على رغم الخسائر التي لحقت الجيش الاسرائيلي في جنوبلبنان خلال العام 1996 بلغت 27 قتيلاً، صرح وزير الدفاع الإسرائيلي اسحق موردخاي في 31/6/1996، بأن اسرائىل "ستبقى في هذه المنطقة الشريط الحدودي المحتل إلى حين التوصل الى اتفاق يتحمل بموجبه عنصر مركزي مسؤولية المحافظة على امن سكان شمال اسرائيل وضمان حقوق جيش لبنانالجنوبي. وحتى تتسلم الوضع حكومة ذات قيادة مركزية". واصفاً ما يعانيه الجيش الاسرائيلي في جنوبلبنان ب "المشكلة المستعصية". وفي يوم 16/3/1998، عقب انتهاء الجلسة التي عقدتها الكنيست لمناقشة قبول اسرائيل تطبيق قرار مجلس الأمن 425 شرط التوصل الى ترتيبات امنية مسبقا مع الدولة اللبنانية الذي اعلنه اسحق مودرخاي، يوم 13/1/1998، صرح موردخاي، لمراسل صحيفة "هآرتس" بأن جيش الدفاع الاسرائيلي لن ينسحب من جنوبلبنان في ظل غياب اتفاق امني مع لبنان". وتابع "إنني اعتقد بأنه يجب بذل كل جهد للتوصل الى اتفاق بشأن انتشار الجيش اللبناني في جنوبلبنان ولكن مفتاح الموقف بيد سورية". وأضاف أنه لن يدعم فكرة إرسال قوات دولية الى جنوبلبنان لتحل محل الجيش الاسرائيلي "وجيش لبنانالجنوبي". ومن الضروري لفهم الأبعاد الحقيقية لهذين التصريحين، اللذين يفصل بينهما نحو 15 شهراً ولكنهما يتفقان في المضمون، القيام باسترجاع سريع للأحداث الفاصلة بينهما. خلال كانون الثاني يناير 1997 قتل اربعة عسكريين بينهم ضابط وجرح اكثر من 12. ومن ثم تصاعدت الدعوات في اسرائيل للبحث عن حل جذري لمشكلة الاستنزاف العسكري في "الحزام الامني" المستمر منذ العام 1985، الذي لم تجدِِ معه الردود النارية اليومية، البرية والجوية المعتادة، أو عمليتي "تصفية الحسابات" عام 1993 و"عناقيد الغضب" لعام 1996. لذلك اتجهت آراء العديد من السياسيين والعسكريين والصحافيين، فضلا عن قطاعات متزايدة من الرأي العام داخل اسرائيل، الى طرح فكرة الانسحاب من جانب واحد من منطقة "الحزام الأمني" في جنوبلبنان كحل جذري لمشكلة تزايد خسائر الجيش الاسرائيلي هناك بعد أن ثبت، بصورة نهائية، فشل "جيش لبنانالجنوبي" تماماً في حماية المنطقة المذكورة بدعم عسكري اسرائيلي محتمل من حيث الكلفة البشرية. وكان أبرز المنادين بهذا الحل النائب العمالي يوسي بيلين الذي صرح، يوم 29/1/1970، أن على اسرائيل سحب قواتها من جانب واحد في جنوبلبنان، نظرا لأنه لا مجال للتوصل الى اتفاق في هذا الشأن. معتبراً ان سورية ستحبط أي محاولات للتفاوض من اجل سحب القوات الاسرائيلية من جنوبلبنان كونها معنية ببقاء الاسرائيليين في تلك المنطقة لتبرير استمرار الوجود العسكري السوري في لبنان. كما اقترح ان يتولى وسيط دولي، كفرنسا او الولاياتالمتحدة، ترتيب الانسحاب المنظم مع الحكومة اللبنانية، وأن يطلب منها احترام الوعد بتجريد "حزب الله" من سلاحه. وقال إن على الوسيط المذكور إبلاغ السوريين انهم اذا شجعوا "حزب الله" على شن هجمات على اسرائيل بعد الانسحاب، سيدعم الرأي العام العالمي الرد الاسرائيلي. وفي يوم 4/2/1997 سقطت مروحيتان مخصصتان لنقل الجنود قرب الحدود اللبنانية - الاسرائيلية وهما تحملان 73 عسكريا بينهم 13 ضابطا كانوا في طريقهم الى الشريط الحدودي المحتل للحلول مكان وحدة اخرى هناك - إذ يمضي الجندي 15 يوماً ثم يجري تبديله دوريا - وقتل كل ركابهما. وطوال العام 1997 دارت مناقشات مختلفة واطلقت تصريحات عدة، من قبل الحكومة والمعارضة، ونشرت مقالات عدة في الصحف الاسرائيلية عن هذه المشكلة وكيفية مواجهتها، تبلورت في نتيجتها خيارات عدة للخروج من مأزق جنوبلبنان نوجزها في النقاط الآتية: أولا: خيار الانسحاب من جانب واحد. وهو الخيار الذي تبناه النائب العمالي يوسي بيلين وأنشأ من اجل تنفيذه "حركة من اجل الخروج من لبنان". عرضه في مناسبات مختلفة خلال العام 1997، فبالإضافة الى تصريحيه المشار إليهما مسبقا، يومي 29/1/1997 و8/2/1997 إذ قال في حديث مع صحيفة "الحياة" في لندن، نشر يوم 12/7/1997، أن اسرائيل "تريد الانسحاب الى أراضيها" على ان ينتشر الجيش اللبناني على جانبه من الحدود الدولية "ويصبح جيش لبنانالجنوبي جزءاً منه". واضاف ان القوات الاسرائيلية سترد إذا تعرضت لأعمال عنف تنطلق من الأراضي اللبنانية. كما أوضح أنه لا يستبعد "تفاهما بين اسرائيل وحزب الله" في هذا الشأن. إعلان حكومة الليكود على لسان اسحق موردخاي وزير الدفاع يوم 3/1/1998 قبولها تطبيق قرار مجلس الأمن 425 شرط التوصل الى ترتيبات امنية مسبقا من الدولة اللبنانية. وفي مؤتمر صحافي عقد في القدس يوم 2/12/1997 أعلن بيلين "خطة عمل" لانسحاب غير مشروط من لبنان جاء فيها: "تعلن إسرائيل عزمها على تطبيق قرار مجلس الأمن 425 الصادر عام 1978". و"تحمل اسرائيل الدولة اللبنانية مسؤولية الامن على طول الحدود المشتركة"، كما "تقوم اسرائيل في الاشهر الستة التي تلي هذا الاعلان بتعزيز خطوطها الدفاعية على الحدود الدولية عبر اقامة حاجز الكتروني وزرع الغام" وفي الوقت نفسه يجب العمل خلال هذه الاشهر الستة المذكورة "على ايجاد حل يضمن ألا يتعرض أعضاء ميليشيا جيش لبنانالجنوبي لأعمال انتقام بعد الانسحاب". وعلى ان "يتمركز الجيش اللبناني في منطقة الحزام الامني وينتشر على طول الحدود "تعاونه" قوات الطوارئ التابعة للامم المتحدة. ويمكن ان تشارك في ذلك قوات دولية اخرى. "في الوقت نفسه" تحتفظ اسرائيل لنفسها بحرية التحرك لحماية سكانها في حال استمرار الاعمال العدائية بعد الانسحاب، وتبلغ اسرائيل في هذه الحال سورية وإيران بوضوح انهما تتحملان نتائج ألاعمال العدائية من جانبها انطلاقاً من لبنان". هذا، وقد نشرت صحيفة "يديعوت احرونوت" يوم 9/3/1998، البنود الرئيسية في خطة "حركة من اجل الخروج من لبنان" الاسرائيلية التي يتزعمها يوسي بيلين، والتي لا تختلف كثيرا عن "خطة العمل" المشار اليها مسبقا المعلن عنها في 2/12/1997، باستثناء انها أكدت على ضرورة التزام الدولة اللبنانية ب"تنظيف" للمنطقة الواقعة تحت نفوذها من قوات "حزب الله"، وذلك بعد ان تنشر قواتها على طول الحدود الدولية بالتنسيق مع القوات الدولية. وانها تضمنت بنداً يقول ان على الولاياتالمتحدة ان تهدد: "سورية بفرض عقوبات عليها اذا حاولت افشال المبادرة" المذكورة. وباستقراء مجمل مقترحات يوسي بيلين نجد انها لا تختلف كثيراً عن مضمون اعلان حكومة الليكود على لسان اسحق موردخاي وزير الدفاع يوم 3/1/1998 قبولها تطبيق قرار مجلس الأمن 425 شرط التوصل الى ترتيبات امنية مسبقا من الدولة اللبنانية. ثانياً: خيار تصعيد عمليات الردع العسكري غير المباشر ضد لبنان. وهو الخيار الذي عبر عنه وزير الامن الاسرائيلي أفيغدور كهلاني، عقب مقتل ثلاثة من عناصر "جيش لبنانالجنوبي" وجرح خمس جنود اسرائيليين في عملية للمقاومة اللبنانية في جنوبلبنان، يوم 29/11/1997، في حديث للإذاعة الاسرائيلية قال فيه "كل مرة يقتل احد جنودنا في جنوبلبنان علينا مهاجمة اهداف استراتيجية مثل المنشآت الكهربائية أو شبكات توزيع المياه في بيروت، لأن تصعيدا من هذا النوع لعملية الرد يجبر الحكومة اللبنانية على الخروج من عدم مبالاتها وترسل قوات لقمع "حزب الله" في جنوبلبنان". وكان أرييل شارون، مخطط ومنفذ اجتياح 1982 ووزير البني التحتية في حكومة نتانياهو، طالب من قبل، خلال شهر اب اغسطس من العام ذاته، بالقيام بعمليات جوية دقيقة "على اهداف استراتيجية" في لبنان ردا على إطلاق المقاومة صواريخ على شمال اسرائيل لردع المقاومة. ورد موردخاي على اقتراح شارون هذا، في تصريح يوم 21/8/1998، بأن اسرائيل لن تقوم "بعملية تشكل مغامرة ولكن بهجمات على اهداف محددة بعناية من اجل ضرب حزب الله وتوفير الأمن لبلدات شمال اسرائيل". وأضاف، في اشارة الى "تفاهم نيسان" أنه يرفض "عمليات ستقضي على الترتيبات وتطال السكان المدنيين على جانبي الحدود". ويمكن ان نعتبر تصريح موردخاي هذا بمثابة رد مسبق على اقتراح كاهلاني اللاحق. ثالثاً: الردع غير المباشر ضد القوات السورية في لبنان. وهو خيار دعا إليه - على سبيل المثال - عوزي لاندو عضو حزب الليكود الحاكم بالنسبة الى القوات السورية الموجودة في لبنان إذ قال، في حديث للإذاعة الاسرائيلية يوم 30/1/1997، أن الهجمات ستتزايد ضد القوات الاسرائيلية في لبنان "طالما ان سورية لا تدفع الثمن" وعندما سئل عن الثمن الذي يتوجب على سورية ان تدفعه مقابل ذلك؟ اجاب بان "القوات الاسرائيلية يجب ان تثأر بالمقابل بعمل كمائن للمركبات العسكرية السورية"، بينما قال الجنرال أمنون شاحاك رئيس الاركان الاسرائيلي في اجتماع عقد بجامعة تل ابيب، في يوم 25/11/1997: "ان سورية في الوقت الحاضر هي العدو الأكثر خطراً على أمن اسرائيل" واضاف "ان الجيش الاسرائيلي يستطيع لو اراد ان يطرد السوريين من لبنان. لكننا لا نعرف ماذا سيحدث بعد ذلك". رابعاً: خيار بقاء الوضع على ما هو عليه. في 5/9/1997 قتل 12 عسكرياً اسرائيلياً في بلدة كمين انصارية. وفي 7/9/1997 قتل ضابط اسرائيلي برتبة ملازم أول في عملية للمقاومة اللبنانية. وفي اليوم نفسه أعرب الرئيس الاسرائيلي عيزرا وايزمان عن معارضته للانسحاب احادي الجانب من لبنان، مشيرا الى ان الملف اللبناني يجب ان يكون جزءا من اتفاق يتم التوصل اليه مع سورية. وقد ايده في ذلك وزير الدفاع الاسرائيلي اسحق موردخاي، الذي اوضح عدم جدوى مثل هذه الخطوة خاصة في ظل غياب سلطة جدية في لبنان تستطيع ضمان وقف العمليات ضد الجيش الاسرائيلي. واتخذ نتانياهو الموقف ذاته اذ قال، في اليوم نفسه "سأكون اول من يرغب في مغادرة لبنان، لكن لا اريد ان اترك على نحو يتعقبني معه لبنان الى شمال اسرائىل". ومع استمرار وتزايد تأييد الرأي العام، والكثير من النخبة السياسية الاسرائيلية، لفكرة الانسحاب الاحادي الجانب من لبنان، جرت مناقشة في الكنيست، يوم 10/9/1997، خصصت للبحث في المسائل الامنية، عاد فيها وزير الدفاع موردخاي الى مناقشة الموضوع فقال "ان الذين يقدمون مثل هذه الاقتراحات لايستخلصون العبر من الماضي وينسون ان مواطنينا تعرضوا لتسلل ارهابيين انطلاقا من لبنان، حتى اقامة منطقة الحزام الامني". وتابع معترفاً بأن "الثمن الذي يدفعه الجيش الاسرائيلي مرتفع"، إلا أنه اعتبر ان ليس هناك اي خيار آخر ما لم يتم التوصل الى اتفاق مع لبنان "على شروط الانسحاب الاسرائيلي الى الحدود الدولية". وفي 24/12/1997 زار الجنرال أمنون شاحاك الشريط الحدودي المحتل في جنوبلبنان يصاحبه الجنرال عميرام ليفين قائد المنطقة العسكرية الشمالية باسرائيل، ونقلت اذاعة "صوت الجنوب" عن شاحاك اشادته بدور "جيش لبنانالجنوبي" لافتاً الى "ان اسرائيل ستستمر في تقديم الدعم للسكان في المنطقة الحدودية حتى تحقيق السلام بين لبنان واسرائيل". ومن جهته، قال ليفين "إن المقاومة لم تستطع أن تزحزح الجيش الاسرائيلي من الشريط الحدودي سنتيمتراً واحداً وهي ستدفع الثمن". وفي اليوم التالي لتقديم موردخاي اقتراحه الخاص بتطبيق القرار 425 وفقا للشروط الإسرائيلية. قالت صحيفة "جيروزاليم بوست" في سياق تعليقها على الاقتراح المذكور، في 4/1/1998، أن الجيش الإسرائيلي فقد 39 قتيلاً في العام 1997، وأن هذه الخسائر تزيد بنسبة 50 في المئة تقريبا عن متوسط خسائره في الأعوام الثلاثة الماضية، من دون حساب خسارة ال73 جنديا الذين قتلوا في حادث اصطدام طائرتي الهليكوبتر في شباط فبراير 1997. وأن حزب الله خسر 60 قتيلاً نتيجة عمليات الجيش والطيران الاسرائيليين في العام نفسه، على حين ان متوسط خسائرة كان95 قتيلا في الأعوام الثلاثة السابقة. وبهذا يكون الجيش الاسرائيلي خسر - وفقا للمصادر الاسرائيلية - 419 قتيلاً عدا ال 73 الذين قتلوا في حادث اصطدام طائرتي الهليكوبتر فضلاً عن جرح نحو 1490 عسكريا، وذلك منذ انتهاء اجتياح لبنان في صيف 1982، أي منذ أن بدأت عمليات المقاومة اللبنانية. وعلى رغم ذلك صرح الحنرال أمنون شاحاك، يوم 21/1/1998 - بقدر ملحوظ من المكابرة - أن القوات الإسرائيلية قد تبقى "ألف سنة أخرى" في الجنوب ما لم تقدم السلطات اللبنانية ضمانات امنية. واضاف: "لا اعتقد انه يمكن التوصل الى حل ما لم نجد احدا في لبنان يتحدث الينا". ومساء 17/3/1998، عشية انعقاد جلسة مجلس الوزراء الاسرائيلي المخصصة لبحث الشؤون الأمنية المتعلقة بلبنان، في 18/3/1998، صرح منسق الانشطة الاسرائيلية في لبنان يوري لوبراني لمراسل صحيفة "جيروزاليم بوست" بأن "قرار مجلس الامن رقم 425 هو في رأيي، هو الاقتراح الوحيد القابل للتطبيق واعتقد انه يجب على الجميع دعمه واعطائه فرصة جيدة للتنفيذ قبل البحث في خيارات اخرى"، وتابع "ان الانسحاب من جانب واحد سيكون مسببا لكارثة"، وأوضح لوبراني انه لاحظ ان موردخاي اكد لقائد "جيش لبنانالجنوبي" اللواء أنطوان لحد اثناء، اجتماع به في حيفا يوم 17/3/1998، انه تحت اية ظروف لن تنسحب اسرائيل من منطقة "الحزام الأمني" من جانب واحد قبل التوصل الى ترتيبات امنية تشمل "جيش لبنانالجنوبي". وهكذا تتضح خلفيات مناورة اسرائيل المتعلقة بإعلانها قبول التطبيق، المشروط، للقرار 425. ويتضح أيضاً أن هذا الاقتراح ليس إلا غطاء إعلاميا لاستمرار اسرائىل في تبني خيار بقاء الوضع على ما هو عليه في جنوبلبنان، الأمر الذي لا يمكن ان يتحقق عملا، في ظل استمرار تبني المقاومة اللبنانية لخيار تصعيد كفاحها المسلح البطولي، من دون اللجوء الى أي من خيارات التصعيد العسكري المشار اليها مسبقا حتى يمكن ان تدفع المقاومة "الثمن" كما توعد شاحاك مهددا بالبقاء "ألف سنة" أخرى في جحيم "الحزام الأمني". باحث استراتيجي مصري، رئيس تحرير "الفكر الاستراتيجي العربي" سابقاً.