البحث في الأنساق هو بحث في الذهنية البشرية ثقافياً وسلوكياً، وكم هو مذهل أن نكتشف كم نحن نسقيون وأن هذه النسقية كانت من أخطر وأدوم الدروس التي نتلقاها في حياتنا كلها منذ مراحلنا الأولى وتستمر معنا، وما نسيت قط ذلك اليوم الذي ظهرت فيه قصيدة (الحب والبترول) لنزار قباني عام 1961وقد كنا في الثانية متوسط وقد أتى بها أستاذنا صالح السمنان، وقرأها علينا في الصف ثم أملاها علينا وكتبناها على أوراق دفاترنا، وكان يمليها علينا من مجلة لعلها الآداب البيروتية، وقد استعارها من الأستاذ عبدالرحمن البطحي - رحم الله الجميع - وكنا فرحين بالقصيدة نرددها ونحفظها ونشيعها بين أناسنا، لقد كان في نفوسنا أشياء وكان النص يؤجج ما في النفوس ويشفي غيظها، وهو يفعل ذلك ولا ريب، وفي القصيدة معان سياسية وتوبيخ قومي أكيد، غير أن نزار قباني وهو يفعل ما يفعله قومياً يرتكب أخطاء نسقية تفسد مقاصده السياسية الناقدة، وهو لم ينتبه لذلك و لا نحن انتبهنا، لقد كان النسق يفعل فعله فينا كلنا دون أن نلحظ ذلك، ولم يكن لدينا من الوعي النقدي الثقافي ما يكفي لكشف لعبة النسق وتحايله على الجميع، واندس القبيح النسقي من داخل الجميل الشعري وألهتنا الجمالية والشعار السياسي عن اللحن الثقافي المشين، وكنا نتشرب هذه العيوب ونعيد إنتاجها ومن ثم نعزز من مفعوليتها. لقد كانت القصيدة تشتمنا نحن كأشخاص وكبشر، وتشتم ثقافتنا وتاريخنا الذاتي وتُعيِّرنا بعيوبنا الخلقية وأمراضنا القدرية وبرموز حياتنا كالجمل والصحراء والخيمة والوشم ثم البترول مثلما عيَّرتنا بأمراضنا كالجدري الذي يأكل سحنات وجوهنا،وهذه عنصرية ثقافية تأتي من التعالي الثقافي العربي على كل ماهو صحراوي وما تحمله الصحراء من سمات وعلامات وخصائص. وكأننا نحن من صنع تلك الظروف وليست قدراً علينا وتاريخاً مكتوباً في بيئتنا. كما جعلت رموزنا عيوباً وقبلنا نحن بذلك وتغنينا مع الشاعر بها. لقد كان نزار قباني غاضباً سياسياً وكنا مثله، والغضب صحيح ومبرر وموضوع القصيدة واقعي وصحيح أيضاً، وهذا ما أغرانا بها حتى ضيع أستاذنا حصة دراسية كاملة لكي يملي علينا النص في عقر دارنا (المعهد العلمي) وكنا نشعر أن النص يتكلم عنا ويسفك غضبنا، ولكن النص يقول: أيا جملاً من الصحراء لم يلجم ويا من يأكل الجدري منك الوجه والمعصم ويقول: ولن نتملك الدنيا بنفطك وامتيازاتك وبالبترول يعبق من عباءاتك... فأين ظهور ناقاتك وأين الوشم فوق يديك أين ثقوب خيماتك أيا متشقق القدمين. تأتي هذه الأبيات وسط أبيات أخرى، والفرق بين هذه الأبيات وباقي القصيدة هو الفرق بين ماهو عنصرية ثقافية منحازة وتهميشية وإقصائية، وبين ماهو شعري وجمالي ونقد سياسي، وما كنا نفرق وقتها بين الاثنين وتشربنا النسقية بشفاعة الجمالية والنقد السياسي. لم يكن نزار يقصد أن يشتم الثقافة والناس البسطاء، وكل ما في وعيه هو أنه يكتب نصاً سياسياً معارضاً وناقداً لسلوكيات نرفضها نحن قبل أن يرفضها هو، وعدم الرضا عن سلوك شاذ هو ما برر كتابة القصيدة وهو ما شفع لها بالترحال والتنقل من بين صفحات المجلات إلى دفاتر طلاب في السنة الثانية المتوسطة ثم إلى رؤوس الحفظة والرواة. ولكن... ومع كلمة لكن تأتي أسئلة الوعي النقدي، وهو ما يمكن أن يكشف لنا اللعبة النسقية حيث تراوح النص بين هجاء سياسي لسلوك شاذ، وهو أمر صحيح، وبين انحراف نصوصي يفضي إلى عنصرية ثقافية حيث جرى شتم الرمز الثقافي الأصلي لبيئة إنسانية كاملة ولتاريخ مديد، حتى صارت ملامح البشر وظروفهم الحياتية مادة للسخرية والشتم. وهذا يدفع بنا إلى سؤال عريض حول الموقع الذهني للجزيرة العربية في الذاكرة الثقافية عربياً وأوروبياً، وهو موقف متعدد الصور ومتضادها، ففي حين كانت الجزيرة هي المرجع الثقافي للأمة عبر الاحتجاج بلغتها وبلغة باديتها حتى صار ذلك هو المعجم النحوي والدلالي للغة الحضارة في بغداد وهو الحجة المعتمدة، ولكن جاور ذلك تياران حضريان أحدهما شعوبي يحقر من العرب وآخر ثقافي يتندر على ثقافة البادية وسلوكيات الأعراب، وهو يملأ كتب العباسيين حول نوادر الأعراب، والأعراب في تلك الكتب يلعبون دورين متناقضين أحدهما يمثل الحجة اللغوية كمرجعية أولى وكشاهد حاسم، والآخر تَندُّري يعطي صورة عن بدائية الأعرابي وفطريته حتى ليكون كائناً فكاهياً أكثر مما هو كائن ثقافي. ولم تغب هذه الصور بازدواجيتها الايجابية حيناً والسلبية أحياناً أكثر حتى اليوم، وكلمات من مثل أعرابي وبدوي وصحراوي هي من المترادفات الثقافية الشائعة في كل الخطابات بحمولات متضاربة بين المديح والتهكم حتى لم تعد نقية أبداً وصار البعد العنصري فيها لازماً دلالياً وقسرياً فيها، وحينما جاء النفط جاءت مرادفات تصاحب تلك من مثل خليجي وشيوخ النفط وبترو دولار - وهو من تعبيرات فؤاد زكريا -، والفقه البدوي - كما قال الشيخ محمد الغزالي رحمه الله -. وهذه الصيغ التعبيرية ليست مصطلحات كما قد نتوهم ولكنها مترادفات لفظية معناها الصحيح هو: الدولار البدوي والإسلام البدوي كما الفقه البدوي، والذي جرى هنا أنهم ينسبون، دون وعي - إلى البادية كل أنواع الخروقات الثقافية حتى لتصير السمات البيئية الثقافية والتاريخية تصير جذوراً تشخيصية وإذا كنت بدوياً صار مالك بدوياً وصار فكرك بدوياً و صرت كائناً ثقافياً محكوماً عليه بحمل العلل السلوكية قسرياً وإذا حصلت انتكاسات فكرية أو سياسية تكون البداوة هي السبب - حسب التفسير العنصري هنا - وهو تفسير يلغي الأسباب الموضوعية ويقوم على نسيان السيرورة التاريخية ودور البنى الكلية لحضارات المدينة من نشوء الفلسفات والأفكار المتعدد منها والمتطرف والمنفتح والمنغلق بدءاً من جمهورية أفلاطون وهي النص الفحولي العنصري المغلق ضد النساء والعبيد والذي ينزع الإنسانية عن كل ماهو آخر وأجنبي، وانتهاء بنازيات أوربا وعنصريات الاستعمار، وهو ما يغيب عن التحليل هنا تحت ضاغط العنصرية الثقافية التي تنسب للمختلف عنك كل الشرور وتخص نفسها بكل الحسنات. هذه عبارات ترد وسط خطابات فكرية ونقدية وفقهية مثلها مثل قصيدة نزار، والجامع بينها كلها هي أنها ترد في سياق الجدل الثقافي، وهو ينشأ في الأصل عن سبب صحيح ويقوم على حوار افتراضي مطلوب لكنه ما يلبث أن يجنح إلى تحميل الفكر بحمولات موروثة ومجلوبة من المخزون النسقي الغائر في النفوس فتأتي صيغة الفقه البدوي وصيغة البترو دولار (الدولار البدوي) وإسلام النفط (الإسلام البدوي) من رجال كبار حقاً، اثنان منهم اشتركا في الإقامة سنوات في دول الخليج وشاركا أهل البلاد حياتهم ومشاعرهم، ومع هذا ظل الشعور العميق عندهما معاً هو شعور ينطلق من تكوين أولي يؤسس لتفريق عنصري بين حضارة مدنية ترى لنفسها التفوق وبين بيئة صحراوية انغرس في ذهن كل من الثلاثة معنى قديم بدونية هذه البيئة حتى إذا ما جاء النفط فإنه يتحول إلى جمل جديد وإلى معنى صحراوي مستمر يعين ويستعين به الثلاثة على تدشين عنصرية جديدة ترث العنصرية التمييزية القديمة، وإلا ما العلاقة بين البادية والفقه ونحن نعرف تاريخياً أن الفقه المتشدد ولد في أحضان الأنهار والمدن الحديثة والبيئات الفلسفية المبكرة في بغداد وفي دمشق، كما أن الدولارات ودورها في اللعبة السياسية لم تكن من اختراعات النفط ولا هي وليدة الزمن النفطي، ويكفي أن نتذكر تواريخ الأمم وسياساتها منذ أول ديموقراطية إغريقية إلى آخر إمبراطوية معاصرة، ويكفي أن الدولار أمريكي وهويته السياسية مصنوعة في بلد الحضارة والتكنولوجيا، وهذا لا يعطي مبرراً علمياً للمصطلح ويعزز فقط البعد العنصري النسقي لهذا اللحن الثقافي، ويجعل الفكر هنا تعبيرياً وليس اصطلاحياً مثله مثل النص الشعري حيث يتشعرن. وفي حالة الأمثلة الثلاثة نلحظ وقوعهم كلهم في مأزقين منهجيين هما: 1- الانطلاق من منطق وهمي يفترض أن المختلف عما يرونه هو بالضرورة تخلف وتقليدية. 2- أن البداوة في تصورهم هي في كنهها عنصر رجعي غير تقدمي، وكلما حصل سلوك متخلف حسب نظرة هؤلاء فإنه سيوصف بوصف بدوي، انطلاقاً من نظرتهم للأشياء بهذه المعايير. إن العنصرية الثقافية ذات وجوه متعددة وهي عمياء بالضرورة لأنها لا تدرك خطأها، وهناك دراسات حديثة تثبت أن التشدد والتطرف إلى حد التكفير هو شأن ثقافي عام له شواهد خطيرة لدى كل المذاهب والفرق والطوائف دون استثناء وليس محصوراً في حد جغرافي ولا تاريخي ولا عقدي، وهذا ما كان يتطلب من الباحثين النظر في حركة الأنساق الثقافية مع الاحتراز من الوقوع في مصيدة الهويات البيئية وهو مأزق منهجي يجعل البحث مشروعاً في الأخطاء في حين يطمح لأن يكون مشروعاً في النقد والكشف. وفي المقالة التالية - إن شاء الله - مزيد من القول في مسألة العنصرية الثقافية.