عندما باعت مؤخرا شركة صناعة السيارات الألمانية "بي. ام. دبليو" شركة "روفر" البريطانية الى كونسورتيوم فونيكس البريطاني، فانها عملياً تخلصت من عبء ثقل على ميزانيتها طوال سنوات ست من ملكيتها لروفر. البيع كان أشبه بالتنازل عن شركة سماها الألمان "المريض البريطاني" الذي لم تستطع الشركة البافارية أن تجد له دواء. فقد أثبتت روفر، وليد "بريتش ليلاند" العليل الذي حير حكومات العمال والمحافظين على مدى أربعة عقود، أن داءها مستعص على الشفاء. ولعل هذا ما يفسر اتخاذ بي. ام. دبليو قرارها "الشجاع" - حسب وصف المحللين الألمان - ليس لتحملها الخسائر خلال السنوات الماضية فحسب، بل لأنها أعطت فونيكس ما لا يقل عن 500 مليون جنيه استرليني كي تخلصها من روفر. روفر أرهقت بي. ام. دبليو، ثالث أكبر شركة المانية لصناعة السيارات، ما حدا بأكبر مالك لأسهم الشركة الألمانية عائلة كواندت التي تملك 84 في المئة من الأسهم للتهديد ببيع حصتها والقضاء عملياً على بي. ام. دبليو ما لم تتخلص من روفر. لقد حقنت بي. ام. دبليو شركة روفر بأربعة مليارات و500 مليون دولار في الأعوام الستة الماضية، وبتخلصها منها مؤخرا وضعت بي. ام. دبليو حدا لخسارة تعادل مليوني جنيه استرليني يومياً. ويتوقع المحلل الألماني يورغين بايبر من مؤسسة "بانكهوس ميتزلير" المالية ان تحقق بي. ام. دبليو من جراء التخلص من روفر أرباحاً كبيرة لارتفاع سعر سهمها المتوقع من يورو واحد عام 1999، الى 2.21 يورو عام 2001. الفرع البريطاني من شركة فورد التي أسسها أحد أبرز رواد صناعة السيارات الأميركي هنري فورد في مطلع القرن العشرين، ليست احسن حالا من شقيقها المريض روفر. فقد اعلنت الشركة قبل عشرة ايام قرارها اغلاق اكبر مصانعها في بريطانيا في الربع الأول من عام 2002، ما يؤدي الى فقدان 1900 عامل وظائفهم. وستركز فورد البريطانية على مصنعها الأصغر في منطقة دانيغهام في شرق لندن، ما يحقق لها وفراً يعادل مليار دولار سنوياً. فاخفاق فورد في السوق الأوروبية أمام المنافسة الشديدة من قبل شقيقاتها شركات صناعة السيارات الأوروبية، والشركات اليابانية، والآن الشركات الكورية، هو الذي يؤدي الى تراجعها. فقد بلغ انتاج فورد من السيارات في السوق الأوروبية مليونين و250 ألف سيارة في 1999، لم تبع منها غير مليون و650 ألف سيارة. وبرغم ان مبيعات الشركة في ذلك العام بلغت 30 مليون دولار، فإن ارباحها لم تزد عن 24 مليونا. وتعكس قصة روفر وفورد اخفاق صناعة السيارات البريطانية ككل منذ ان وجدت، في التصنيع والتقنية والتسويق في آن. فعندما كان هنري فورد يقطع أشواطا ثورية في اختراع وتطوير تقنيات الانتاج على نطاق واسع في اميركا، فإن صناعة السيارات في بريطانيا كانت تقوم على منتجين صغار ومتفرقين. فقد أظهرت دراسة نشرت في نهاية العام الماضي انه تم احصاء حوالي 130 شركة مختلفة كانت موجودة في مدينة كوفنتري البريطانية وحدها، برغم ان بعضها لم يتمكن من صنع سيارة واحدة. وبرغم تمكن بعض الصناعيين من انتاج انواع عدة من السيارات مثل ديمليرز ورايليز وبيستون وهوتشكيس وسنتور وستونلي، فإن أياً من هذه السيارات لم تصمد وتثبت جدارتها في السوق. إلا ان صناعة السيارات البريطانية شهدت نهضة ملحوظة في ثلاثينات القرن الماضي، حيث بلغ عدد العاملين في قطاعها مليون عامل ووصل انتاجها الى نصف مليون سيارة سنويا. وقد تصدرت قطاع هذه الصناعة سيارة رولز رويس المعروفة التي صنعت لنفسها وبلدها مكانة وسمعة في العالم، كسيارة وكمحرك أيضا. وبرزت انواع أخرى من السيارات في ذلك الحين مثل ترايومف وام. جي. وبينتلي وآستون مارت. وفي 1939 كان في بريطانيا 20 شركة مستقلة لصناعة السيارات، وتبوأ البلد المذكور موقع البلد الثاني في انتاج السيارات بعد الولاياتالمتحدة، لكن هذا الازدهار ما لبث ان خبا بعد سنوات عدة، وبالتحديد بعد الحرب العالمية الثانية. ويقول مستشار صناعة السيارات العالمي كارل لودفيغسن ان بريطانيا فوتت فرصة ذهبية في ذلك الحين "لأنها لم تستثمر في تطوير صناعة التصدير أو تطوير أسواق التصدير". وبدلا من ذلك، فإن مصنعي السيارات انتهجوا سياسة يطلق عليها لودفيغسن اسم Fortress UK أو "تحصين الذات في قلعة"، بتركيزها على السوق المحلية فقط وتجاهلها تطوير انتاج يخاطب العالم الأوسع. وتابعت بريطانيا سياسة التركيز على السوق المحلية في الوقت الذي كانت تنمو فيه منافسة عالمية في صناعة السيارات وتسويقها عبر العالم. ووصلت هذه السياسة الى الذروة في ستينات القرن الماضي عندما انضمت شركة أوستون موريس الى شركة ليلاند منتجة سيارات روفر وجاكوار وترايومف، لتشكيل شركة جديدة سميت ب"بريتش ليلاند". إلا أن العملاق الوليد لم يحقق التوسع الذي كان عليه أن يحققه، وبدأ يواجه صعوبات في عقد السبعينات من جراء ارتفاع معدلات التضخم وأسعار النفط في آن. الخبير لودفيغسن يوجه اللوم الى المسؤولين عن دمج الشركتين الذين يقول انهم "لم يستوعبوا جيدا كيف يمكن معالجة سوق السيارات في زمن العولمة، ما حدا بالحكومة الى التدخل للمحافظة على مكانة صناعة السيارات البريطانية". وبعد سلسلة من الاضطرابات والمواجهات بين النقابات والحكومة، تم تأميم بريتش ليلاند في 1977 في عهد حكومة جيمس كالاهان العمالية ووزير خزانته دنيس هيلي. وبعد عشر سنوات من ذلك التاريخ بدلت الشركة اسمها الى روفر. إلا أن المفاجأة الكبرى التي هوت على رؤوس مصنّعي السيارات البريطانية هي ادراكهم المتأخر لخوضهم معركة حامية مع شركات تصنيع السيارات العالمية، وخاصة الأوروبية واليابانية. وهذا ما لم يحصل في السوق العالمية بل في عقر دارهم، أي في الساحة البريطانية نفسها. والعلة تكمن في القرارات الخاطئة عبر تاريخ هذه الصناعة وليس في الفني البريطاني الذي أعادت الشركات اليابانية في الثمانينات اكتشافه، لتجد أنه لا يقل كفاءة عن الفنيين العاملين في الشركات المنافسة الأخرى. فقد أقدمت شركات نيسان وتويوتا وهوندا على تشييد مصانع لها فوق الأراضي البريطانية يقوم بتشغيلها فنيون بريطانيون، ولا تزال مصانع شركة نيسان في مدينة ساندرلاند في شمال انكلترا، تحقق أعلى معدل انتاجية في بريطانيا منذ ثلاث سنوات حسب سجلات فيدرالية الصناعة البريطانية. والنجاح الذي حققه اليابانيون في بريطانيا فشل المصنعون البريطانيون في تحقيقه فوق أرضهم، الى أن باتت أفضل الشركات البريطانية مملوكة من قبل شركات أجنبية. فسيارات رولز رويس وبينتلي المتميزة تملكها شركة فولكسفاكن، وبي. ام. دبليو اشترت روفر قبل ست سنوات، وأصبحت سيارات جاكوار وأستون مارتن جزءاً من ملكية شركة فورد العالمية. ومن دلالات التراجع الأخرى ان من يعمل في قطاع صناعة السيارات البريطانية الآن لا يزيد عددهم عن 800 ألف عامل، مقابل أكثر من مليون عامل في مطلع ثلاثينات القرن الماضي.