ألا يحدث أن نلتفت يوماً الى الرتابة التي تحيطنا فيقع بصرنا على شيء يجعل القلب يفر من قفصه كعصفور تحرّر للتوّ؟ وفجأة يولد شغف جديد ما كنّا نحسب له حساباً! هذا ما يحصل لكثير من الأجانب عندما يزورون بعلبك ويدخلون محترف "أصيلة" حيث يغرقون في بحر من الأزياء الشرقية ويروحوا، مثل طفل وجد كنزاً من الدمى، يجربون ويغيرون أمام المرآة، غير مصدقين انهم وقعوا في شغف ما كانوا يتوقعوه. ويتذكر حارث حيدر المهندس المهووس بالتراث والأرتيزانا والذي نذر حياته وما له، لهاجس الجودة في الأشغال اليدوية عندما زارت مغنية الأوبرا الأميركية العالمية جون اندرسن محترفه الصيف الماضي. ويقول: كانت اللحظة بالنسبة اليها مميزة الى حدّ بعيد. دخلت المحترف ومعها احدى سيدات لجنة مهرجانات بعلبك وأحد مرافقيها. وعلى الفور أحسّت أنها تملك المكان من دون أن تشعرنا بالخسارة، بل بالعكس، كنا سعداء بتلقائيتها العفوية. وكانت كلما ارتدت زيّاً تتمشى وتتلفت الى المرايا وتتساءل، ثم تخرج الى الحديقة لتأخذ رأي أصدقائها الذين كانوا يتناولون المرطبات هناك. أخيراً اختارت عباءة وبر نجفيّ مشغولة ب"الطرق" البعلبكي فوق فستان أسود مؤزر حول الخصر والعنق وقررت أن ترتديه وتغني ذلك المساء على مسرح جوبيتر". منذ 12 سنة، بدأ حارث المغامرة مع شريكته نجوى الرفاعي سنّو وهي مصممة أزياء من العيار الثقيل إذا صحّ التعبير، ناهيك عن كونها زنبرك الحركة أو ملكة القفير، وسرعان ما اكتشفا كنزاً بشرياً توارث الصناعات اليدوية التقليدية منذ مئات السنين. "كأننا اكتشفنا من جديد" تقول نجوى "ان طريق الحرير القديمة كانت تمرّ في بعلبك. وكم كانت دهشتنا كبيرة حين وجدنا آثار تلك الطريق حيّة تناقلتها الأيدي والأصابع والخيطان والأقمشة التركمانية من طراريح وملابس مجرّد مصادفات عشوائية من دون خلفية وطيدة، فلما قاربنا التركمان لنتعاون معهم تبيّن لنا العكس: ألوانهم الصارخة ومخرماتهم الدقيقة نابعة من بنائية موروثة يدافعون عن تفاصيلها بضراوة لا تقبل الجدل". ويروي حارث كيف أقنع التركمان بنقل ما يطرزونه على الطراريح الى السترات والعباءات فيقول "اكتشفت أنهم يعملون بسليقة شاملة، أي من دون قياس، وكان عليّ أن أقنعهم بسليقة شاملة، أي من دون قياس، وكان عليّ أن أقنعهم باستعمال القياس حفاظاً على انسجام التصاميم، فأخذت قشة قمح ورحت أقيس بها أمامهم حتى استوعبوا. هم علّموني ألوانهم وأقمشتهم وأنا أدخلت على أشغالهم تطورات أنعشت صناعتهم". تأتي "أصيلة" بالأقمشة من دول الجوار خصوصاً سورية والعراق، لكنها تستورد أيضاً من الشرق الأقصى، الا أن أشغالها الحرفية من خياطة و"طرق" وتطريز وأويا وكروشيه تحصل كلها في المحترف الذي أقيم خصيصاً لهذا الغرض في بعلبك. والواقع أن جون اندرسن ذهلت لدى معرفتها بأن كل قطبة في ثوبها وفي عباءتها مصنوعة باليد وبالطبع سألت عن عنصر الوقت فأجابها حارث أن بعض التصاميم تستغرق شهوراً وهي ذات دقة متناهية، لا تقبل الخطأ، فقالت "انها تماماً كالأوبرا".