بعد فترة هدوء نسبية لم تدم طويلاً، عادت صراعات إيران الداخلية بين الإصلاحيين ومناوئيهم من الدينيين المحافظين لتشهد دورة جديدة من الغليان. لكن اللافت ان التيار الديني أصبح يفضل التركيز، في الجولة الحالية، على القاعدة الثقافية والصحافية لتيار الاصلاحيين المؤيد للرئيس محمد خاتمي. وعلى رغم ان أحداث الفترة التي أعقبت الجولة الأولى من الانتخابات البرلمانية الأخيرة أشارت إلى تواصل الصراعات الإيرانية، فان قرار محكمة دينية خاصة اغلاق اثنتي عشرة صحيفة ومطبوعة إصلاحية، وسجن عدد من الصحافيين، وتوجيه انذار شديد اللهجة إلى الدكتور رضا خاتمي، شقيق الرئيس الإيراني وناشر صحيفة "مشاركت" الإصلاحية، إضافة إلى تركيز الانتقادات على وزير الثقافة عطاالله مهاجراني واعتقال عدد ممن حضروا مؤتمر برلين الأخير، توحي بأن الصراع المحتدم لا يمكن ان يكون مجرد انتقام نفسي للمحافظين من هزيمتهم في الانتخابات، ولا مجرد حرب صحف محدودة. فالأرجح أنه يخفي أهدافاً سياسية أوسع من موضوعة الانتقام، وتمهيداً لمعركة رئيسية ينوي المحافظون منها إعادة التوازن إلى ما كان قبل ان يختل بينهم وبين الاصلاحيين بفعل نتائج الانتخابات البرلمانية. وما يزيد من وجاهة استنتاج كهذا، ان التيار المحافظ اختار توقيتاً ذكياً لحملته التي بدأت، أو تفاقمت، مع كلام المرجع الديني الأعلى آية الله علي خامنئي اذ شدد على ان صحفاً إيرانية تحولت إلى "مراتع لأعداء الإسلام". والواقع ان التيار الديني المحافظ الذي انتظر طويلاً موقفاً كهذا من خامنئي لم يدع الفرصة تفوت، بل سارع إلى استغلالها واطلاق حملته تحت يافطة الكلام المرجعي. ولم يفد في وقف الحملة مديح خامنئي لخاتمي واعتباره من الأبناء البررة للإسلام والنظام الإسلامي الحاكم. وبالنسبة الى التوقيت، يشار إلى بدء الحملة قبل معاودة البرلمان الجديد الذي يشغل الاصلاحيون نسبة كبيرة من مقاعده، أعماله نهاية الشهر المقبل. كذلك تزامنها مع تباطوء مجلس صيانة الدستور بتعيين موعد الجولة الثانية من الانتخابات البرلمانية في دائرة طهران التي تعتبر أهم الدوائر الانتخابية في إيران، على رغم تصريحات أشارت إلى أن هذه الجولة في بقية الدوائر ستُجرى في الخامس من أيار مايو المقبل. والواقع ان احتدام الصراعات في توقيت كهذا، لا يمكن ان تقتصر تأثيراته على جولة الانتخابات المقبلة، ولا على من يشغل رئاسة البرلمان التي يتطلع المحافظون إلى هاشمي رفسنجاني لشغلها، بل على خيارات خاتمي في تشكيل الحكومة المقبلة بعد بدء البرلمان الجديد أولى دوراته. إذ بينما تشير التكهنات إلى عزم خاتمي تشكيل حكومة اصلاحية بحتة تتولى تنفيذ برامجه الاصلاحية على الصعيدين الداخلي والخارجي، تؤكد الأحداث الراهنة ان المحافظين غير راضين البتة بتغييبهم عن أي حكومة جديدة. فالتيار الديني الذي يعتبر نفسه الوريث الشرعي والحقيقي لثورة الخميني ونظامه وتراثه السياسي والديني، لا يمكن أن يتراجع ويخلي الساحة بسهولة لأشخاص لم يرافقوا مسيرة الخميني ولم يتحملوا عذابات الثورة في بداياتها، على ما يرى رموز في التيار المحافظ منهم رفسنجاني نفسه. إلى ذلك كله، تمكن الاشارة إلى هدف رئيسي آخر يحاول المحافظون تحقيقه من جولة صراعاتهم الراهنة مع تيار الاصلاحيين: ذلك هو تفتيت قوة الصحافة التي أصبحت تشكل الدعامة الرئيسية للاصلاحيين في المرحلة الحالية. والواقع ان المحافظين اعتمدوا في السابق، قبل الثورة الخمينية وبعدها، على المساجد وخطب الجمعة، كأهم الوسائل إعلاميا ودعائيا للوصول إلى عقول الناس وعواطفهم. لكن الاصلاحيين الذين اخفقوا في الوصول إلى المساجد، نجحوا في تحويل الصحافة إلى وسيلة إعلامية ودعائية منافسة لها. ولا أدل على ذلك من الاشارة إلى أن مؤشر توزيع صحيفتي "مشاركت" و"صبح أمروز" الاصلاحيتين، وهما بدورهما أُغلقتا في وجبة اغلاق جديدة، وصل في الأسابيع الأخيرة إلى مليوني نسخة في اليوم. وهذا واقع لا يرضي المحافظين، بل يدفع بهم إلى العمل من أجل ضربه كما ضربوا في الماضي التجارب الناجحة للاصلاحيين في ميدان المجالس البلدية. والحقيقة ان ما يغري المحافظين بنقل معاركهم ضد الاصلاحيين إلى ميدان الصحف، واقع ان معارك من هذا النوع تلقى تأييداً واسعاً بين نسبة عالية من الشبان الريفي والشرائح غير المتعلمة في إيران، وكذلك جنود الحرس الثوري وقوات التعبئة وعناصر الأمن والاستخبارات، إضافة إلى طلاب الحوزات العلمية. فهؤلاء قد يصعب اقناعهم بمقارعة اصلاحات اقتصادية وسياسية، لكن الأكيد ان اقناعهم بمقارعة الصحف ومطاردة الرأي وحرية التعبير وتيارات الثقافة، تحت يافطة تعارضها مع الإسلام والتعاليم الدينية، أمر في غاية السهولة. والسبب في هذه الحال شعور هؤلاء بكره خاص لكل ما هو ثقافي وعصري وتعليمي. وأخذاً لخلفيات هذا المشهد الإيراني في نظر الاعتبار، يمكن ترجيح ان التيار الديني المحافظ سيسجل انتصاراً ملحوظاً في معركته الحالية ضد الاصلاحيين. ويمكن الترجيح أيضاً بأن يضطر زعماء الاصلاح، وفي مقدمهم الرئيس خاتمي، إلى قبول تنازلات من نوع تسليم رئاسة البرلمان وحقائب وزارية معينة، في التشكيلة الحكومية المقبلة، إلى خصومهم. إلى ذلك، يمكن دفع الاصلاحيين لأن يقبلوا مبدأ وضع قيود وضوابط معينة على حرية الصحافة بما يضمن تقليل عدد الصحف الصادرة، كما يمكن حمل خاتمي على ان يوافق على كبح سياسات الانفتاح على دول معينة، كدول الخليج والولايات المتحدة وبريطانيا. لكن المشكلة ان تنازلات من هذا القبيل، حتى إذا ارتضاها خاتمي بهدف تجنب دفع الأمور نحو مواجهات دموية، قد لا تلقى تأييداً من القوى الرئيسية بين مؤيديه، خصوصاً أوساط طلاب الجامعات. والواقع ان اشارات في هذا الخصوص بدأت تتضح من خلال الاعتصامات والتظاهرات الواسعة التي ينظمها طلاب مختلف الجامعات الإيرانية احتجاجاً على اغلاق الصحف الاصلاحية. وخلاصة القول، ان تيارات التغيير والاصلاح والديموقراطية لم تعد ضعيفة في إيران ولم يعد ممكنا استئصالها بسهولة. فهذه التيارات التي بلغت مرحلة النضج قد ترضى بتقديم تنازلات محددة إلى التيار الديني المحافظ بهدف تجنب الفوضى وانفلات الوضع. لكن المشكلة ان التيار الديني المحافظ يطمح إلى الحصول من الاصلاحيين والقوى الديموقراطية على ما هو أكثر من تنازلات محددة، فيما توجد قوى اصلاحية لا ترضى بتقديم أي تنازل ولا تطالب بما هو اقل من استئصال المحافظين. ووسط هذا الاستقطاب، يقف خاتمي حائراً: روحه مع الاصلاحات الجذرية وقلبه مع حفظ التوازن الذي يجمعه بالمحافظين كي لا ينهار الهيكل على رؤوس الجميع. سامي شور