حينما نطرح نزار قباني للنقاش يجب ألا ننسى أنه يمثل ظاهرة "قرائية"، بمعنى أن الذي صنع نزار قباني هم نحن كقراء صفقنا له ولشعره، وتجمهرنا حول كل كلمة يقولها، وهذا معناه أن نزار هو صنيعنا نحن كقراء، وأي نقد يوجه لنزار سيكون نقداً لنا نحن ولذائقتنا، ولو افترضنا ان الجمهور العربي قاطع أو اعترض على أشعار قباني في حياته لتغير وضع ذلك الخطاب كاستجابة للضاغط الجماهيري، وهنا نقول إننا شركاء مع الشاعر في كل خطاياه، أو ذنوبه - كما سماها في إحدى قصائده -. هناك عيوب في الخطاب الشعري بعامة وجدت منذ الجاهلية ولم يجر نقدها ولا تعريتها، وجاء نزار ليرث هذه العيوب، ويعززها، أي أنه بدلاً من أن يكون تنويرياً ثورياً تغييرياً راح يعيد النسق المترسخ ويجذره، وشاركناه نحن في هذه المهمة. فالشاعر ظل عنده هو تلك الذات المتعالية والمتفردة التي تمنح نفسها حقوقاً خاصة وتفرد ذاتها في مضادة كاملة للآخر، وفي تعال تام ضد النقد والمساءلة - وعداوة الشعراء بئس المقتنى - كما يقول المتنبي، ويكرر ذلك نزار في دعوته لإقامة قوة ردع بوليسية أدبية لجلد ناقدي الشاعر. هذا كلام كنا نأخذه مأخذاً مجازياً، وكان ذلك سيمر بسلام لولا أنه يتطابق مع النسق الثقافي الفحولي السلطوي الذي يسمح للذات المفردة بأن تتعالى وتتميز وتلغي أول ما تلغي الآخر، وتخلق جماعات من الرعاع والمهمشين من حولها من رعايا الفحل والمصفقين له. وهذا نموذج اجتماعي وسياسي معروف ومكشوف، ولكن الذي ليس مكشوفاً هو أن الشعر على مر العصور أسهم في خلق هذا النسق وفي غرسه، وفي تثبيته، ولا شك في أن نزار قباني مع آخرين كان لهم دور كبير في زمننا هذا في ترسيخ هذه الصورة، ونشترك نحن معهم كقراء لأننا ظللنا نصفق لصورة الشاعر الفحل الأوحد، مستجيبين لدواعي الضاغط النسقي فساهمنا في صناعة طغاتنا مثلما ساهم نزار، من دون وعي من أحد منا. وكذلك لو نظرنا في صورة المرأة لدى نزار، هذه الصورة التي جرى الزعم على أنها مشروع في تحرير الأنوثة...! ولكن أي تحرير هذا...؟ قال نزار مرة إنه حول المرأة من جارية الى وردة، قال ذلك بنشوة صارخة وانتشى معه فيها رجال ونساء كثيرون، من دون أن يعوا أن نزار لم يفعل شيئاً هنا سوى أن حول هذه الكائنة من ملكية الى أخرى مثل التاجر الذي يحول رصيده من مصرف الى مصرف، وتحويل المرأة الى وردة ليس تحريراً لها وإنما هو تحسين للبضاعة فحسب. وهذا حقاً ما فعله شعر نزار قباني في المرأة، إذ ظلت ملكية خاصة للرجل المشتهي وظلت مادة للاشتهاء والتمتع، وطربنا نحن لذلك لأننا نقرأ ونستهلك حسب شروط نسق قديم، يعزز صورة الأنا ويجعلها قطب الكون، ويجعل كل ما عداها ملكاً لها، ويجعل الذات في حال تعال دائم على الآخر مثلما يمجد القوة بمعنى الطغيان، والمرأة عنده إما جارية وإما وردة، لكنها ليست ذاتاً مستقلة، وليست كائناً لها عالمها الخاص. ولم يسهم نزار قط في تحرير عقل المرأة ولا عقل الرجل. وفي كل شعره لا تجد إلا صورة المرأة/ الجسد، وليس المرأة/ العقل، واللغة الشعرية التي اتكأ عليها نزار هي لغة حسية غير عقلانية، ولذا فإنه أسهم في تزييف مشروع التحديث والتنوير - ومثله آخرون. وربما يفاجأ القارئ إذا ذكرت اسم أدونيس كواحد من هؤلاء، وأترك هذه النقطة لمناسبة اخرى أقول فيها بتفصيل - والشق أوسع من الرقعة، وللشعر في حياتنا أدوار خطرة في تشويه الذات وفي شعرنة القيم والرؤية، ونحن كقراء ونقاد شركاء في الإثم وفي المفسدة. والخلاصة هنا أن النقد المدقق في تجربة نزار يكشف أنه يمثل ظاهرة شائعة يصنعها الجميع في إفساد مشاريع التحديث وتزييفها. وقد فصلت القول عن ذلك في دراسة سبق أن نشرتها في الحياة وستصدر في كتاب قريباً إن شاء الله. المهم هو أن أقول هنا إننا في حاجة الى إعادة النظر في ثقافتنا والتعرف على عيوب الشخصية العربية النابعة من النسق الشعري، ونقد رموزنا التي نظن أنها رموز حداثية، وهي غارقة في الظلامية.