تستعد مدينة الشمس لاستقبال ما لا يقل عن ثلاثين ألف ضيف بين منتصف تموز يونيو الجاري ومنتصف آب أغسطس المقبل. وعلى رغم الضربة الإسرائيلية اللئيمة التي أصابت الموسم السياحي بقدر ما أصابت الجسور والأرواح، انتفضت حركة الاقبال على شراء البطاقات للمهرجانات التي تبدأ بعد ثلاثة أيام، اضافة الى أن المقبلين من الخارج استعادوا رباطة جأشهم، وبدلاً من التردد قرر معظمهم المشاركة في وقفة لبنان أمام التحدي الغاشم، وذلك بدعم "بيروت عاصمة ثقافية للعالم العربي" هذا العام ودعم النهوض المعنوي الكبير الذي تمثله الثقافة في لبنان، وعلى رأسها مهرجاناته الفنية المميزة. ولا يغيب عن زائر المدينة هذه الأيام ذلك الاحتشاد المعروف حول فندق "بالميرا" المقابل للقلعة حيث ينزل أفراد الفرق الفنية خلال تمارينهم، خصوصاً فرقة كركلا التي ستقدم عملاً لعلّه أضخم أعمالها حتى اليوم. بين الحادي عشر والرابع عشر من آب أغسطس المقبل يقدم عبدالحليم كركلاّ مغناته الضخمة التي استوحاها للمسرح الراقص الشاعر طلال حيدر من "جعجعة بلا طحين" لشكسبير وكتب لها القصائد الشاعر سعيد عقل. أما الموسيقى فمن تأليف مارسيل خليفة، توفيق الباشا، زكي ناصيف، شربل روحانا وايلي شويري. ويضم الفريق الفني أيضاً معلم الباليه توراو سوززوكي ومصمم الكوريغرافية كارلو شينتولا فينيا، ومهندس الإضاءة آلان بوريت وريمون جبارة مستشاراً فنياً، ناهيك بأليسار كركلا وايفان كركلا لتصميم الرقصات والاخراج. وتفتتح بعلبك مهرجاناته بالظاهرة الموسيقية فانيسا مي، وهي شرق آسيوية عاشت وتدرّبت على الكمان في لندن. دروسها الموسيقية الأولى في البيانو أفصحت عن موهبة خارقة، باكرة، شبيهة حسب قول النقاد بموهبة موتسارت ومندلسن. كانت فانيسا في الخامسة من عمرها حين بدأت تعزف الكمان في اتقان قلّ نظيره. وفي الثامنة من عمرها حصلت على الجائزة الأولى للعزف على البيانو في فصيل سنّها عبر المملكة المتحدة، مما وضعها في حيص بيص بين الآلتين. إلا أنها مع بلوغها الثالثة عشرة كانت سجّلت ثلاث مجموعات على الكمان لتشايكوفسكي وبيتهوفن، كما كانت عزفت مع فيلهارومونية لندن. يصفها النقاد بأنها "انفجار" في أدائها الحيّ. ولم تكن دوراتها المكوكية حول العالم وابتكاراتها المستمرة في تقريب الكمان الكلاسيكي من الأذن العامة سوى اشارة الى انها بعد 250 مدينة في 35 بلداً ستصل الى هياكل بعلبك لتفتتح قبل أقلّ من نصف عام على نهاية الألفية الثانية! في الثالث والعشرين من تموز يونيو الجاري "تلعلع" منشدة الفلامنكو النارية كارمن ليناريس على مدرّج جوبيتر ترافقها فرقة ايفا لاييربابوينا للرقص الإسباني التقليدي. وليناريس التي تحمل اسم مسقط رأسها شاركت في أبرز مهرجانات الفلامنكو العالمية وسجلت للسينما والتلفزيون عدداً هائلاً من الأعمال الناجحة، حتى وصلت الى قمة الشهرة والمصداقية في أحد أكثر الفنون تحدّياً وعاطفة. لصوتها وضوح نهار ربيعي مشمس وهدير نهر تنصب فيه قمم بيضاء. بسيطة، مباشرة، قوية من دون مبالغات أو فذلكات مسرحية. ولا يتسع المجال هنا لتعداد جوائزها أو تجلّياتها الى جانب موسيقيين وراقصين من زبدة الواجهة المشهدية حول العالم. ولكن لنستمع الى جان ماري بادوفاني، عازف السكسفون الشهير: "تقنيتها الصوتية تخطف الأنفاس. انها تمثل أعظم أصوات الفلامينكو في عصرنا". عن اسطوانتها "قمر الريّو" حازت ليناريس على جائزة الأكاديمية الفرنسية عام 1991 ويصفها الكاتب الاسباني انتونيو مولينا بقوله: "كما هي الحال دائماً في الفن، ان ما يأتي من الذكاء والقلب معاً يطاول الجميع، حتى أولئك المندفعين من دون انتباه مع السابلة". في التاسع والعشرين من الشهر نفسه تحلّ على معبد باخوس الأوبرالية البارغة جون اندرسن، وفي اليوم التالي تحيي مع الفيلهارمونية الأرمنية حفلة ثانية في جوبيتر. بين أوروبا والولايات المتحدة أنشدت أندرسن في معظم الصالات الكبرى وفي قيادة أبرز "شيفات" الأوركسترا العالميين أمثال ريكاردو موتي، وغويسيبي سينوبولي، وجيمس ليفن. كما غنت الى جانب بافاروتي أجمل أعمال فيردي، والى جانب بلاسيدو دومنيغو في الرويال أوبرا، في كوفنت غاردن. ويرافقها على البيانو جيف كوهن رابح الجائزة الأولى للعزف على البيانو وموسيقى الغرفة من الكونسرفاتوار الوطني الفرنسي. وفي مناسبة وجود الفرقة الفيلهارومونية الأرمنية المؤلفة من 56 عازفاً بقيادة المايسترو لوريس تجيكافوريان، ستؤدي الفرقة حفلة مستقلة في الأول من آب أغسطس على مدرج جوبيتر يحتوي برنامجها الكلاسيكي مقطوعة سمفونية لمدير الكونسرفاتوار الوطني اللبناني وليد غلمية. في السابع من الشهر نفسه يلتقي الجمهور اللبناني والعربي معشوقهم القديم الدائم التجدد شارل أزنافور، الفرنسي الأرمني الأصل الذي صدحت أغنياته من غير أن تبهت طوال نصف قرن، وما زالت حفلاته تجذب مئات الألوف على ضفتي المحيط الأطلسي. ويشتهر أزنافور بأنه يصرّ دائماً على ترجمة أغانيه الى لغة البلد الذي يستضيفه لكنّه ربّما لن يفعل ذلك لأن جمهوره في لبنان والبلاد العربية يفضل النسخة الأصلية التي اعتادها وأحبها على مدى الحقب. أخيراً وليس آخراً يستقبل معبد جوبيتر في العشرين والحادي والعشرين من آب أغسطس المقبل واحداً من أبرز الموسيقيين المجلّين في نطاق موسيقى العالم، اللبناني ربيع أبو خليل. عازف العود الذي أخذ موسيقاه الى قلب العالم الغربي واستطاع خلال السنوات العشر الأخيرة أن يخترق مهرجانات مونتريال ونيويورك وباريس وصولاً الى تايوان، مؤدياً "جازياته" الصاهرة موسيقى الشرق بموسيقى الغرب، الخالصة الى أداء كونيّ يتخطى كل حدود وكل اعتبارات الا اعتبار الجمال والذائقة العالية. العام الماضي قدّمت مهرجانات بعلبك الى جمهورها موهبة لبنانية أخرى هي فاديا الحاج المتخصصة بإنشاد أوبرالي متوسط ضمن فرقة المانية ذات شغف بموسيقى القرون الوسطى. لكن ربيع أبو خليل يأتي من الراهن، ومن المستقبل ولديه جمهور واسع يتذوق عودة الممزوج بإيقاعات مفاجئة، و"سحبات" درويشية ملهمة.