يوم طبّلت الصحافة العالمية وزمّرت ل"درس" الشطارة الذي لقّنه رئيس بي إم ف بيرند بيشتسريدر لرئيس مجموعة فولكسفاغن، فردينان بيش، في "بازار" بيع رولز رويس موتور كارز الصيف الماضي، كان مجرّد التشكيك في "حنكة" بيشتسريد نشازاً يُستحسن الإمتناع عن عزفه. كيف لا، وبيشتسريدر ترك بيش يشتري رولز رويس موتور كارز لقاء 430 جنيهاً إسترلينياً 700 مليون دولار، قبل أن "تخطف" بي إم ف إسمَ رولز رويس وشعارها معظم ما تبقى من قيمتها في الواقع لقاء 40 مليون جنيه 66 مليون دولار، من تحت أنف فولكسفاغن؟ لا شك في أن مناورة بيشتسريدر مع "رولز رويس بي إل سي" كانت ذكية راجع "الحياة"، عدد 1/8/1998، ص 12، لكن حجمها كان هامشياً جداً في زمن التحضير لإندماج ديملركرايسلر، و"تبضّع" بيش بضم ماركات لامبورغيني وبينتلي وبوغاتي وقسم من كوزوورث، الى ماركاته فولكسفاغن وآودي وسيات وسكودا. قياساً بحجم ديملركرايسلر، ثالث صانعي العالم من حيث العائدات، وفولكسفاغن، الصانع الرابع عالمياً من حيث الإنتاج، كانت عملية رولز رويس "مهضومة". لماذا سقط إذاً بيشتسريدر 50 عاماً، أو "إستقال" الأسبوع الماضي، وإستبدل به يواكيم ميلبرغ 56 عاماً رئيساً للمجموعة الألمانية؟ هل فقد بيشتسريدر مهارته فجأة؟ ليس أسهل من أن ينهال المرء بإنتقاداته على بيشتسريدر اليوم، وتحميله كل أخطاء بي إم ف وروفر ولاند روفر وغيرها. صحيح أن الرجل لم يكن بذاك التواضع... عندما أجاب مثلاً على سؤال صحافي فرنسي إستفسره الصيف الماضي عن صحة إشاعات إهتمام فولكسفاغن بشراء بي إم ف. رد بيشتسريدر يومها بما معناه أن لمقاطعة ساكسوني نحو خمس فولكسفاغن، "وإن شاءت البيع فنحن مهتمون بالشراء". لا يصعب إستشفاف روح النكتة في ملاحظة بيشتسريدر، لأن على بي إم ف أن تحترز بعض الشيء عندما تتحرّك فولكسفاغن... لئلا تقع في طريق الأخيرة. مع ذلك، من الغُبن لوم بيشتسريدر وحده، فهو نتاج "ثقافة" ماركة بي إم ف التي عمل لها 25 عاماً. ليست المشكلة في بيشتسريدر الذي دعمت بي إم ف خطواته كلّها، بل قد تكون للمشكلة أربع زوايا رئيسية، ثلاث منها جوهرية، والرابعة ظرفية: أولاً، هناك فكرة بي إم ف عن نفسها، وثانياً، هناك تأثير تلك الفكرة في دفع الشركة الى التوسّع بشراء روفر، ثم يأتي ثالثاً ضمُ ديملر-بنز مواطنة بي إم ف "اللدودة" لمجموعة كرايسلر كوربورايشن الخريف الماضي. أما العنصر الظرفي فهو إعلان الإتفاق على شراء فورد لقسم السيارات السياحية لدى فولفو، وسط جو من الإشاعات المثارة منذ بضعة أشهر عن الإندماجات وكأنها "حتمية تاريخية" والموضوع قابل للنقاش. فكرة بي إم ف فكرة بي إم ف عن نفسها؟ حققت الشركة الألمانية خطوات جبّارة خلال عقود قليلة، حتى احتكرت عملياً صورة ماركة السيارات الفخمة والرياضية في آن، خلافاً لمنافساتها، وأهمها مرسيدس-بنز التي كانت معروفة آنذاك بميل فخامتها الى طابع الرزانة والمحافظة. لكن نجاح بي إم ف بلغ حد تخطّيها لمرسيدس-بنز في إنتاج السيارات السياحية، وللمرة الأولى في تاريخ الشركتين: 580 ألف بي إم ف في مقابل 531 ألف مرسيدس-بنز 1992، ثم 510 آلاف في مقابل 481 ألفاً 1993. لا يصعب تصوّر الحالتين النفسيتين في 1993: بي إم ف في أوج نشوتها وشعورها بإمكان القفز فوق الحواجز. وفي موازاة إعداد مصنع جنوب كارولاينا في الولاياتالمتحدة لبدء إنتاجه في أيلول سبتمبر 1994، تم شراء مجموعة روفر أوائل تلك السنة. أما الحالة النفسية المقابلة فيمكن لمرسيدس-بنز أن تشكر بي إم ف عليها، ولو جزئياً، لأن تفوّق الأخيرة ساهم في تسريع إعادة ديملر-بنز تخطيط إستراتيجيتها للتركيز على قطاعات وسائل الحركة جواً وبراً، وحول صناعة السيارات كمحور أساسي، مع هدف تخطي المليون سيارة قبل العام 2000 4.4 مليون سيارة لديملركرايسلر في 1998، منها أكثر من 850 ألف سيارة سياحية من مرسيدس-بنز. وإكتملت الإستراتيجية برسم خطة توسع لا أوروبي-أوروبي كما فعلت بي إم ف بل أوروبي-أميركي، مع إمكان إتساعه يابانياً مع نيسان. بل حتى منتوجات الماركتين تحوّلتا في سنوات قليلة: موديلات بي إم ف أصبحت أكثر محافظة... وموديلات مرسيدس-بنز أصبحت الأكثر فتوة وتنوّعاً! شراء روفر في نشوة نمو أوائل التسعينات، كانت القفزة في إتجاه روفر طبيعية: مجموعة برسم البيع، وتضم ماركة دفع رباعي لاند روفر لها شهرتها وخبرتها منذ عقود، وماركة أخرى للسيارات السياحية الصغيرة الى الكبيرة، بدفع أمامي. والعنصران غائبان عن تشكيلة بي إم ف، فما المانع من التوسع طالما لن يحصل أي تآكل في المبيعات بين الماركات الثلاث: بي إم ف، روفر ولاند روفر؟ ليس أصل مشكلة روفر في روفر نفسها، ولا هو في بي إم ف. روفر ماركة عُرفت منها موديلات رائعة، قبل أن ينتهي بها الزمن مؤممة، ثم في مجموعة لا علاقة لها بالسيارات: بريتش أيروسبايس. فعندما إشترت الأخيرةُ مجموعةَ روفر من الحكومة البريطانية في آب أغسطس 1988 لقاء 150 مليون جنيه إسترليني، لا يبدو أنها كانت تفكّر في الإنفاق لتطوير روفر والإستثمار فيها للمدى البعيد، بل إكتفت بالتقيّد بشرط عدم بيعها قبل خمس سنوات. وفي الذكرى السنوية الخامسة طبقاً، بدأت تتوالى الأخبار عن "إمكان بيع مجموعة روفر"، وبيعت بعد أشهر قليلة الى بي إم ف في حالة لا تُحسد عليها أبداً. نتيجة الأمر: إشترت بريتش آيروسبايس مجموعة روفر ب 150 مليون دولار في 1988... وباعتها لقاء 800 مليون إسترليني 2.1 بليون دولار بعد خمس سنوات فقط لا غير. ويصعب عدم الإبتسام عندما يتحدثون اليوم عن مخاوف البريطانيين من خطر عدم إكتراث الألمان بمصير روفر، إذ إستثمرت بي إم ف أكثر من 6 بلايين مارك 5.3 بليون دولار في روفر منذ شرائها في 1994! لو فعلت بريتش آيروسبايس بعض ذلك لما كانت روفر حيث هي اليوم. ولأن ذهنية بيع "فضّية العائلة" لم تنحصر بمصير روفر وحدها، لا بد من التذكير بأن رولز رويس "العريقة الأرستقراطية" بيعت الى مجموعة فيكرز البريطانية أيضاً، لقاء 38 مليون جنيه إسترليني في 1980، ثم باعتها الأخيرة لقاء 430 مليون جنيه وفوقها 120 مليون جنيه/196 مليون دولار إضافية لقاء قسم من كوزوورث في 1998 الى فولكسفاغن، من دون أن ترهق فيكرز نفسها كثيراً في الإستثمار في رولز رويس وموديلاتها. دمج ديملركرايسلر كان من الممكن أن يستمر تأييد بيشتسريدر حتى العثور على إستراتيجية أكثر وضوحاً لروفر. بل كان الرجل يعد بوقف نزيف روفر إبتداء من العام 2000. لكن الضربة النفسية الكبرى تمثّلت بكلمة واحدة: ديملركرايسلر. فجأة، بين ليلة وضحاها، أصبحت ديملركرايسلر ثالث صانع سيارات في العالم من حيث العائدات... وعادت بي إم ف، مع فرعها روفر، "إحدى" شركات السيارات. أسوأ من ذلك، لم تنجُ بي إم ف من موجة إشاعات الضم مثل فولفو ونيسان وهوندا، على الرغم من تأكيدات عائلة كواندت Quandt التي تملك نحو 46 في المئة من بي إم ف، حرصها على إستقلالية الشركة تماماً. بل حتى جاك نصر، رئيس فورد الجديد، أعلن حديثاً أنه يحترم رغبة الإستقلالية تلك، ولن يتحدث في شأن ضم بي إم ف إلا إذا شاء أصحابها ذلك. فورد-فولفو وما أن إندمجت ديملركرايسلر رسمياً الخريف الماضي، حتى إزداد الضغط النفسي من جديد بإعلان الإتفاق على بيع قسم فولفو للسيارات السياحية الى فورد لقاء 45.6 بليون دولار. وقد يكمن هنا العامل الظرفي الذي حوّل الهواجس الى قلق يتعذّر تحمّله بعد الآن. وهل يُعقل أن تبقى الأمور على حالها لدى بي إم ف، والعالم كله يتحرّك من حولها؟ لا بد من تغيير. وإن لم يكن لهذا التغيير أن يحصل في دمج الشركة ضمن مجموعة أكبر منها، فلا بد من أن يحصل ضمن الشركات التي تؤلفها. ومن هو المسؤول عن رهان روفر التي ستخسر نحو 590 مليون دولار في 1998... بعد إنفاق ما لا يقل على 5.3 بليون دولار عليها؟ أَحضِروا بيشتسريدر.