائم وليس لانتقادات اليمينيين، الصقور والمستوطنين". لقد ألمح باراك الى انه من الممكن تفكيك بعض المستوطنات الصغيرة، إلا أنه أظهر، من ناحية أخرى، تمسكاً بالمستوطات ذات الأهمية "الاستراتيجية" في الضفة الغربية. في سياق سياسته الاستيطانية، تبنى بارك في منتصف التسعينات، أي قبل أي زعيم اسرائيلي آخر، كما جاء على لسان ارفنغ موسكوفيتش المليونير الاميركي الذي يمول عملية تهويد القدس، مشروع بناء مستوطنة رأس العمود وأزال العقبات الادارية والسياسية التي اعترضت تنفيذه. ومن الأرجح ان يعارض باراك بناء مستوطنات اقتصادية جديدة، ولكنه لن يمانع في "توسيع" مستوطنات اسرائيلية قائمة ولأسباب "أمنية". على الصعيدين السوري واللبناني، يبدي باراك شيئاً من المرونة مقابل التصلب الذي أبداه نتانياهو، إلا انه من الأرجح ان تكون تلك المرونة شكلية. فعندما كانت قضية استئناف المفاوضات الاسرائيلية - السورية تثار مع دمشق كانت القيادة السورية تصر على استئنافها من النقطة التي انتهت اليها المفاوضات مع رابين، على أساس ان رئيس الحكومة الاسرائيلية الأسبق وافق على مبدأ الانسحاب من كافة أراضي الجولان. نتانياهو كان يرفض الموقف السوري ويطالب بالعودة الى المفاوضات "من غير شروط"، ما كان يعني تراجعاً عن فكرة الانسحاب الكامل من الهضبة السورية. الى جانب ذلك طرح نتانياهو مشروع "لبنان أولاً"، بهدف تخليص القوات الاسرائيلية من "الأتون اللبناني" وحرمان دمشق من ممارسة الضغط العسكري على اسرائيل. باراك، كما يقول بعض المقربين منه مثل مستشاره السياسي آلون لييل، لن يرفض استئناف المفاوضات مع دمشق من النقطة التي انتهت اليها المفاوضات مع رابين، ولكنه يرفض قبول التوصيف السوري لتلك النقطة، ولا يوافق دمشق عندما تقول ان رابين قبل بالانسحاب من كافة أراضي الجولان. بتعبير آخر، فإن باراك يريد العودة بالمفاوضات حول الجولان، مثل نتانياهو، الى نقطة البداية حيث سيطالب، كما يقول لييل "بأخذ مصالح اسرائيل الأمنية وحاجتها الى مياه الهضبة بعين الاعتبار". أي باحتفاظ الاسرائيليين بقسم من أراضي الجولان وثرواته الطبيعية. هذا ما أكده ايضاً ايتان هاربر، أحد مساعدي باراك، عندما صرح لإذاعة اسرائيل ان "أراضي الجولان الحيوية لأمن الاسرائيليين ستبقى تحت سيطرتهم". وباراك، خلافاً لنتانياهو، لن يطرح فكرة "لبنان أولا" مع الحكومة اللبنانية، ولكنه يعتزم طرحها على الحكومة السورية، أي انه في المفاوضات السورية - الاسرائيلية المرتقبة سيطالب بأدراج قضية الانسحاب من لبنان في مقدمة جدول الاعمال، حتى اذا تم الاتفاق عليها، أمكنه تنفيذ وعده بإخراج القوات الاسرائيلية من لبنان قبل حزيران يونيو 2000، ومواصلة المفاوضات مع سورية حول قضية الانسحاب من الجولان. أي ان باراك يعتقد انه باستطاعته اقناع السوريين أنفسهم وليس اللبنانيين، كما حاول نتانياهو قبلاً، بالكف عن استخدام المقاومة في جنوبلبنان وسيلة للضغط على اسرائيل حتى تخرج من الجولان. وهو يرى، كما يقول لييل، ان دمشق ستقبل هذا النهج عندما تتغير الحكومة في اسرائيل وعندما تنطلق اشارات سلام منها باتجاه دول الجوار والفلسطينيينوالولاياتالمتحدة. إذا لم تقبل دمشق بهذا المقترب، أي بفكرة "الجنوب أولاَ" في اطار المفاوضات السورية - الاسرائيلية المتوقعة، فإن باراك سيعمل على تحميل دمشق مسؤولية استمرار التوتر في جنوبلبنان. فضلاً عن ذلك فإنه سيتخذ من الموقف السوري مبرراً للتحلل من وعده الانتخابي لإبقاء الوضع الراهن في الجنوب على حاله لأطول فترة ممكنة. ولقد باشر مساعدوه والمقربون منه، منذ الآن، خاصة في المؤسسة الأمنية الاسرائيلية، استخدام نفس الكلمات التي كان اسحق رابين يستخدمها للتراجع عن التعهدات الاسرائيلية بصدد الانسحاب من الأراضي العربية عندما كان يقول "ما من مواعيد مقدسة". وكثرت الاحاديث بين مساعدي باراك حول "لا واقعية" الانسحاب الاسرائيلي من الأراضي اللبنانية خلال سنة واحدة فقط فيما يبدو وكأنه تهيئة الاذهان، على الأقل في أوساط تجمع "اسرائيل الواحدة" الى احتمال بقاء القوات الاسرائيلية فترة أطول من ذلك بكثير. ولا ريب ان العودة الى هذا الخيار تتطلب توفير شروط متعددة من أهمها احاطة القوات الاسرائيلية بمناخ سياسي ومعنوي مناسب. والأرجح ان هذا العامل كان في ذهن باراك عندما اتخذ موقفه من الغارات الجوية على لبنان. كان باراك صادقاً عندما أبلغ الآخرين انه لم يشارك في اتخاذ القرار بشن الغارات على لبنان، ولكنه لم يكن مصيباً عندما حاول هو ومساعدوه الايحاء بأنه لم تكن له يد في هذه الغارات. ذلك ان عدم المساهمة في اتخاذ القرار شيء، وعدم تحمل مسؤولية الغارات والتنصل كلياً من تبعاتها شيء آخر. صحيح انه لم يشارك في اتخاذ هذا القرار وانه ابلغ به بعد المباشرة بتنفيذه، ولكنه من جهة اخرى، لم يحاول ايقافه. لقد استغرقت عملية التنفيذ ساعات طويلة وكان باستطاعة باراك ان يمارس خلالها حقه كرئيس حكومة منتخب، كما لاحظ المسؤولون اللبنانيون، في طلب ايقاف العمليات العسكرية ضد لبنان. مارس باراك حقه كرئيس حكومة منتخب مرات عدة قبل تشكيل حكومته. مارس حقه في شأن عسكري مهم عندما طلب من موشيه ارينز وزير الدفاع في حكومة نتانياهو، الامتناع عن عقد صفقة طائرات حربية مع الولاياتالمتحدة. وكان ارينز حريصاً جداً على تعزيز سلاح الجو الاسرائيلي بالطائرات الاميركية. وذهب الى الولاياتالمتحدة خصيصاً لعقد محادثات مع شركتي "بوينغ" و"لوكهيد مارتن" اللتين تصنعان آخر أنواع الطائرات الحربية الاميركية من أجل انجاز الصفقة معهما. ووصلت مفاوضات ارينز مع الشركات الاميركية الى مرحلتها النهائية. ولكن عندما طلب باراك من ارينز تأجيل البت في هذه القضية، امتثل لرغبته. تدل هذه السابقة، وغيرها على انه كان باستطاعة باراك، حتى بعد ان حلّقت الطائرات الاسرائيلية لضرب الأهداف اللبنانية، ان يطلب اعادتها الى قواعدها. ومن الارجح انه لو كان باراك يعتقد ان الغارات الاسرائيلية تنفذ "مناورة أعدها نتانياهو للإضرار به"، لما تردد في طلب وضع حد لهذه المناورة. ولكن باراك لم يفعل ذلك لأنه يعرف ان الطائرات الاسرائيلية المغيرة لم تكن تستهدفه وتستهدف سياساته المحتملة، وانما كانت تؤدي غرضاً آخر لا يدخل في نطاق الصراع الداخلي الاسرائيلي. * كاتب وباحث لبناني.