في أرجاء معبد باخوس إنساب صوتها مثل برشامة من رحيق: جون اندرسن مغنية الاوبرا العالمية أعادت ذهب الذاكرة الى الجمهور المرهف الذي هبّ يحيي ابداعها في حماسة خاشعة تقرب الصلاة. وحدها مع عازف البيانو جيف كوهن، قالت جون اندرسن بكل جوارحها "توهّج وكن فرحاً" من كانديد بيرنشتين، كما انشدت في احتراف. وجاء إنشادها الرقيق متنوعاً في تسلسل شفاف سرعان ما تحوّل الى مغناط خطف ألباب الحاضرين وجعل الاصغاء متعة وجدانية خالصة. لا شك ان المكان لعب دوره في تأليق اللقاء، فالجدران الرومانية التي خرّمها الزمن وبقيت على شهقتها العالية وإطارها الخلاّب لا تضاهيها دار أوبرا، ولا ريب ان أندرسن أخلدت الى سطوة المكان وانضوت في موسيقاه الخفية رافعة صوتها كشراع، حملنا خفافاً نمو آفاق قزحية هازجة حيناً، عاطفية احياناً. قوّتها الظاهرة بوضوح لا يقبل الجدل تتجلّى في نتيجة ادائها الذي وحّد ردّ فعل الجمهور، لا من عدوى ترويجية تقودها مفرقعات الاعلان والموضة، بل من سطوع الموهبة المصقولة بسنوات التجربة والتدريب والمراس. وايضاً من ادراك غريزي، بات مع الوقت مجهراً يستشف الدواخل ويلجها ولوج الفارس في الحلبة. روعة جون اندرسن ان غناءها يمتلكك ويحيلك الى اصغاء مبرم، وبقدر ما تعيش لحظة العناق الحميم مع جمهورها تراها احتفظت حتى الوهلة الاخيرة بتاجها المرصع بالمجد الاوبرالي الخالد. في أوبرا "الناي السحري" لموتسارت كانت اندرسن "ملكة الليل" وما انخدش بريق في جواهر ذلك التاج ليلة انشدت في بعلبك. نايلة دو فريج، من لجنة المهرجانات، رأتها العام الفائت في باريس وعادت الى بيروت متحمسة لدعوتها الى بعلبك، لكنها لم تكن تعرف حتى آخر السهرة كم كانت ستكون موفقة في اختيارها. تقول جون اندرسون "أنا في الأساس ممثلة"، وتضيف "ولذا أحبّ الأوبرا المسرحية. الملابس. الاضواء. الدراما". وتعرب، حتى اليوم، عن اندهاشها كونها لم تتوقع الوصول الى ما وصلت اليه. أي ان تغني مع عمالقة مثل بافاروتي وبيرنشتين. وما زالت تقول ان قدرها كان يمكن ان يختلف. فهي درست الأدب الفرنسي في جامعة بيل وكانت تزمع دراسة الحقوق. "كنت أغني سراً"، تقول ضاحكة "ولم يعرف أحد من رفاقي في المدرسة أنني سأفكر يوماً بمهنة في مجال الموسيقى". إلا ان ذلك لا يعني تجاهلها لموهبتها، بينها وبين نفسها على الأقل. في السابعة عشرة كانت جون اندرسن أصغر المرشحات لدخول اختيارات الميتروبوليتان أوبرا، لكن عمرها كانت تنقصه سنة كي يحق لها الدخول. وبينما كانت تدرس موليير وتغني في غرفتها تعرّفت الى شاب سعودي وصادقته. "كان يغني بلا انقطاع". تتذكر جون "واخبرني رفاقه انه يرندح هكذا على الدوام في غرفته". ذلك الصديق السعودي شجّع اندرسن الخجول على اقتحام عالم الاوبرا، التي قفزت الادراج العالية وأنشدت في معظم عواصم العالم والى جانب الكبار في المهنة. ولا تخفي جون اندرسن انجذابها القويّ الى المؤلف وقائد الاوركسترا ليونارد بيرنشتين: "المرء لا يعمل دائماً مع شخص مثير مثله. فهو يسمح لك باطلاق افكارك، كما ينطلق بافكاره فتأتي النتيجة انفجار افكار". شراكتها مع جيف كوهن تعود الى عشر سنوات مضت عندما التقيا في بالتيمور بينما كانت اندرسن تبحث عن عازف بيانو يرافقها في امسياتها الافرادية. وكوهن الذي عاش 25 سنة في فرنسا مرافقاً لمطربين عدّة، كاتباً موسيقى افلام اوروبية تقاسم مع اندرسن حبّ الاوبرات الغنائية ميوزيكال. وتقول جون ان من ينشأ في الولاياتالمتحدة لا يمكن الا ان يعشق الميوزيكال. وعبر لقائهما تولدت فكرة الامسيات الغنائية الحرّة، حيث يمتزج الاقتطاف من الاناشيد الاوبرالية باغنيات معروفة من "الملك وأنا" و"كاروزيل" وما يشابهها من تحف الميوزيكال الاميركي. مما يؤدي الى اجتذاب الجمهور "العادي" نحو الفن الاوبرالي الرفيع. فبينما يقسِّم كوهن على البيانو تخبر جون الحاضرين قصة "لاترافياتا" بكلمات موجزة وتقدم لهم مقطعاً منها. روسيني، ليسزت، بولنك، فيردي، اولاً في باخوس وتالياً في جوبيتر مع الفرقة النيلهارومونية الارمنية، وقولنا مع القائلين: ليتها تبقى أطول!