تحولت الانتخابات البرلمانية الايرانية معتركاً للطروحات السياسية وقضايا الحرية والمشاركة في صنع القرار. وسيكون البرلمان المقبل الذي سيختاره الايرانيون، في شباط فبراير ميزاناً لأحجام القوى والتيارات الاصلاحية والمحافظة والمستقلة، وتشريحاً لبرامجها وآرائها، كما سيمثل استقراء للرأي العام حيال الحدث الايراني الذي ما زال تحت المجهر محلياً واقليمياً ودولياً، لمعرفة مصير الاصلاحات التي يقودها الرئيس محمد خاتمي، وتداعياتها على العلاقات الخارجية لبلاده. من هنا تنبع مشروعية السؤال: لمن ستكون الغلبة؟ ولعل استحقاق "الامساك بإيران المستقبل" في ظل نظام الجمهورية الاسلامية هو الدافع الأول لخوض صُنَّاع القرار الايراني غمار المعترك الانتخابي وليس غريباً ان يكون الرئيس السابق هاشمي رفسنجاني مر بفترة تردد قبل اتخاذ "قراره الصعب" بالترشح، واذا كان كل المؤشرات يشير الى ان رفسنجاني سيتبوأ كُرسي رئاسة البرلمان، فإن ذلك لا ينفي احتمالات اخرى أشار اليها الرئيس السابق عندما اعتبر انه ترشح لتأدية وظيفة "دينية"، وأن إثارة قضية ترؤسه مجلس الشورى منذ الآن، أمر سابق لأوانه، لا يخلو من "ألاعيب صبيانية". ولكن لماذا سلطت كل الاضواء على هذه الشخصية ودورها في المرحلة المقبلة؟ السبب المعلن في هجوم بعض الاطراف الاصلاحية على رفسنجاني، وبالتحديد حزب "جبهة المشاركة"، هو تعارض أولويات الرئيس السابق "الاقتصادية" مع اولويات خاتمي في التنمية السياسية. اما السبب الاكثر اهمية بالنسبة الى هؤلاء فهو أن شخصية رفسنجاني ذات الامتدادات "فوق الفئوية" ستقف حائلاً دون تحقيق نصر مدوٍ على المحافظين، كالذي حصل في انتخابات الرئاسة عام 1997. هذا الواقع قد يكون أبرز اسباب الدعم المطلق الذي قدمه المحافظون لرفسنجاني، وان تناسوا الآن انه كان اهم الذين شاركوا في دعم وصول خاتمي الى الرئاسة. وهذا الدعم هو الذي جعل كثيراً من الفئات الاصلاحية تعلن تأييدها رفسنجاني في المعركة الانتخابية، وما يشكل أحد عوامل الخلاف داخل التيار الاصلاحي، اضافة الى عوامل اخرى مرتبطة بأحزاب اصلاحية باتت توصف بالتشدد. هذا الأمر بدأ يُسبب إحراجاً لخاتمي خصوصاً بعد الحملات الاعلامية والسياسية التي قادها بعض الاطراف الاصلاحية ضد كثير من المؤسسات مثل محكمة رجال الدين في ضوء محاكمة وزير الداخلية السابق عبدالله نوري ومجلس الرقابة الدستورية على خلفية الطعن بأهلية مرشحين. وفيما يأخذ مراقبون على المحافظين استغلال مواقعهم المؤسساتية لمحاصرة الاصلاحيين، يبدو ان خاتمي الذي يدرك هذه الحقيقة، مصمم على حفظ التوازن في مواقفه ولو أثار ذلك امتعاض بعض انصاره. وهو كان اعرب بعد الحكم بسجن عبدالله نوري عن اسفه لحرمان الشعب الايراني من "خدمات رجل كفي" لكنه ركّز في المقابل على ما وصفهُ بالجوانب الايجابية للقضية المتمثلة في محاكمة علنية يُعلن فيها المتهم كُل مواقفه على الملأ. وتؤكد مصادر موثوق بها ان بعض مواقف نوري امام المحكمة تسبب في احراج لشخصيات كبيرة في التيار الاصلاحي، دفعها الى ان تنأى بنفسها عن هذه المواقف، خصوصاً ما تعلق منها بعملية السلام في الشرق الاوسط والعلاقة مع الولاياتالمتحدة. في المشهد المقابل المتعلق بالمحافظين تكتيك المحافظين يظهر الكثير من علامات الاهتزاز، المحكومة بعامل الترقب والحذر، رغم خطوات هجومية لمحاصرة برامج التيار الاصلاحي، بالاستفادة من مكامن القوة التي يتمتع بها المحافظون، بالتحديد في المؤسسات الاقتصادية والإعلامية والقضائية، إضافة إلى البرلمان. لكن الأصوات المعتدلة داخل التيار المحافظ بدأت ترتفع، فالتحذير الذي أطلقه بعض الاوساط العسكرية المحافظة من حدوث "انقلاب" برلماني جاء الرد عليه حازماً من أحد أبرز اقطاب ذلك التيار، الجنرال محسن رضائي القائد السابق ل"الحرس الثوري" والذي اعتبر التحذير من دون معنى. وهناك من يرى ان التيار المحافظ يعيش مخاض "معاودة النظر" في تجربته الطويلة في الحكم، وأن التيار الاصلاحي يعيش "مخاض عدم طغيان الفوز السريع" على "مأسسة" انجازات الاصلاح. هذه المعطيات قد تفسر ظهور احزاب وجمعيات تحمل اسماء الاعتدال والتنمية والاستقلالية، وبالتالي يمكن توقع أهمية الدور الذي ستلعبه، علماً ان مرشد الجمهورية آية الله علي خامنئي حدد للبرلمان المقبل معايير هي "القوة والدين، والثورية والاستقلالية". وكان خامنئي اتخذ موقفين بارزين أحدهما دعمه المطلق خاتمي في مواجهة حملات ابرز الاطراف المحافظة التي اتهمته بالتساهل في السماح ب"إهانة المقدسات"، وثانيهما حملة خامنئي الجمعة الماضي على بعض الاطراف الاصلاحية واتهامها بالعمل ل"هدم آمال الشعب الايراني"، وبالسذاجة حيال "مؤامرات" الادارة الاميركية. لكنه بدا حريصاً على الدعوة الى انتخابات تسجل "ملحمة جماهيرية اكبر من ملحمة الانتخابات الرئاسية"، وهذه الدعوة تعتبر ابرز شعارات الاصلاحيين. كثيرون رأوا ان المرشد يدق ناقوس الخطر من الداخل، لكنهم قرأوا في مواقفه أيضاً تصميماً لدى كبار صُنّاع القرار على ان تأخذ اللعبة السياسية الداخلية أقصى مداها، عبر الاحتكام الى صناديق الاقتراع، وليس الى أي شيء آخر. ويرى بعضهم أن التصعيد في متابعة ملف عمليات الاغتيال التي استهدفت العام الماضي مفكرين وكتاباً، بات دافعاً للحؤول دون تكرار ما حدث، على رغم زجّه في البازار الانتخابي.